هناك بعض الروائح التي ما أن يشمها المرء منا حتى تتداعى إلى ذهنه العديد من الذكريات البعيدة التي غالباً ما تكون ذكريات حبيبة، ولعل قصة ذاك العاشق الفرنسي الذي عانى من افتراق محبوبته عنه، خير دليل. فلكي يتعايش العاشق الفرنسي مع ألم هذا الفراق سعى إلى أن تكون صورتها متجسدة وماثلةً أمامه ومنتعشة في ذاكرته، وقام بالذهاب إلى محل العطور الذي كانت تبتاع منه عطرها واشتراه، وحينما قام بشمه اكتشف أنه ليس بذاك العطر الذي كان يأسر أنفه، فقام بتغيير العطر بآخر شبيه به، وتلاه بثالث ليكتشف في نهاية المطاف أن (رائحة عرق محبوبته + عطرها الخاص) تعطي رائحة يستحيل عليه أن يجدها معبأة في أية قارورة كريستالية ناعمة الملمس. الرائحة التي داهمت أنفي هذه هي الرائحة التي داهمت أنفي في تلك الساعة من الصباح الباكر، وأنا منهمكة بكل حواسي على جهاز حاسوبي متنقلة في العالم عبر الأنترنت.. جسدي في السودان وعقلي إن كان قريباً فهو يتأمل في السياسة الغربية ومعاييرها المزدوجة في كيفية معالجتها للملف النووي لكل من إيران وكوريا الشمالية، من ترهيب وترويع للأولى وترغيب وتدليل للثانية! وسماعات مسجلي على أذنيّ مستمعة لصوت المغني الأميركي كيني روجرز، وحريصة في نفس الوقت على أن أشرب الشاي باللبن في كوبي "ذي الطراز الأميركي الحبيب ذاك" الموضوع على طاولتي قبل أن يبرد بفعل برودة المكتب العالي التكييف، أحسست بحركة بجانبي. الوجه المبتسم طيبة وعندما رفعت رأسي لأرى من ذاك الذي قطع عليّ جولتي المعلوماتية الصباحية عبر الأنترنت، أفاجأ بذاك الوجه المبتسم طيبةً ذي الفم المنفرج عن أسنان صبغت بالتمباك والنيكوتين وباعدت فيما بينها السنين، وحبات من العرق تتلألأ على جبينه، فانفرجت أساريري كيف لا وهو عمو "فلان" ذاك المريض الذي تعرفت عليه من خلال معاودته لمركزنا. " أنفي بدأ يتذكر هذه الرائحة التي تتخلل جلابية عمو «فلان» المتعرقة " فأزحت سماعات المسجل لاستطيع أن أسمع تحيته وهو يسألني: "كيف أحوالك يا بتي وأخبار الأهل "نعلهم طيبين؟" «لعلهم طيبين» وعندما قلت له أننا قد افتقدناه كثيراً، أجابني وهو يعدل من جلابيته بأنه كان في البلد. ولكن حينها بدأ عقلي يتشتت ونفسي يتضايق لكأنما أنفي قد وقع تحت رائحة مزعجة بعض الشيء، تغلبت على رائحة معطر الجو الذي كان يعبق في المكتب، فتحاملت على نفسي مجاملة مني لعم «فلان» ولكن نفسي بدأت تعاف أن تشرب كوب الشاي باللبن، فامتدت يدي لتزيحه جانباً لتتوقف في منتصف الطريق، لأن أنفي بدأ يتذكر هذه الرائحة التي تتخلل جلابية عمو «فلان» المتعرقة. رائحة حبيبة إلى نفسي وحينها نشطت ذاكرة أنفي فاكتشفت أنها ليست غريبة علي لا بل وكم هي حبيبة، فقد أرجعتني لعدة سنين للوراء حينما كنت أرجع إلى بيتنا من المدرسة أو الجامعة، وعندما أهم أن أدخل إلى غرفتنا يصطدم وجهي بجلابية أبي «الطاهر» المعلقة على حافة باب الغرفة ليلتقط أنفي رائحتها. وحينها أهمس في أذن أختي الصغيرة «سارة» وأنا أشير إلى أبي خلسة: هيه.. (باين) عليه أنه كان في زيارة طويلة من زياراته المشتاقة لأهله الجموعية بفتاشة أو الشيخ الطيب أو جبل أولياء، والتي يحكي لنا عنها بصوتٍ دافئ كيف أنه قام بشرب اللبن حليب الإبل والبقر والماعز الطازج والبارد بهواء البادية النقي «بالكورة «سلطانية الشوربة» الماهلة! أبي الطاهر هو والد أخوتي الصغار، ولربما نحن تجسيد لمقولة الممثل/ عادل إمام في مسرحيته "شاهد ما شافش حاجه"، أنه يعرف واحدة اسمها عزة أحمد عبد السلام وأبوها زكي جمعة! وحينها انتعشت ذاكرة أنفي أكثر فأكثر لأتذكر رائحة «جدي لأمي» ذاك الرجل العامل البسيط الذي لا يعرف من الكتابة سوى كتابة اسمه، غير أنه يعرف ما يدور حوله، وذلك أنه بعد أن يقوم بأداء صلاة الفجر يفتح إذاعة صوت العرب مستمعاً للأخبار وتحليلاتها، ومن ثم يذهب لعمله، وحينما أصبح على المعاش لم يجلس في كرسي القماش ذاك تعطيلاً لطاقته، بل كان حتى أواخر أيام حياته يعمل زراعة وفلاحةً لحديقة منزله بجهد شاب لتنسد مسام قميصه الخفيف ذاك «العراقي» وتعبق بعرق الأرض ممزوجة بريحة التراب! الجنوبي الفاره الطول لتنتعش ذاكرة أنفي بحدة أكثر لأتذكر عمو «كباية شاي تور كبير» ذاك الجنوبي الفاره الطول والذي كان يأتي إلينا من الحين للآخر ليقضي إلينا بعض اللوازم المنزلية." "كباية شاي تور كبير" كان حينما ينتهي من عمله المنزلي يقوم بممارسة تجارته والتي يقوم فيها ببيع الخلالات الخشبية المنحوتة " وبتطاول السنين تعمقت علاقتنا به حتى أصبح بمثابة فرد من أفراد العائلة، بل وإحدى الشخصيات المعروفة بحلتنا، بلغته العربية تلك الجميلة التكسير والتي تظهر أكثر ما تظهر حينما يتحول اسم سارة أختي على لسانه ليصبح «فاره» بتشديد الراء. وحينما ينتهي من عمله المنزلي يقوم بممارسة تجارته والتي يقوم فيها ببيع الخلالات الخشبية المنحوتة «نوع من الأمشاط شبيهة بتلك التي يقوم أهل الشرق بغرسها في شعرهم الكثيف»، والتي درت عليه دخلاً تفاجأنا بمقداره وهو يقوم بتبديل أمواله في زمن تبديل العملة المايوي ذاك، ليقوم «كباية شاي تور كبير» بتبديل أكثر من «مائتين وخمسين ألفاً» من الجنيهات التي لم تكن في حوزة الكثيرين من أهل حلتنا. وانقطعت أخباره عنا حيناً طويلاً ولم نسمع إلا أخيراً أنه قد توفى بالجنوب، لنقع في حيرة من نعزي فيه لنكتشف أننا وأهل حلتنا «ود البنا» أحق الناس بأخذ العزاء فيه. التعليم والوظيفة المرموقة لأشرب إثر ذلك (كباية الشاي باللين) التي كنت قد عفتها، بكل استمتاع، كيف لا وقد اتضح أن (عمو فلان) ليس بغريب عني بأي حال من الأحوال. لأتساءل من ثم هل التعليم العالي والوظيفة المرموقة والأبواب الزجاجية والعربات الفارهة الداكنة التظليل، والسكرتارية المرفهة هي من