كثير من سائقي الحافلات والمركبات العامة يتحكمون في أمزجة الركاب وأذواقهم دون مراعاة لمشاعرهم وأحاسيسهم فمثلاً قد «يشغل» شريط كاسيت لاغنيات هابطة تتنافى مع القيم والسلوك والأخلاقيات أو تحمل موسيقى صاخبة بآلة الأورغن الذي يشد الأعصاب ويرهقها خاصة إذا كان مرتفع الصوت وإذا طلبت منه تخفيضه ثار وغضب وامتعض وكأن لسان حاله يقول «العاجبو عاجبو وما عاجبو ينزل» وبينما كنت أستغل حافلة في نهار قائظ لمحت سائقها يعبث في أزرار جهاز التسجيل فأعترتني نوبة من الهم والغم والحزن والخوف لأني تأكدت أن رأسي سيتصدع ويتفجر إذا كان الشريط من النوع الذي وصفته، لكن عناية الله أرادت أن يكون هذا السائق من ذوي الذوق الرفيع والمزاج الرايق والإستماع الراقي والعالي «الجودة» إذ أن الشريط المراد «تلعيبه» كان بمثابة إهداء لراكبي الحافلة من الذين يتعشقون النغم الجميل والطرب الأصيل، فكان يحوي أُغنيات خالدات للفنان والمطرب الكبير التاج مصطفى حيث كان يشدو بعدد من الروائع اختيرت بعناية فائقة من شعراء مجيدين ومن أميز ما تضمن هذا الشريط أغنية «الملهمة» الذي نظم كلماتها الشاعر الفذ عبد الرحمن الريح وقد ربطتهما علائق ووشائج من الإلفة والحميمية والتواصل الجميل إذ كانا يتجاوران في السكن في حي العرب العريق الذي اشتهر بالفن والطرب والأدب والثقافة والأصالة والجمال. ينتمي إليه العديد من الأُدباء والشعراء والمطربين وايضاً الرياضيين و«الملهمة» عمل كبير ومتميز من حيث الكلمة واللحن والأداء الذي بلغ ذروة الإبداع والشفافية التي تسمو بالمتلقي إلى عوالم من السحر والخيال المجنح تقول بعض مقاطعها: نور العيون إنتي الأمل أنا في أشتياق كيف العمل إنتي الأمل إنتي الرجاء والفرحة يانور الدُجى أضمن لي عمري النجاء لو طيف خيالك لي جاء انا في انتظارك لم أزل يا ملهمة شعر الغزل وتنساب «الملهمة» بكل الرقة والعزوبة والإفتتان الذي إنداح في نفوس الراكبين مما حدا ببعضهم أن يتمايل وينتشىء متعة وطرباً وآخرون أطرقوا وأنصتوا لمفرداتها الفخيمة عيوني يا أُخت السهر في حبك أعياها السهر في جسمي تأثيرك ظهر لو كنا مجتمعين سوا ماكان على قلبي احتوى حر النوى ونار الجوى وظلم الهوى حتى نأتي إلى المقطع الأخير الذي سكب فيه حرارة أنفاسه وعمق وجدانه وصدق عاطفته وتطلعاته وأمنياته.. آمالي في الدنيا الجديدة تتحقق أحلامي العديدة بعد الجفاء ألقى الصفاء وكل الوفاء وبعد هذه «المُلهمة» التي نزلت على راكبي الحافلة برداً وسلاماً وعملت على تلطيف الجو وتخفيف حدة الحرارة وددت إعادتها مرة ثانية وإذا بالسائق يدير شريطاً آخر وكان مفاجأة فنية غير متوقعة حيث كان للفنان د. عبد الكريم الكابلي في أُغنية الجندول او «كيلوباترا» كما تُعرف تلك اللوحة المعبرة التي صاغ كلماتها الشاعر المصري علي محمود طه المهندس وهو من الشعراء المعاصرين مرهف الإحساس متوثب الحركة مفرداته تموج بالفخامة والعظمة ورقة الديباجة يتسم شعره«بالرومانسية» وهي إصطلاح أدبي عصري أخذ من الفرنجة ومعناها الوجدانية او وجدانية الأسلوب ، وتعود مناسبة «كليوباترا» عندما قام بزيارة إلى مدينة فينيسيا الحالمة التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وصادف ذلك ليالي الكرنفال المشهورة التي يحتفل بها الفينيسيون فينطلقون جماعات كل منها في «جندول» وهم يغنون ويمرحون فتغنى معهم أين من عيني هاتيك المجالي يا عروس البحر يا حلم الخيال أين عشاقك سُمار الليالي أين من واديك يا مهد الجمال موكب الغيد وعيد الكرنفال وسُرى الجندول في عرض القتال وتنطلق «كيلوباترا» بكل الألق والحسن والرواء بين كأس يشتهى الكرم خمرة وحبيب يتمنى الكأس تغرة يوم التقت به عيني أول مرة فعرفت الحب من أول نظرة والقصيدة متعددة المقاطع والمفاتن والجماليات آه لو كنت معي تختال عبره بشراع تسبح الأنجم إثره حيث يروي الموج في أرخم نبرة حلم ليل من ليالي كيلوباترا وله مؤلفات ومنظومات رصينة المعنى تباينت موضوعاتها ومناسباتها وبذات النهج تقتطف أبياتاً من قطعة شعرية اختار لها عنوان «الموسيقية العمياء» تحكي عن فتاة تفيض فتنة وأنوثة كانت عضواً في فرقة موسيقية فجذبته بعزفها البارع على آلة «القيثار» بالرغم من أنها كفيفة البصر وبينما هو غارق في مظاهر البهجة والدهشة والتأثر أستوحى هذه المفردات: إذا ما طاف بالأرض شاعاع الكوكب الفضي إذا ما أنت الريح وجاش البرق بالومض إذا ما فتح الفجر عيون النرجس الغض بكيت الزهرة تبكي بدمع غير مرفض ومن غرائب الصدف أن المطرب التاج مصطفى عندما تغنى بأُغنية «عازف الأوتار» للشاعر الفحل حسين بازرعة يقال بإنها نظمت في فتاة هندية بمدينة بورتسودان كانت باهرة الجمال تجيد العزف على آلة «البيانو» بأناملها الرقيقة ومهارتها الفائقة فأعجب بها شاعرنا وكان ميلاد الأُغنية ياعازف الأوتار مالك على قلبي أشعلت فيهو النار من جمرة الوجل التحية لهذا السائق «الفنان» الذي إستطاع أن يُسرج قناديل الفرح والحبور في دواخل ركابه حيث اصطحبهم «بدون جوازات سفر» في رحلة فنية من حي العرب بأم درمان إلى مدينة فينسيا زادها الحب والجمال والسلام