عندما أصدرت محكمة الجنايات الدولية مذكرة باعتقال الرئيس عمر البشير ظهرت مخاوف على الرئيس من الرحلات الخارجية، وكان قد بدأ في تلك الأيام الإعداد لقمة عربية في الدوحة. اختلفت الآراء حينذاك حول سفر الرئيس إلى ذلك المؤتمر، فقد رأى فريق أن سفر البشير يعرضه للخطر ويعرض سيادة السودان للامتهان، وقد يدخل دولة قطر في حرج، بينما رأى فريق آخر أن يتحدى السودان القرار بسفر الرئيس وتكون تلك الخطوة بداية لهزيمة ماحقة لقرار المحكمة الجنائية. في خضم تلك (الآراء) المتضاربة أصدرت هيئة علماء السودان (فتوى) بعدم جواز سفر الرئيس إلى الدوحة. ويعرف أن الرئيس قد سافر إلى الدوحة وشارك في المؤتمر. وقد فتح الرئيس بقرار السفر الباب واسعاً للتساؤل عما إذا كان البشير قد خالف أمراً دينياً حين خالف الفتوى التي لا تجيز سفره. ،،، المؤسسة الدينية ظلمت وأورثت حساسية تجاه المؤسسات الأخرى بسبب مفاهيم خاطئة بثها تيار تفكيري ظل يسخر من المؤسسة الدينية ويصف أهلها بأنهم علماء أنكحة وميراث ،،، دور المؤسسة الدينية لم يكن أي من ردود الأفعال تجاه سفر الرئيس قد انطلق من منطق ديني ولم يصدر أي رأي يقيّم القرار إن كان مخالفاً للدين أو مطابقاً.. لقد قيّم القرار- تلقائياً- على أسس سياسية لا غير، فقد اتخذ الرئيس بسفره- وبعد مشاورة مع المؤسسة السياسية المتمثلة في الحزب الحاكم أو مكتبه السياسي. اتخذ قراراً سياسياً وفق حسابات دقيقة ولم يخالف أمراً دينياً، ولكن لابد من الوقفة عند الفتوى للتساؤل عن وضع ودور المؤسسة الدينية خاصة في دولة تدير شأنها وفق توجيهات مدرسة إسلامية سياسية. لقد زجت المؤسسة الدينية نفسها في وضع لا يناسبها واتخذت ب(الفتوى) (قراراً) ليس من اختصاصها بسبب إشكالية في فهم (شمول رسالة الإسلام) حيث أن الشمول يعني أن تقابله مؤسسة تعنى ب(كل) مناحي الحياة ولا تكون مؤسسة كهذه إلا (الدولة) بأكملها، والتي تندرج تحتها مؤسسات يفتي علماء كل منها بما يناسب تخصصه، وتكون من بينها مؤسسة دينية. هذا لا يعني حصر الدين في إطار ضيق، فالمؤسسات الأخرى التي تعنى بشؤون صحية وهندسية وطبية وصناعية وإدارية وغيرها تنطلق في دولة الإسلام من فهم إيماني بأن كلاً مكلف في تخصصه ومن فهم توحيدي بأن الله بكل شيء محيط. لقد ظلمت المؤسسة الدينية وأورثت حساسية تجاه المؤسسات الأخرى بسبب مفاهيم خاطئة بثها تيار تفكيري ظل يسخر من المؤسسة الدينية ويصف أهلها بأنهم علماء أنكحة وميراث. فاندفعت المؤسسة الدينية تدفع عن نفسها تقصيراً وهمياً وتحمل عبء الإفتاء في تقرير المصير والحكم اللامركزي وبناء السدود وتطعيم الأطفال وجراحة القلب المفتوح والمناظير وسفر الرئيس. وانشغلت لحد ما عن دور عظيم لا يسعه كل وقتها وكل جهدها في تعليم الناس أمور الدين من إماطة الأذى عن الطريق إلى (فيم يختصم الملأ الأعلى). العلاقة بين الإفتاء والسياسة قد تنصرف المؤسسة الدينية من منطلق دفاعي إلى ما لا يعنيها كما أسلفنا ولكنها أيضاً قد تجر أو تنجر خلف السلطان تقدم الفتوى حسب الظرف السياسي، وهذه علاقة بين المؤسستين الدينية والسياسية يطول الحديث عنها ولكن نكتفي هنا بالإشارة إلى أن الفتوى في هذه العلاقة يقصد بها تعزيز القرار السياسي بقداسة أو بحماية إضافية على الأقل. ولا تنشأ هذه العلاقة إلا مع الأنظمة الدكتاتورية حيث تفتقر كثير من القرارات إلى سند شعبي وتكون بذلك في حاجة إلى تبرير ديني فتنبري المؤسسة الدينية تؤيد قراراً بزيادة سعر سلعة ضرورية أو قمع انتفاضة شعبية أو إعلان حرب. وتضعف العلاقة بين الإفتاء والسياسة في النظام الديمقراطي حيث يستمد القرار قوته من شرعية النظام المستند إلى تفويض شعبي ومن طبيعة النظام التي تفرض الشفافية والتداول حول القرار والرقابة على الجهاز التنفيذي واستقلالية السلطة القضائية وسيادة حكم القانون فيصدر القرار قوياً بذاته لا يحتاج إلى إفتاء بصحة أو شرعية. وثمة علاقة بين الفتوى والثقافة تجعل الفتوى تختلف باختلاف المؤثر الثقافي، خاصة وأن الفتوى تكون في الغالب الأعم (تقديرية) في مسائل لم تقطع فيها مصادر التشريع الرئيسية بنص. وهكذا