ادعاءان كاذبان، أولهما ما يقول به المعارضون في السودان، إن الحركة الإسلامية السودانية وحدها التي فتنت عضويتها السلطة دون سائر الكيانات السياسية الأخرى، وقد يدخلون معها بعض الحركات الإسلامية الأخرى في المنطقة، والثاني ما يقوله الإسلاميون وينفون به أية شبهة صراع حول السلطة بين عضوية الحركة، ومنه ما يقول به الحاكمون اليوم إن التغييرات الأخيرة لا يقف وراءها خلاف ولا نزاع حول السلطة، وما يقول به الإصلاحيون -وأعني الدكتور غازي صلاح الدين ومجموعته- ويزعمون بأن خلافهم حول المنهج والسياسات، وليس السلطة. وما قال به الشعبيون قديماً حينما وقعت المفاصلة، وروَّجوا به بأن اختلافهم مع الرئيس ومجموعة القصر، كان حول المنهج وليس السلطة. والزعم الأول بأن إسلاميي السودان والحركات الإسلامية الحديثة الأخرى، وحدهم من بين المسلمين على مر العصور والتاريخ الذين فتنتهم السلطة، يكذبه التاريخ الثابت. ولا أتفق مع صديقنا الراحل المقيم الشريف زين العابدين الهندي بأن فتنة السلطة بدأت منذ أن دخل المسلمون سقيفة بني ساعدة لاختيار الخليفة الأول للمسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الفتنة بدأت مع بداية الخلق البشري، ومنذ أن كانت الخليقة شخصان فقط، سيدنا آدم عليه السلام، وزوجته حواء عندما كانا في الجنة يأكل منها رغداً حيثما شاء ولايجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى. فوسوس إليه الشيطان«قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى». وتلك كانت الفتنة الأولى، ومنها تداعت الفتن. ويهمني في هذا المقام أن نقرأ ما يجري في صفوف الحكومة والمؤتمر الوطني والحركة الإسلامية على حقيقته دون تعامٍ يخفي الحقيقة ولا ينكرها، وفي ذهني التجربة الأولى التي قادت الى الانشقاق الأول في صفوف المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية في العام 1999م فيما عُرف بالمفاصلة. لقد ظهرت بوادر خلاف حول الحكم والسلطان قبل انفجار الخلاف داخل المؤتمر الوطني، وقبل مذكرة العشرة وكان للخلاف اتجاهان. الأول في شأن إبعاد العسكريين وتحجيمهم لصالح المدنيين، وكان الدكتور الترابي ومن معه يسعون الى تقصير الظل العسكري في الحكومة عبر إجراءات مختلفة. وكان الرئيس البشير يرى غير ما يرى هؤلاء، ثم دخل مظهر ثانٍ وهو إعادة التعددية الحزبية، وبينما كان الدكتور الترابي ومناصروه يعتبرون ذلك تطوراً طبيعياً للنظام، رآه الرافضون محاولة لتمكين المدنيين على حساب العسكريين، وتعزز ذلك بدخول الدكتور الترابي الساحة السياسية بشخصه عبر موقعين مهمين احتلاهما رئاسة البرلمان، والأمانة العامة للمؤتمر الوطني، ومحاولته قيادة معركته عبر هذين الموقعين المهمين، فعبر البرلمان سعى لمحاصرة الحكومة من خلال التشريعات والقوانين، وكان أشهرها مشروع إقرار رئيس لمجلس الوزراء، وإلغاء تعيين رئيس الجمهورية لولاة الولايات، ليصير انتخابهم مباشرة من الشعب، وكان الرئيس يرى أن الوقت غير مناسب لذلك، فضلاً عن ظهور النية الواضحة في هذه التشريعات لتلقيص سلطات رئيس الجمهورية والحد منها. أما بالنسبة للحزب الذي صار الدكتور الترابي أميناً عاماً له، فسعى لتأكيد سلطانه على الجهاز التنفيذي، وكانت أجهزة الحزب تتخذ إجراءات وسياسات تعمل على إلزام الحكومة