في ذمة الله أمير البر والإحسان محمد داؤود الخليفة ودعت البلاد يوم الخميس الماضي في موكب مهيب وحزين فارس السياسة والدبلوماسية السودانية المرحوم محمد داؤود الخليفة وزير الحكومات المحلية ووزير الدفاع بالإنابة في حكومة الزعيم إسماعيل الأزهري عام 8691م ودعته الجماهير الحزبية إلى مثواه الأخير بمقابر أحمد شرفي حيث ورى الثرى بجانب والده وعشيرته- عليهم جميعاً رحمة الله- فالزعيم محمد كان زعيماً قومياً تعاطى السياسة والعمل السياسي منذ مطلع شبابه فتعلم من والده السياسي داؤود الخليفة الكثير والكثير عن عالم السياسية وكان والده عضواً بارزاً في مجلس السيادة لعب كذلك دوراً وطنياً كبيراً في الحياة السياسية فسار الزعيم محمد سيراً حثيثاً على خطى والده فكان الشبل من ذاك الأسد وهو الذي نذر حياته ووقته للوطن كله كان يحمل همومه قبل أن يصبح وزيراً واشتهر بفض النزاعات القبلية بل والدموية التي كانت تقع من وقتٍ إلى آخر في غرب السودان فقد كان يهرع إلى هذه الأماكن على جناح السُرعة لفض هذه النزاعات مصطحباً معه زعماء القبائل والعشائر ورجال الإدارة الأهلية وبعض الإداريين في الحكومات المحلية من ذوي الاختصاص وكنت قد ذكرت ذلك في مقالٍ سابق فهو ظل موضع ثقة كبيرة عند طرف كل القبائل في السودان فكان صوته مسموعاً لدى كل القبائل وكانت الحلول الناجعة التي كان يضعها على طاولة الصُلح بين القبائل كانت هذه الحلول التي يطرحها على الطاولة تُرضي جميع أصحاب النزاع القبلي فما من صدام وقع بين قبيلة وأُخرى إلا وقام سيادته بحقن الدماء فساد الاستقرار بين كل القبائل كان هدفه الأول والأخير أن تعيش كل القبائل استقراراً دائماً وتعايشا قبليا يعم كل غرب السودان وظل اسمه حتى وفاته على ألسُن زعماء قبائل يرددونه من وقتٍ إلى آخر بل ظل منزله في العمارات قبلة سياسية لكل زعماء القبائل والعشائر يترددون عليه لأخذ المشورة منه ويتزودون منه بالكثير من النصائح والحلول الناجعة وظل صدره يتسع لكل الآراء مرحباً بضيوفه وبآرائهم يحترمها ويضعها في ذهنه ويؤليها اهتمامه الخاص وكان حقيقة صاحب قلب كبير ما تقاعس أبداً عن أداء واجبه نحو حل النزاعات القبلية وظل مكتبه في الوزارة ومنزله مفتوحين للجميع بلا تمييز لا يكل ولا يمل يعمل ساعات طويلة صباحاً ومساء يشهد له على ذلك مدير مكتبه عبدالباقي كبر الذي عاصره أكثر من نصف قرن وهو وزير يستقبل الضيوف على مدار ال42 ساعة ظل وقته للوطن وهو يعمل لمصلحة البلاد والعِباد بل أنه لم تقف جهوده السياسية في حل المشاكل في الداخل فقط بل امتدت جهوده السياسية إلى خا رج البلاد فلعب دوراً دبلوماسياً مهماً في حل النزاع الحدودي ما بين السودان ويوغندا عندما شكل رئيس مجلس السيادة إسماعيل الأزهري لجنة مساعي حميدة من السادة حسن عوض الله وزير الداخلية ومحمد داؤود الخليفة وزير الحكومات المحلية ويحيى الفضلي وزير المواصلات وسافر الوفد إلى يوغندا والتقوا بالرئيس اليوغندي ملتون أبوت والجنرال عيدي أمين وزير الدفاع وتم الوصول إلى حل أرضى الدولتين وعادت المياه إلى مجاريها هكذا كانت الدبلوماسية التي كان الراحل محمد داؤود يمارسها لعبت دوراً كبيراً في هدوء الحدود السودانية مع دول الجوار الإفريقي وعندما وقع انقلاب مايو المشؤوم تم اعتقاله وصودر منزله ووضعت أمواله تحت الحراسة «الرقيب العام» وظل سجيناً في سجن كوبر حيث قضى في السجن عامين وثلاثة أشهر وأطلق سراحه في شهر سبتمبر عام 1791م فالتحق بعد ذلك في يناير عام 2791م بالعمل بالأممالمتحدة في وظيفة كبير المستشارين الزراعيين لبرنامج التنمية للأمم المتحدة ثم أصبح ممثلاً لمنظمة الغذاء الزراعية الدولية في دولة العراق«بغداد» العاصمة ومكث عشر سنوات يعمل في الأممالمتحدة وعاد إلى السودان عام 1891م وفي أثناء عمله في الأممالمتحدة اشتهر بدبلوماسية حصيفة وسط المحافل الدولية كان يخاطب المحافل الدولية وسط دهشة من الأجانب الذين اندهشوا لروعة حديثه وحنكته الدبلوماسية وهو يدير الجلسات الدولية ممثلاً لمنظمة الغذاء الزراعية فلعب أدواراً دولية حافلة بشتى المواقف الوطنية، أما من الجانب الإنساني فأقولها بكل صدق وأمانة كان وزير الإنسانية في حكومة الزعيم إسماعيل الأزهري نعم كان وزير الإنسانية بلا منازع وقد سردت ذلك وبما قام به من أعمال إنسانية جليلة سردتها كلها في مقال سابق فقد كانت الإنسانية تجري في شرايينه مجرى الدم في الشرايين وظلت له أيادٍ بيضاء على الفقراء والمساكين والأرامل فلم يكن أميراً سياسياً فقط بل كان أمير البر والإحسان والجود والكرم والشهامة والمروءة. فماذا بعد كل ذلك غير كلمات الرثاء في صديقي الغالي الزعيم السياسي المخضرم محمد داؤود الخليفة يا أبا الشهامة والجود والكرم: وجعلت تسألني الرثاء فهاكه من أدمعي وسرائري وجناني لولا مغالبة الشِجون لخاطري لنظمت فيك يتيمة الأزمان. فطبت حياً وميتاً أبا الرشيد وداؤود فقد ظل الراحل محمد تمتد أياديه البيضاء إلى الفقراء والمساكين والأرامل فكلما دخلت عليه في منزله أشاهده يحمل في كفه هموم الوطن وفي الكفة الأخرى يحمل الإنسانية في أسمى معانيها هكذا المحسنون: لولا المحسنون بكل أرض لما سادت الشعوب واستقلت. فطلبت حياً وميتاً أبا لرشيد وداؤود.