السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أصول الحضارة ما بين المنظور الإسلامي والغرب المعاصر
نشر في شبكة الشروق يوم 10 - 04 - 2011

ليس الحديث عن أمر كأصول الحضارة بالشأن اليسير ولا سيما إذا كانت دراسة مقارنة ما بين الأصول الإسلامية والحضارة الغربية المعاصرة، ولكن من الممكن أن نبدأ بالتعريف بالمصطلح المفتاحي في هذه الدراسة منطلقين من السؤال عن ماذا نقصد بأصول الحضارة؟.
محاور الدراسة:
1- أصول الحضارات.
2- تفاعل الجماعة البشرية.
3- الحضارتان الغربية والإسلامية.
4- التعامل مع الكون والإنسان.
أصول الحضارات
لئن كان علم أصول الفقه هو: (العلم الذي يتوصل به إلى الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية)(1) فإن تلك الأدلة التفصيلية تشتمل على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والقياس والاستصحاب ....إلخ. وهذا يعني أننا نتحدث عن المرجعيات التي نستند إليها في معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وهذا هو عين ما نقصده حين نتحدث عن أصول الحضارات، أي أننا نرمي إلى الحدث عن المرجعية التي تستند إليها الحضارة.
وإذا كان هنالك تصورٌ كلي لكل منظومة فكرية أو عقدية وإذا كانت الحضارة نفسها تستند إلى مثل تلك التصورات الكلية (2)، وإذا كانت التصورات الكلية تعني الفكرة الجوهرية التي تستند إليها حضارة أو فلسفة أو قضية ما، فإن هذا التصور الكلي هو محور دراستنا للحضارات، استناداً إلى المرجعية التي شكلتها، والتي لا تخرج من إحدى احتمالين، فإما أن تكون مستندة إلى تنزيل إلهي موحى به من الله تعالى إلى رسله وأنبيائه، وتلك هي نواة التصورات الكلية التوحيدية، وإما أن تكون مستندة إلى الأفكار والتصورات البشرية وتلك هي نواة التصورات الكلية الإشراكية، وكذلك تكون الحضارات، إما أن تكون حضارات ذات أصول توحيدية أو حضارات ذات تصورات إشراكية.
تفاعل الجماعة البشرية
في سياق حديثنا عن أصول الحضارات في الفقرة السابقة كنا قد صنفنا الحضارات إلى حضارات ذات أصول توحيدية وأخرى ذات أصول إشراكية، فما علاقة هذا ببناء الحضارات واستمرارها؟(3).
"
حياة الإنسان ليس فيها انقطاع كامل بين ما هو مادي وما هو معنوي، ولكنها قضايا متداخلة تتفاعل فيما بينها فتخلق واقعاً لا يمكن أن يكون مادياً محضاً أو معنوياً محضاً
"
تقوم الحضارات حين تتفاعل الجماعة البشرية فيما بينها فتنتقل الجماعات من الأسرة إلى القبيلة إلى الأمة التي قد تنتشر في دول متعددة أو تكون دولة قومية (NATION STATE) كما هو الحال في أوروبا القرن التاسع عشر(4).
ومن خلال هذا التفاعل تقوم النظم والأعراف الاجتماعية وتنبني المؤسسات التي يستند إليها المجتمع وتقوم عليها مزيدٌ من التفاعلات في إطار الارتقاء الإنساني وتتبدل المؤسسات وفقاً لتطور الجماعات والمجتمعات البشرية وحاجاتها الفعلية، وفي هذا الإطار تقوم الثقافة والحضارة والمدنية.
وتلك هي مصطلحاتٌ مختلف على دلالاتها، ولكن يمكن إجمالها في التحولات المجتمعية نتيجة عوامل التطور من حياة الجماعات غير المستقرة إلى الاستقرار وبناء الجماعات والمجتمعات المستقرة، فالحضارة والمدنية هما خصوصيات المجتمع الأكثر تعقيداً بينما الثقافة هي كسب كافة المجتمعات البشرية وميراث الخلف عن السلف من تراث غير مادي يرتبط بعالم الأفكار وهي ما يمكن تعريفه بما يكتسبه الإنسان من الجماعة باعتباره كائناً اجتماعياً(5) وكذلك يمكننا القول بأن الحضارة هي تلك المعارف والقضايا المتصلة بالجوانب غير المادية (الأفكار- التصورات- الأعراف الاجتماعية... الخ) بينما تعني المدنية الجوانب المادية في حياة المجتمع البشري(6).