حجبت عمو «فلان» عن ذوي الوظائف العالية الدرجات من موظفين إلى مسؤولين سياسيين مرموقي المناصب حتى نسوا رائحته، وبالتالي رائحة معاناة شعبهم الذي مفارقة هو من قام بدفع نفقات تعليمهم ذي النكهة الإنجليزية المتعجرفة «ضرائب ومكوس» حتى كاد الظهر منه أن ينقصم. فهو ظهر لا يستطيع أن يحمل جوالاً أو يستحمل زيادة السكر الذي هو لأعداد مقدرة تطعيم ل(كباية) الشاي التي أصبحت خالية من اللبن وتحلية في نفس الوقت.. فلو أن كل مسؤول اقتطع يوماً واحداً في الشهر هو وأركان وزارته ليخدموا أهلهم لا في الدم ولكن في رائحة العرق، فمن منا رائحة أسلافه وامتداداته الأسرية معبأة من أيف سان لوران أو كريستيان ديور؟!. فنحن لسنا بحاجة إلى مسؤولين يسيرون دفة حياتنا من خلف مكاتبهم عالية التكييف، بل نحن بحاجة لمن يسعى بيننا وتفتح أبوابه لخدمة المواطنين، فالكرسي استحدث لخدمة المواطن ولم يخلق المواطن ليستعبده الكرسي. مجتمع ذو روائح متعددة علماً بأنهم إن كانوا يدركون أن المجتمع الذي يحكمون ذو روائح متعددة لا تستطيع أن تصفيها أحدث أجهزة التكييف، لما تفاجأوا بإحداث دوري المجتمع السوداني اللا عقلاني والذي جرت تصفياته تحت السطح بعيداً عن مكاتبهم في أبراجهم العالية وتم لعب شوطي مباراته النهائية يومي (اثنين السجم) و(ثلاثاء الرماد). " المسؤولون لما لا يترجلون عن صهوة عرباتهم ولو يوم واحد في الشهر ليركبوا وسائل المواصلات العامة التي تعتبر بمثابة برلمان شعبي تتجسد فيه اتجاهات الرأي العام " وتكرمت قناة «الجزيرة» بنقلها على الهواء مباشرة للجمهور العربي الذي كان مشغولاً بمباريات الدوري الأوروبي، ويسائل نفسه هل يستطيع أن يتجنب (الكسر) في دوري الرجبي الأميركي، والنتيجة صفر كبير علق على رقاب كل مسؤول لم يشتم رائحة غليان المجتمع ومن ثم لم يستشعر الخطر. لذا فلم لا يترجل المسؤولون عن صهوة عرباتهم ولو يوم واحد في الشهر ليركبوا وسائل المواصلات العامة التي تعتبر بمثابة برلمان شعبي تتجسد فيه اتجاهات الرأي العام، وبها سيعرفون مشاكل وهموم المواطنين الحياتية البسيطة التعقيد، فإن هم حبسوا أنفسهم في فللهم الرئاسية تلك، إذن لحدث معهم ما حدث للأميركان في بداية الثورة الإيرانية وتجنبه اليهود بدهائهم المعهود. فاليهود كانوا يحرصون على الجلوس في المقاهي الشعبية ويخالطون عامة الشعب الإيراني، ولمعرفتهم وإلمامهم باللغة الفارسية فقد كانوا يستمعون لأشرطة الإمام الخميني التي كان يرسلها وهو في المنفى، وعندما أحسوا أن نبض الشارع الإيراني قد وصل درجة الغليان واشتموا رائحة خطر اقتراب الثورة من الانفجار، قاموا بالانسحاب بكل هدوء من إيران، دون أن يخطروا حلفاءهم الأميركان، فكانت أزمة الرهائن بالسفارة الأميركية بطهران التي أطاحت بالرئيس الأميركي السابق/ جيمي كارتر، ليسقط في سباق انتخابات الرئاسة. فهل من مذكر؟!