للألوان في حياة الإنسان مساحات وبراحات يتمدد من خلالها ذوقه ومزاجه وخياله بما فيها من معاني ودلالات ورموز.. ممثلاً اللون الأحمر من الألوان المثيرة ورغم أنه إرتبط بالحروب والقتال والدماء والعدائيات غير أن المحبين والعاشقين إتخذوه رمزاً وشعاراً يعبر عن مكنونات حبهم وأشواقهم ومشاعرهم.. واللون الأسود إقترن دوماً بالحُزن والأسى والألم والإنقباض.. بينما اللون الأخضر يرمز للمحبة والتآخي والسلام .... أما اللون الأبيض فهو عنوان النقاء والصفاء والتفاؤل والحب والجمال.. ويحدث في النفس راحة وهدوءاً وإنشراحاً ويدل ايضاً على الوقار والإحترام.. ويعبر به عن «نظافة» دواخل الإنسان ونقاء سريرته يقال فلان قلبه أبيض زي الحليب أو إذا كان نقي العرض من الدنس والعيوب.. واللون الأبيض ورد ذكره في كثير من آيات الذكر الحكيم يقول تعالى :(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه)، والوجه الأبيض هو الذي سُر وتهلل.. وكان اللون الأبيض من أحب وأفضل الألوان إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. ويظل «البياض» هو الأكثر إستعمالاً في مناسبات الأفراح بدءاً بفستان «الزفاف» ثم قدح البياض وهو عبارة عن أكلة شعبية تتكون من العصيدة وملاح الروب وهو الطبق الرئيسي في فطور العريس.. وعند بعض الأُسر يقدم الأُرز باللبن أو الفطير باللبن في يوم الحناء بإعتبار أنه الفأل الحسن.. ولا تخلو صينية الجرتق من كوب اللبن .. وظلت عادة «بخ» اللبن من الطقوس التي لا تُبلى حسب زعمهم وإعتقادهم أنه يجلب الحظ و«البخت» والسعادة و«الولادة» والإستقرار بين الزوجين يحدث هذا وسط دعاء الطيبين من الأهل والأصدقاء وهم يترنمون بأُغنيات حماسية وتراثية وسيرة مثل: يا عديلة يا بيضاء يا ملائكة سيري معاه الليلة سار العريس وداعة الله وعلى ذكر البياض هناك نوع من أجود الأسماك عرف بهذا الإسم يعيش في النيل وجسمه عار من القشور. أما الأبيضان فهما الماء والخبز، والليل والنهار والمرأة عموماً اكثر تفاعلاً مع اللون الأبيض إذ هو معيار جمالها ونضارها فتظل تسعى إلى «تبييض» وتفتيح بشرتها بكافة الوسائل و الطرق بما فيها «الكريمات» الضارة بالصحة وتوصف العين بالحوراء إذا إشتد فيها البياض والسواد وهي الساحرة والآسرة والراشقة فتن بها الشعراء مثل قولهم: يا أيُها الريم الذي صادني بمقلة في اللحظ حوراء وتغنوا أيضاً للبياض في كل صفاته وجوهه ومظاهره فمضت وقد صبغ الحياء بياضها لوني كما صبغ اللُجين العسجد وهذا يصف زجاجة كأن بياضها والراح فيها بياض محدق بسواد عين وللزهور أيضاً نصيب من هذا البياض مثل زهرة الياسمين والفُل والأقحوان. وأقحوان كاللجين المحض ونرجس زاكي النسيم بغَّي بغَّي ويدل البياض على فعل الخير والبركة والإحسان... واليد البيضاء يقصد بها النعمة العظيمة التي لا يشوبها منُّ ولا أذى.. والحجة البيضاء أن الظاهرة القوية والأرض البيضاء هي الملساء التي لا نبات فيها.. أما الليالي البيض فهي التي يطلع فيها القمر من أولها إلى آخرها وهي ليلة الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة أوردها ضمنياً أحد الشعراء متحسراً على أيام الشباب وزهوه قبل أن يعتلي رأسه المشيب ويصبغه بلون البياض فأنشد.. مضت الليالي البيض في زمن الصبا وأتى المشيب بكل يوم أسود وفي هذا السياق يقول آخر.. إغتنم فودك الفاحم قبل أن يبيضّ فإنما الدنيا جدار يريد أن ينقضّ والبيض أو الأبيض اسم من أسماء السيف أو تسمى بها السيوف القواطع أو هي كل ما يلبس على الرأس من حديد مثل الخوذة والقلنسوة أو نحوها قال الشاعر.. الضاربين بكل أبيض مخدم والطاعنين مجامع الأضغان وفي موضع آخر.. بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب والحيوانات لا تخلو من بياض يزينها مثل «الغُرة» وهي بياض في جبهة الفرس ويعتبر دلالة على كريم نسلها وأصلها.. والصبح في طرةٍ ليل مسفر كأنه غُرة مهر أشقر كما أشرت فإن اللون الأبيض أوسع إنتشاراً وإستخداماً فهناك شرائح مهنية إتخذت منه زياً يميزها دون غيرها من العاملين مثل الأطباء وكافة المهن الطبية.. وقد إستعمل مجازاً ل(لفظ) «السرير الأبيض» تتمنى لكل الذين «يلزمونه» عاجل الشفاء والصحة والعافية.. اما إخوتنا في شرطة المرور فبالرغم من زيهم الناصع البياض فقد باتوا يشكلون هاجساً وقلقاً وإزعاجاً لسائقي الحافلات على وجه التحديد لترصدهم للمخالفات المرورية والقانونية والتي مهما كانت بسيطة.. وأبدى فيها السائق أسفه وندمه وإعتذاره فإنهم لا يرحمونه أو يعفونه من الإيصال «ابو ثلاثين» جنيهاً ولا أدري إن كان سعره إرتفع وفقاً للإرتفاع الجنوني في الأسعار ومهما يكن من أمر فإن هذه الإيصالات حامت حولها الأحاديث والأقاويل والعهدة على الراوي.. وتتعدد الألوان وتتزاحم وتتداخل وتمتزج وتختلط وهي مدعاة للتأمل والتفكر والتبصر في مواطن الجمال.. ومها مسميات أخرى مثل اللون الخمري ، الذهبي ، العسلي، الحرجلي، الطوبي...الخ .. لكن يظل اللون الأبيض هو «سيدها ومليكها» لإرتباطه الوثيق بحياتنا من المهد إلى اللحد.. فالإنسان عندما يفارق الحياة لم يحمل من متاع الدنيا سوى قطعة بيضاء من القماش.. وهي «الكفن». كم قد قتلت وكم قد مِتُ عندكم ثم إنتفضت فزال القبر والكفن