ولكن ليس هنالك انقطاع كامل بين ما هو مادي وما هو معنوي في حياة الإنسان ولكنها قضايا متداخلة تتفاعل فيما بينها فتخلق واقعاً لا يمكن أن يكون مادياً محضاً أو معنوياً محضاً، فالبناء المادي يستند إلى أفكار وتصورات وموجهات وتلك الأفكار والتصورات والموجهات ليست مادية وكذلك شأن الأفكار حينما تتجسد واقعاً مادياً على شكل مؤسسات.
الحضارتان الغربية والإسلامية
وهذا الفصل النظري هو ميراث الحضارة الغربية المعاصرة التي تقوم على الفصل ما بين الدين والدولة وما بين ما هو إلهي وما هو بشري وبين الديني والعلماني (SECULAR) والعلمانية كما يعرفها الدكتور أمين حسن عمر هي: (كل تفكير وتصور وممارسة لا تستصحب الدين أو تستبعده)(7).
"
العلمانية هي الفكرة الجوهرية للواقع السياسي والاجتماعي الغربي المعاصر ومن ثم فهي الفلسفة التي تستند إليها الحضارة الغربية المعاصرة
"والعلمانية هي الفكرة الجوهرية للواقع السياسي والاجتماعي الغربي المعاصر ومن ثم فهي الفلسفة التي تستند إليها الحضارة الغربية المعاصرة.
على خلاف المنظومة الحضارية الإسلامية التي تكون على الربط الوثيق بين الدين والعلم والبناء الحضاري، فالدين هو التنزيل الإلهي الذي يرشد الإنسان إلى بناء الحضارة والمجتمع الإنساني على قاعدة استخلاف الله للإنسان في الأرض (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يسفك الدماء ويفسد فيها ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها... )(8).
فالقرآن الكريم هو المرجعية لبناء الحضارة وهو المرجعية لعلاقة الإنسان بالله وبالكون وبالحياة وما يجوز وما لا يجوز من الممارسة البشرية، والإنسان في هذا التصور هو خليفة الله في الأرض وسيدٌ للكون المسخر له، ولكن في إطار القوانين والنظم والنواميس الإلهية في الكون، وليس تمرداً أو انقلاباً عليها وهذا هو جوهر الحضارة التي تصل الأرض بالسماء والتي تربط الإنسان بالله تبارك وتعالى.
فهي حضارة تختلف في جوهرها عن الحضارة الغربية المعاصرة من حيث كونها مرتبطة بالنواميس الإلهية والسنن الكونية التي تشكل أساس الاستخلاف الإلهي للإنسان في الكون ومن هنا فإن الإنسان حرٌ في البناء المادي من علمٍ وتقانة وكسب في إطار الخبرات الإنسانية إلا ما قيده الله تعالى أو حرمه وهذا قليل ومحدودٌ لا يكاد يصل إلى معشار ما أحله الله تعالى وأباحه (9).
والإنسان ها هنا ملتزمٌ بمنهج الله تعالى على خلاف إنسان الحضارة الغربية المعاصرة المتفلت عن الله والذي أقام نمطه الحضاري على التفلت عن منهج الله واتخاذ نفسه مرجعية للحضارة التي أقامها، أي أن الإنسان ها هنا هو باني الحضارة ومرجعيتها مما أوقعها في كثير من الاضطرابات والتناقض مع حسناتٍ لها ومثل لا تخرج عن فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها(10).
ولهذا السبب فلا يمكننا الحديث عن الحضارة المسيحية أو الحضارة اليهودية ولكننا قطعاً نتحدث عن الحضارة الإسلامية التي يشكل الإسلام مرجعيتها ويكون القرآن أصل الأصول فيها، إلى جانب السنة النبوية الشريفة، بالإضافة إلى المصادر التي تلي هذين المصدرين الأساسيين.
ومع ملاحظة أن الحضارة الإسلامية تملك المرجعية التي تستند إليها في التقويم وتمييز الصوابية من الخطأ في ممارستها الواقعية التي تستند لاجتهاد الإنسان وكسبه على خلاف الحضارة الغربية التي لا توجد لها مرجعية من خارجها بعد تحريف كتبها المنزلة.
ومن ثم يمكننا القول بأن الإسلام هو العقيدة الإلهية الوحيدة التي تبني الحضارة وتقوم كسبها من خلال المصادر والأصول الإلهية (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة) والتي هي عقيدة ومنهج حياة ومنظومة حضارية، أما النصرانية واليهودية فليست كذلك للأسباب التي ذكرناها آنفاً (11).