بها، وبعضها متعلق بشؤون تفصيلية وهو ما كان يراه الحكامون تعدياً على سلطاتهم، وهم يرون أن الحزب يضع سياسات وموجهات عامة، وتقوم الأجهزة المختصة في الدولة بعملها في إطار هذه السياسات والموجهات، ويردون على ما يقول به الحزب من حاكمية، أن الحزب يحكم بحكومته التنفيذية وليس بأمانته العامة. لم يخفِ الرئيس البشير رفضه وتبرُّمه من هذه السياسات الحزبية التي كان يقودها الدكتور الترابي، إلا أن نائبه الأول الأستاذ علي عثمان محمد طه كان يسعى للموازنة رغم أنه كان واضحاً مناصرته للرئيس البشير وهذا ما لم يكن يعجب الدكتور الترابي والذين يناصرونه، إلا أن إعلام الحركة الإسلامية كان يصر على نفي أي خلاف بين الترابي وعلي عثمان، وكنت من الذين يروِّجون لذلك ولا زلت أذكر مقالاً كتبته في ذاك الحين لنفي وجود خلاف بين الشيخين الترابي وطه، وأوردت فيه طرفة كان يتداولها الناس على تلك الأيام تقول إن مذيعاً سأل الدكتور الترابي عن أغنيته المفضلة، قال«متين يا علي تكبر تشيل حملي». ولما سُئل الأستاذ علي عثمان عن أغنيته المفضلة، كانت إجابته«البريد الشيخ أنا يا ناس بريدو». وظللنا على ذلك الحال حتي بعد ظهور مذكرة العشرة والتي لم يكن علي عثمان من الموقِّعين عليها، وهي كانت أول تعبير قوي عن رفض سياسات الأمين العام الدكتور حسن الترابي. تعامل الدكتور الترابي مع مذكرة العشرة بهدوء شديد فرضخ لمطالب العشرة التي أجازتها الشورى، ولكنه بدأ يعد العدة لتوجيه ضربة قاسية لأصحاب المذكرة وكل الذين يقفون معهم، وكان أصحاب المذكرة يعبِّرون عن موقف الحكومة والحاكمين من الحزب وقيادته، فبدأ الدكتور الترابي حشداً وتعبئة وسط القواعد لتقول كلمتها في المؤتمر العام وهو المؤتمر الذي حشد له عشرة آلاف من كل أنحاء السودان المختلفة ومن خارجه، وأذكر أني أجريت حواراً صحافياً مع الدكتور الترابي في مكتبه بالمجلس الوطني سألته فيه عن كل القضايا الخلافية والحلول المرتقبة، ونشر هذا الحوار في صفحتي الوسط في صحيفة أخبار اليوم السودانية في يوم انعقاد المؤتمر العام للمؤتمر الوطني، وقال الترابي في ذاك الحوار إن الكلمة الفصل في كل المسائل الخلافية للمؤتمر العام. ولأن الدكتور الترابي ومجموعته كانوا قد أحكموا الإعداد والترتيب للمؤتمر العام، أسقطوا كل الذين وقَّعوا على مذكرة العشرة ولم يدخل أحد منهم مجلس الشورى ناهيك عن المكتب القيادي، ومنهم قيادات تاريخية وفاعلة في الحزب والدولة مثل البروفيسور إبراهيم أحمد عمر، والمرحوم الدكتور مجذوب الخليفة والدكتور غازي صلاح الدين. بعد ذلك اتخذ الخلاف شكلاً آخر وصار أقرب الى المواجهة، وكانت قمة المواجهة عندما شرع المجلس الوطني في اتخاذ قراراً بإجازة التعديلات الدستورية والتي كان يرفضها الرئيس، ودفع الرئيس بمذكرة الى رئيس البرلمان يطلب منه تأجيل مناقشة التعديلات الدستورية، فرفع الدكتور الترابي مذكرة رئيس الجمهورية بطرفي إصبعين من أصابع يده اليمنى قائلاً «وصلتني هذه الورقة من الأخ الرئيس يطلب تأجيل مناقشة التعديلات الدستورية، لكننا سوف نمضي في مناقشتها». ثم قذف بها على المنضدة ومضى في إجراءات النقاش، وكأن شيئاً لم يكن. فلجأ الرئيس الى قانون الطواريء وحلَّ المجلس الوطني، ودخلت المواجهة مرحلة أخرى. وأذكر عندما اجتمع الرئيس