وكعادتها أفرغت الخرطوم مغنيها على قارعة المسارح أمسية رأس السنة، وهي تتمتع بتلقائية سكانها الفرحين والمتوزعين بين مدنها الثلاث، كأنها تفرغ أحمال عاماً كاملا من الحزن والإحتقان، وتستبدل ثوبها الذي غبرته أتربة الواقع الاقتصادي بثوب ٍ جديد من السعد، لتستقبل الجديد من التقويم بشكل وأزياء زاهية ومفارغة من هواء العكننة والوجع. جماهير خرافية خرج سكان العاصمة بحثاً عن السعادة ومن يحبون من المغنين، وتبارى الناس على الذهاب للمسارح والصالات للاحتفال بالعام الجديد ربما ولتوديع العام الفائت ربما ، أو لكسر سنة من الملل قد يجوز، وتفاوت الحضور من مكان ٍ إلى آخر وتراوح العدد من مغن ٍ إلى الثاني ، لكن الملاحظ أن غالبية الأماكن شهدت كثافة عالية في الحضور. الفنان محمد الأمين كان الأعلى جماهيرية، حيث ضاقت مدرجات مسرح نادي الضباط بما رحبت ، وهي تستقبل التدافع الجماهيري العالي، والجمهور الكثيف الذي كان واقفاً في الممرات عندما إمتلأت المقاعد ، بل وتعداه الأمر إلى إمتلاء حوائط المكان بالشباب الذي جلس ووقف عليها راقصاً ومصفقاً للمغني الكبير. فالآلآف المؤلفة التي أتت لتقضي ليلتها مع أبو اللمين لم يجعلها المكان الذي جاش تنسحب أو تعود أدراجها، بل أصرت وجلست واستمعت له وهو يردد ما شاء من غناء ٍ ولحن ٍ جميل. الفنان الكبير أبو عركي البخيت كان الثاني من حيث كثافة الحضور فباحة المسرح القومي بأمدرمان تغطت بالناس الذين حتى أنك لا تستطيع الإنحناء أو الإلتفات إن دعت الحاجة، ولم يكن للإبرة مكاناً في باحة المكان، الإزدحام الأعداد الكبير التي جاءت من أنحاء مختلفة من السودان تقدمتها أسرة الفنان التي تقاسمت برغم عددها الكبير مجموعة مقاعد معدودة، والجمهور المندفع الذي لم يستطع المنظمون السيطرة عليه في أحايين كثيرة كان يملأ جنبات المسرح ويحتضن معشوقه ويبادله التحايا والعناق (ويقالدو). مجموعة عقد الجلاد الموسيقية كانت أيضاً في ركب الحضور الجماهيرية العالية والكثيفة، لكن إتساع المكان (إستاد ود نوباوي) وتوزع الجمهور في أماكن بعيدة وتنقله داخل المكان لم يجعلنا نستطيع أن نقرأ بشكل واضح تقديرات شبه دقيقة للاعداد الحقيقية لكنا من الهتافات العالية وكمية الناس المنتشرة يمكن أن نراهن على أن عقد الجلاد إن لم تكن صاحبة أعلى حضور فبلا شك هي الثانية أو الثالثة. ومجموعة العقد التي كان الأغلب الأعم من جمهورها من الشباب كما هي العادة تفوقت وكانت تدير مشرع حفلها هذا بنجاح تام وهي تختار هذا المكان المتسع لتجري إحتفالها فيه. الفنانة نانسي عجاج ايضاً بجماهيريتها العالية كانت حضوراً في قائمة الأعلى حضوراً، وهي تغني على مسرح صالة (برستيج) وسط أعداد كبيرة من محبيها ومعجبيها، ونافست الكبار. تذكرة عالية قيمة مشاهدة الحفلات تفاوتت بطريقة ملفتة وكبير ما بين العالية جداً إلى المتوسطة إلى المعقولة، ولم تكن ترتكز على مقياس معين من حيث عدد جمهور الفنان، وقيمته الفنية، بل إعتمدت على مقاييس أخرى كالظرف الأسري أو الظرف البيئي ( الشتاء) أو شكل الدعوة في حال الحفلات التي أرفقت معها دعوات عشاء ومثل ذلك. الحفلات التي تخطت قيمتها المئتين جنيه هي حفل الفنانة نانسي عجاج -بصالة ( برستيج) في بري- والتي غنت لوحدها ثلاثة فواصل غنائية بجانب فرقة (تيراب الكوميديا) بجانب العشاء الفاخر كما كتب على التذاكر. صالة (إسبارك سيتي) كانت قيمة الدخول إليه ايضاً قد تخطت هذا الحاجز، والمعروف أن هذا الحفل أحياه الثلاثي صلاح بن البادية وإنصاف مدني وشريف الفحيل، بجانب تيراب الكوميديا. أيضاً حفل الفنان حمد الريح واحمد الصادق تخطى حاجز المئتين جنيه وهو الذي أقيم بمطعم الحوش بأمدرمان، وتغنى فيه الفنانان حمد الريح وأحمد الصادق. أما صالة المعلم فقد كانت قيمة تذكرتها مئتي جنيه وهو الحفل الذي كانت فيه إنصاف وحسين الصادق وتيراب الكوميديا. جمالية ملامح إنسانية وجمالية عالية وراقية شهدتها حفلات رأس السنة هذا العام وتبادل العديد من الفنانبن في إذكاء روح الوطنية على المناسبة التي تصادف ليلة إستقلال السودان في ذكراه ال(58)، وكانت العديد من المسارح إحياء الذكرى الوطنية في إفتخار وطني ٍ لافت. مجموعة عقد الجلاد قامت في تمام الثانية عشر مباشرة ً بغناء النشيد الوطني السوداني وردده الحضور الشبابي الكثيف في حالة يقشعر لها الأبدان وتبادل الحضور الدموع والتهاني، ومن ثم تغنت الفرقة بأغنية الكبير خليل فرح (عازة في هواك) الفنان الكبير محمد الأمين وهو موشح بوسام الفنون واعتراف الدولة له بالفعل الجميل والخدمة الفنية الطويلة الممتازة، أوقف الغناء عند انتصاف الليل وغنى وردد معه الجمهور النشيد الوطني في حالة وصفت بالمهيبة جرت لها الدموع ، ومن ثم ترك المايكروفون للجمهور ليتغنى بلن ننسى اياماً مضت لن ننسى ذكراها، قبل أن يكرر فعلته النبيلة التي قدمها في القصر الجمهوري بداية الأمسية وتغنى في توزيع موسيقي جديد ومزج فريد لاغنيتي الكبيرين خليل فرح ومحمد وردي ( عازة في هواك .. اليوم نرفع راية استقلالنا) مما أصاب المكان بحمى وطنية راقية واحساس بالوطن منقطع النظير. المناسبة برغم أنها كانت في نهاية عام شهد الكثير من الأحزان والفقد إلا أنها كانت متنفساً جيداً للأسر السودانية ، ومكمناً للفرح والسعد استفاد منه الشعب السوداني خير استفادة وأوقد شمعة جديدة في عمر الناس والبلاد بكل فرح وسرور. وتغنى الناس في ليلتهم هذه للوطن بشموخ وغباء وعزة وتعالى وفي وطنية محسودة من قبل كل الأعوام السابقات، وتغنوا للحبيبة بعشق وغرام خرافي وتبادلوا قبلات التهاني السكري، وتغنوا للقيم الإنسانية برقي وعلم ودراية أيدت وجودهم كشعب متمسك بقيمه ، ورسخت لمفهوم التعليم الفطري لهذا الشعب.