والحضارة الغربية المعاصرة تستند إلى منطقة جغرافية (أوروبا الغربية وامتداداتها العالمية في الولايات المتحدة وكندا وشمال الأطلنطي واستراليا)، فهي منظومة ثقافية حضارية تستند للعرق الأبيض وإلى العقيدة النصرانية وإلى التراث الحضاري الوثني الإغريقي والروماني فهي ليست حضارة كونية ولم تصل إلى فرض نفسها على العالم إلا عبر وسائط الغزو والأداة العسكرية لا الإقناع ولا الحوار وستظل كذلك بالنظر إلى النظرة العنصرية التي تجعلها تصنف ما عداها من الحضارات والمجتمعات البشرية وتجعلها مجتمعات همجية أو بربرية.
على خلاف الحضارة الإسلامية التي تستند إلى القرآن الكريم وإلى العقيدة الإسلامية التي يخاطب الله تبارك وتعالى رسولها الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا للناس كافة بشيراً ونذيراً).
وهذا يعني أن العقيدة التي تستند إليها الحضارة الإسلامية هي رسالة كونية للبشرية في كل أقطارها وأمصارها ومن ثم فإن الحضارة التي أفرزتها هذه العقيدة هي حضارة كونية إذا احتكمنا إلى المنطق السليم إذ لا يمكن أن تكون العقيدة التي هي أصل الحضارة الإسلامية كونية ولا تكون الحضارة الإسلامية كذلك وهي الحضارة البشرية الوحيدة التي كانت ومنذ ميلادها حضارة كونية داعيتها هو رسول الله صلى عليه وسلم (العربي) وكبار صحابته هم سيدنا أبي بكر الصديق وسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (العربيان) وسلمان (الفارسي) وصهيب (الرومي) وبلال (الحبشي) وعبد الله بن سلام (الحبر اليهودي الذي أسلم)، وفي التصور الإسلامي فإن كل هؤلاء هم بشرٌ يتساوون في الحقوق والواجبات ولا يستعلي أي منهم بعرقه أو عنصره لقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)(12).
فالحضارة الإسلامية حضارة إنسانية تخاطب الإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن أصوله العرقية وتجعل الاستعلاء العرقي والعنصري جريمة يعاقب من يدعو إليها بعذاب الله يوم القيامة وقد زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من يدعو إلى العنصري بقوله: (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية).
التعامل مع الكون والإنسان
ومن اختلاف طبيعة المرجعيات ما بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية يأتي الاختلاف في التعامل مع الكون ومع الإنسان، فالإنسان في التصور الإسلامي أخو الإنسان والحرية هبة ونفحة إلهية لا يملك كائن من كان مصادرتها، وتحقيقاً لهذا المبدأ الإسلامي تأتي حرية العقيدة على رأس هذه الحريات لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن شاء أن يؤمن ومن شاء أن يكفر).
"
الإنسان في التصور الإسلامي أخو الإنسان والحرية هبة ونفحة إلهية لا يملك كائن من كان مصادرتها، وتحقيقاً لهذا المبدأ الإسلامي تأتي حرية العقيدة على رأس هذه الحريات
"
فالإنسان في هذه المنظومة الحضارية الإسلامية له الحق في أن يؤمن أو أن يكفر ولكنه مساءل عن إيمانه أو كفره يوم القيامة وليس في هذه الحياة الدنيا والكون وأشياءه في خدمة الإنسان وهي مسخرةٌ له ومن ثم فهي صديقة له وليس هنالك حرب ما بين الإنسان والكون والظواهر الطبيعية كما هو الحال في تصور الحضارة الغربية المعاصرة، وفي هذا السياق يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحدٌ جبلٌ نحبه ويحبنا).
والتصور الإسلامي يقوم على أن الإسلام عقيدة وحضارة كونية للبشرية في كل زمان ومكان وأن العلم كسب بشري لا تقوم الحياة دونه وهو حق لكافة الشعوب والمجتمعات البشرية وليس حكراً لمنظومة حضارية أو ثقافية بعينها وهو حصيلة الكسب والاجتهاد البشري.
وكذلك التقانة التي تمثل امتداداً للعلم فهي الكسب والاجتهاد البشري لتوظيف العلم على شكل وسائل وأدوات لخدمة الإنسان وهذا ما يشير إليه قول الله تعالى وبركاته: (قل كل نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا)(13).
وهذا يعني أن كسب الإنسان واجتهاده في تحصيل العلم وبناء التقانة هو الذي يجعله متقدماً أو متخلفاً في هذا المجال وليس كفره أو إيمانه فالكافر المجتهد لتحصيل العلم وللاستفادة منه في بناء التقانة والمعارف العلمية التجريبية التي يوظفها لخدمة أغراضه الدنيوية ينال توفيق الله في هذا المجال ويظل كفره السبب لدخوله النار يوم القيامة مع إمكانية أن يكون متقدماً علمياً وتقانياً وقائداً لركب الحضارة إذا تخلف المسلمون علمياً وتقنياً.