في القيادة العامة ببعض القيادات السياسية والإعلامية لتنويرهم بالأحداث، قال له الشيخ يس عمر الإمام عليه رحمة الله، إن هذه الإجراءات لاتسندها شرعية دستورية، فردَّ عليه الرئيس«الليلة يا يس الشرعية للبندقية ما للقوانين الدستورية»! ومعلومة الإجراءات التي تلاحقت بعد ذلك وأدت الى إقصاء الدكتور الترابي عن الأمانة العامة للحزب أيضاً، فخرج ومعه آخرون وشكلوا حزب المؤتمر الشعبي. لم يوقف خروج الدكتور الترابي ومجموعته من المؤتمر الوطني والحكومة الصراع داخل الحزب وأجهزة الدولة، فذات الذين قادوا المعركة ضد الدكتور الترابي وكانوا على رأس قائمة العشرة بدأوا يقودون معركة أخرى ضد الأستاذ علي عثمان محمد طه. فبرغم أن علي عثمان ناصر الرئيس البشير، وأن وقوفه في جانب الحكومة حاصر دائرة المفاصلة وحصرها في محيط الصراع السياسي داخل المجموعة الواحدة، ولم يدعها تأخذ شكل الصراع بين الإسلاميين والعسكريين مثلاً، إلا أن أسلاميين آخرين من الذين قادوا المعركة الأولى يبدو أنهم قد وجدوا في علي عثمان بعض ظلال الترابي، وبعضهم يرون أنهم أحق منه بالقيادة ويعتقدون أنه نال هذا المكان برضاء الدكتور الترابي عنه وتقديمه عليهم، ويأتي على رأس هؤلاء البروفيسور إبراهيم أحمد عمر، والدكتور غازي صلاح الدين، فبدأ هؤلاء يقودون معارك ظاهرة وخفية ضد علي عثمان، وكان الدكتور غازي الأشرس في معركته. ولعل انتقال ملف مفاوضات السلام مع الحركة الشعبية منه الى علي عثمان ثم سقوطه أمامه بعد ذلك في انتخابات الأمين العام للحركة الإسلامية، زادت من حنقه. أما البروفيسور إبراهيم أحمد عمر، فهو الذي قاد مساعي إبعاد علي عثمان بالقانون، وكان ذلك بسعيه الحثيث لتعديل دستور الحركة الإسلامية بحيث لا يتيح لأحد أن يبقى في منصب لأكثر من دورتين، وكان ذلك البند مفصلاً لإبعاد علي عثمان. استغل البعض انفصال جنوب السودان لتحميل علي عثمان أوزار هذا الانفصال باعتباره مهندس اتفاقية السلام التي أجازت حق تقرير المصير لمواطني جنوب السودان، إلا أن أكثرهم لم يجرؤا على ذكر هذا الاتهام على الملأ، حتي لا يصيب وزره الحكومة والحركة الإسلامية من قبله، فيصيبهم شيء من الوزر، ولكنهم كانوا يقولون ذلك في اجتماعات الحزب والحكومة ويدعون الى تحميل علي عثمان المسؤولية كاملة. وسعى بعضهم الى استمالة آخرين في المعركة ضد علي عثمان، بادعاءات شتى، بل أن البعض حاول إلباس المعركة ثوب العنصرية زعماً بأن علي عثمان تناصره مجموعته القبلية، وينصر منسوبيها على غيرهم، وسعى البعض الى جر رموز الى هذه المياه الآسنة، إلا أن هؤلاء الرموز حصَّنهم إيمانهم وتجرُّدهم من الانسياق وراء ذلك، وفي مقدمتهم الدكتور نافع علي نافع. ولعل الناس يذكرون عقب الانتخابات الأخيرة التي جرت في عام 2011م، حين روَّج البعض لذهاب علي عثمان الى البرلمان رئيساً ومجيء نافع علي نافع في مكانه نائباً أول لرئيس الجمهورية، إلا أن الدكتور نافع قطع على هؤلاء الطريق عندما علم ما يستبطنونه، فقال على الملأ إن علي عثمان أكفأ منه وأكثر تجربة، وهو بذلك أحق بالتقدم عليه سياسياً وتنفيذياً. وفي الحلقة القادمة نتحدث بصراحة حول التعديلات الأخيرة.. دلالاتها ومعانيها.. وما يمكن أن يترتَّب عليها.. وهل هي تأتي في ذات الإطار القديم، أم أنها تحمل جديداً.