تختلف الفتاوى حول الغناء باختلاف الوسط الثقافي فنلاحظ بوضوح ارتباط تحريم الغناء بمجتمعات الجفاف الإبداعي حيث يعيش الناس حياة الإخشوشان التي لا تناسبها النغمة، بينما لا تتسلل خواطر للتحريم في بلاد ألف أهلها منذ سالف الأزمان الغناء في جل مناحي حياتهم، حين يزرعون وحين يحصدون، وفي الأعراس والختان وليالي سمرهم وأنسهم.. يغنون للعريس والطفل حتى ينام وللناقة حتى تجد في السير بل وعلى الميت (ينوحون).. ،،، (فتوى)هيئة علماء السودان بعدم جواز سفر الرئيس جعل المؤسسة الدينية تزج بنفسها في وضع لا يناسبها واتخذت ب(الفتوى) (قراراً) ليس من اختصاصها بسبب إشكالية في فهم (شمول رسالة الإسلام) ،،، وقد وقفت كثيراً عند تقدم الرئيس الإسلامي عمر البشير مشيعي الفنان عثمان حسين بينما تكاد شرائط الدعاة التي ترد إلينا من الخليج أن تتخصص في تحريم الغناء. الفقه البدوي ولعل من المفارقات أن حالة الحرج من الغناء قد تأثرت بها بعض المدارس الإسلامية عندنا باعتبار أن الفتاوى صادرة من أرض الحرمين، وفي ذات الوقت بدأت مؤسسات الإفتاء في السعودية تتأثر ثقافياً بما يفد للخليج من ثقافات أخرى. فأعلن الشيخ عبد المحسن العبيكان عدم حرمة الغناء، وكان رأياً جريئاً في بلد كالسعودية الشيء الذي أحدث صدمة في المؤسسة التقليدية فهوجم الشيخ ودارت بينه وبين الشيخ عبد الرحمن السديس مجادلات أقرب إلى الملاسنة. وأعاد هذا الجدال بين الشيخين إلى ذاكرتي ما سمعته من الدكتور عبد الله حمدنا الله أن الشيخ المصري محمد الغزالي كان يستمع مرة خلال عمله في السعودية للسيدة أم كلثوم تغني (أخي قد جاوز الظالمون المدى) فأنكر عليه أحد مشايخ السعودية ذلك وتمسك الغزالي بصحة رأيه بل ودعاه هذا الموقف إلى إطلاق مصطلح (الفقه البدوي) على منظومة هذه الآراء التي يصوغها وسط ثقافي معين. يقف الموقف من المرأة ودورها في المجتمع شاهداً آخر على العلاقة بين الإفتاء والثقافة. ففي بعض المجتمعات التقليدية البسيطة لا تنكر التقاليد عمل المرأة في الحقل أو المرعى أو المتاجرة في المصنوعات اليدوية التي تبرع فيها المرأة، فهذه المجتمعات لا ينتظر أن يظهر فيها اتجاهات للتفكير بالإفتاء بحرمة عمل المرأة. ولكن تصدر فتوى كهذه حين تبدي نسوة ميلاً للعمل في مجتمع تحاصر فيه المرأة ويحجر خروجها. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى أن التقاليد لا الفتاوى هي التي منعت المرأة في الكويت من التصويت حتى نهاية القرن العشرين بينما سمحت التقاليد والأعراف في السودان بنيل المرأة مقعداً برلمانياً في ستينيات القرن الماضي. تحجيم دورالمرأة السياسي ولما تولى الإسلاميون الحكم في السودان لم يبرز أي اتجاه لتحجيم دور المرأة السياسي بل نص قانون الانتخابات على إعطاء المرأة ربع المقاعد البرلمانية فالأرضية الثقافية في السودان ممهدة لأن يتمدد عليها دور سياسي كبير للمرأة، بينما نجد في بلد إسلامي آخر هو أفغانستان الطالبانية أن فتاوى الملالي تتشدد في تحريم عمل المرأة حتى في مجال التعليم، بل إن المتطرفين منهم يستهدفون المعلمات برصاصهم. ،،، العلاقة بين الفتوى والثقافة تجعل الفتوى تختلف باختلاف المؤثر الثقافي، خاصة وأن الفتوى تكون في الغالب الأعم (تقديرية) في مسائل لم تقطع فيها مصادر التشريع الرئيسية بنص ،،، ولعل المثال الأشهر للعلاقة بين الإفتاء والثقافة هو اختلاف فتاوى الإمام الشافعي في مصر عن فتاواه وهو في العراق والحجاز، مستنداً في الحالين إلى تقاليد وأعراف وثقافات لا تتعارض مع أصول التشريع. فقد وضع الإمام الشافعي كتابه (الحجة) بعد أن استقر به الحال في بغداد بعد انتقال متعدد بين الحجاز واليمن والعراق، ولما استقر في مصر ورأى من تقاليد وأعراف أهلها ما لم يعايشه في الحجاز والعراق أعاد النظر في كثير مما أورده في كتابه (الحجة) وتعددت آراؤه الجديدة وتعددت حتى لم يعد يسعها إلا كتاب جديد فأصدر الإمام كتاب (الأم) المرجع الأساسي في المذهب الشافعي. إن للإفتاء ميدانه الواسع، والإفتاء ضرورة لا يستغنى عنها المجتمع إذا أخذ الأمر في إطاره الصحيح وبلا حساسيات أو مزايدات.