[email protected] هل رأيتموني وانا البس الرداء القصير ذو اللون الأخضر الزرعي هكذا كان اسم هذا اللون في ذلك الزمان والذي ربما تحول الي لون فوشي أو كوبي أو مسترضى أو الحاجة زينب لا ادري . هل رأيتموني اسابق الريح بدراجتي الهوائية في ثمانينيات القرن الماضي متوجهاً الي مدرسة امدرمان الأميرية التي تأسست سنة 1902 لأدرك طابور الصباح (اجنن وانا بالرداء) حينها لم يكن يشغل بالي وجبة الفطور ولا رسوم الكتب المدرسية هل تصدقون ماذا كان يشغل بالي حينها كنت دائم التفكير في نهاية اليوم الدراسي وأين سأذهب اليوم مع الأصدقاء فقد كان لنا برنامج ثابت لا يتعدى ثلاثة احتمالات اما ان نذهب الي شاطئ النيل أو الي سينما قاعة الصداقة أو الي مكتبة البشير الريح العامة وهي مكتبة ضخمة تقع في الركن الجنوبي الشرقي لمباني البلدية أو محافظة امدرمان كنا نؤمها جماعات وفرادى وهي مكان رهيب فسيح يعلوه الوقار لا تكاد تسمع فيه الا همساً ارجو من القارئ الكريم ان يعود قليلاً لبداية المقال ويفكر في عمري حينها الذي كان يعادل في جيل اليوم طلاب السنة السابعة أو الثامنة الابتدائية الذين لو فاتهم الترحيل المدرسي يعتبر يومهم هذا اجازة عن الدراسة , في ذلكم السن انا كنت مهموماً بقضايا الثقافة قرأت كثيراً في متون الكتب من الأدب العربي والانجليزي والشعر والدين والثقافة العامة كما لم يكن يفوتني حينها أن امر علي صحف اليوم التي كانت تجلبها ادارة المكتبة بالمجان الي روادها , وحتى في دروب العشق والهمس العاطفي الذي كنا نتعاطاه مع الجنس اللطيف كان الفيصل في شروط الاعجاب بك طلاقة الحديث ومكنون الثقافة الذي تحمله بين جنبيك اذ لا يمكن ان تنتهي الجلسة الا بعد ذكر ما شاء الله لك من اسماء الكتب التي اطلعت عليها وتتمني من عشيقتك ان تطلع عليها . عندما اجلس الي شباب اليوم من الجيل الذين تسلقوا عتبات السلم الثماني وهم الان في وظائف مرموقة اشعر وكأني انتمي الي كوكب اخر وأكون سيد المجلس بلا منازع ليس بحكم السن وحدها ولكن لعدم وجود منافسين في لباقة الحديث وانطلاق اللسان واشعر انه لا حاجة لمزيد من الثقافة فلا خوف علي زعامة المجالس فرأسي يكاد ينفجر من الثقافة فأنا خبير بأيام العرب والأدب الجاهلي وخبير بالأمثال السودانية وخبير بالبلدان والعواصم والأنساب ونوع العملة ورؤساء الدول وأعرف اسباب قيام الحرب العالمية الأولي والثانية وأسباب تأخر الثالثة وقصة تكوين حلف شمال الاطلسي وقيام الاممالمتحدة وأسماء ضحايا هيروشيما ونقزاكي وتأسيس الولاياتالمتحدة الاميريكية واعرف قصة اختلاط الحابل بالنابل وحتى في الدين الذي هو واجب معرفته اعرف سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم وبعض التفاسير للقران الكريم واستزدت بأسباب مقتل سيدنا عثمان ومن الذي قتله وكيفية قتله رضي الله عنه وقصة ظلم الحسن والحسين بعد مقتل علي رضي الله عنه وتأسيس المذهب الشيعي وقيام جامعة الدول العربية . لا اقول هذا استعراضاً لمكنون الثقافة لدي ولكني اسرد كل هذا وفي النفس حسرة ان قليل من جيل اليوم من يعرف قليلاً مما ذكرت حتى انه وفي نقاش لي مع احدى طالباتي في الجامعة استشهدت في معرض حديثها وقالت المثل بقول (الحلال بين والحرام بين) فكدت ان اتقيأ حسرة وأشياء تجعلك تنعى حالة الثقافة المتردية في يومنا هذا . السؤال الذي اخشى ان يسألني له احد ابناء جيل اليوم وأتهرب منه دائماً هو وماذا يعني انك مثقف ؟ سؤال وجيه لا املك الاجابة عليه وفات علي ان أساله الاستاذ عبد الكريم مسؤول الجمعية الثقافية بمدرسة امدرمان الاميرية فأنا مثقف اتحدث في كل موضوع بطلاقة دون توقف اكتب في كل شئ حتى اشفق علي الاقلام والصحف ولكن في النفس حسرة فعالم اليوم ما عاد مكاناً ملائماً لهرطقات المثقفاتية والرؤوس التي تنؤ بالثقافة ولماذا يشغل شباب اليوم باله بهذه الترهات ما دام بكبسة زر علي الكمبيوتر يستطيع ان يعرف أي شئ عن أي شئ ويستخدمه في بحث التخرج أو ندوة أو نقاشاً ثم يرميه من خلفه مما جعلنا في وادي وشباب اليوم في وادي اخر . هل اضعت وقتي بمعرفة الاشياء سالفة الذكر وغرقت في اوحال الفقر والفاقة دون التفكير في مشروع أو مصدر يدر علي المال يغنيني عن الوظيفة اللعينة هل كل شئ ذو صلة بالثقافة الاختيارية اصبح من الماضي غريب الوجه واليد واللسان . صدقوني صرت في حيرة من امري وبعد هذا العمر الذي اضعته بيت صفحات الكتب هل الثقافة هذه ذات فائدة اذا وزنت بميزان اليوم الذي اصبحت فيه المادة سيدة الموقف مع العلم ان الذين لا يشغلون بالهم بترهات الثقافة هذه امورهم عال العال فهم يتزوجون مثلنا ويتكاثرون ويملكون المال والسيارات الفارهة وأرصدة البنوك والعمارات وأسباب الراحة والدعة ؟ اين انت يا استاذ عبدا لكريم لتجيبني علي هذه الاسئلة هل تسمعني هل لا زلت حياً هل تذكر عندما كنت تزين لنا امور الثقافة وتحثنا عليها كم تمنيت ان التقيك لأعرف ما فعلت الثقافة بك وأبثك اشجاني سلام عليك.