ولا يتخلف المسلمون علمياً وتقنياً إلا إذا تخلفوا عن أصول ومقتضيات دينهم فتخلف المسلمين تقنياً هو جزء من كل وهو تخلفهم الحضاري بسبب تخلفهم عن مقتضيات دينهم، فالتخلف التقاني والحضاري في العالم الإسلامي المعاصر هو عقوبة إلهية للمسلمين لتخلفهم عن أصول دينهم وقيادة الحضارة الغربية المعاصرة سنة إلهية لقوله تعالى: (قل كل نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا). وتلك كلها قضايا تتصل بنواميس الله في الاجتماع الإنساني يحسن دراستها في إطار دراسة أشمل لفقه الحضارة في التصور الإسلامي ومع أن الله تعالى يقول في محكم تنزيله: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)(14) إلا أن لله تعالى سنن ونواميس لقيام وسقوط الحضارات وأسباب موضوعية وسنن كونية لمثل هذه التحولات الحضارية، وهذا ما يفسر قوله تعالى: (وجعلنا لكل شئ سببا).
ولهذا السبب عينه وحين كانت الحضارة الإسلامية قائمة على المرجعية الإلهية المتمثلة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتطبيقاً عملياً لتوجيهات هذين المصدرين الربانيين كانت حضارة متقدمة في كل مجالات الحياة الاجتماعية والعلمية والتقانية وحين تراجعت عن الأخذ بهذين المصدرين الإلهيين تخلفت في كافة المجالات.
فالتخلف كما يراه كل ناظر متعمق في أصول الحضارة الإسلامية هو تخلفٌ عن مقتضيات العصر ولن يحدث مثل هذا التخلف عن مقتضيات العصر إلا بالتخلف عن المنهج الإلهي، فالمنهج الإلهي والالتزام به هو الذي يدفع الحضارة الإسلامية والتخلف عن مقتضياته هو الذي يجعل المسلمين متخلفين عن عصرهم عقاباً إلهياً لهم للتخلف عن مقتضيات دينهم.
وكذلك فإن صعود الحضارة الغربية وقيادتها للعالم سنة إلهية (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ولا يكونوا أمثالكم)(15) وهي سنة الاستبدال الحضاري.
أما بشأن العالم الإسلامي والتعامل مع العلم والتقانة ومحاولة إعادة بناء منظور جديد للتقانة يتفق مع خصائص وأصول الحضارة الإسلامية ويجعل المسلمين في مستوى عصرهم فقد تناولها الدكتور محمود محمد سفر في كتابه القيم "دراسة في البناء الحضاري"(16).
تلك ملامح من الموضوع الذي رأينا أن نتناوله ورؤوس موضوعات نسأل الله تعالى أن يسخر لها من هو أقدر علمياً وأعمق نظراً منا وأسال الله تعالى أن يوفقنا وإياه لما يحب ويرضى.
وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين
المراجع:
(1) علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف، ص 7.
(2) د. محمد الحسن بريمة- قضايا في إسلام المعرفة- ص 40.
(3) محاضرات الدكتور وائل أحمد خليل- حول النماذج المعرفية لطلبة الدراسات العليا في برنامج علم الاجتماع – معهد إسلام المعرفة جامعة الجزيرة 2003- 2004م وهي محاضرات غير منشورة.
(4) كتاب تاريخ أوروبا المعاصر للدكتور شوقي عطا الله الجمل- طبعة 1983م، ص 51.
(5) كتاب الدكتور نصر محمد عارف (الثقافة المدنية)- طبعة المعهد العالمي للفكر الإسلامي واشنطون 1993م.
(6) كتاب الدكتور حسين مؤنس- الحضارة- سلسلة عالم المعرفة الكتاب الأول- طبعة الكويت 1978م، الفصل الثالث.
(7 ) حديث للدكتور أمين حسن عمر بحضور كاتب هذه السطور في معهد البحوث والحياة الاجتماعية بالخرطوم 1992م
(8) الآيات 30-33 من سورة البقرة.
(9) مقدمة الأستاذ عمر عبيد حسنة لكتاب الدكتور عماد الدين خليل الصادر ضمن سلسلة كتاب الأمة حول التفسير الإسلامي للتاريخ – العدد الثالث 1403ه – 1983م - ص 17- 18.
(10) نفس المرجع السابق، ص 20.
(11) الأستاذ الشهيد سيد قطب – خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ص 60 وما بعدها.
(12) سورة الحجرات، الآية 13.
(13) سورة الإسراء، الآية 21.
(14) سورة آل عمران، الآية 138.
(15) سورة محمد، الآية 21.
(16) كتاب الأمة، 1409ه- 1989م، العدد 20.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.