ضمن سلسلة «دراسات في الفكر والواقع» التي يصدرها منتدى النهضة والتواصل الحضاري بالخرطوم صدر الكتاب الأول من السلسلة بعنوان: « نحو خطاب إسلامي مرتبط بالأصل ومتصل بالعصر» لمؤلفه الأستاذ الدكتور عصام أحمد البشير. والكتاب يقع في 80 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي عدداً من الفصول والمباحث، وتشير مقدمة الكتاب إلى أن الخطاب الإسلامي يتعرض إلى تشويه متعمد، وإلى ما هو أشد خطراً منه ألا وهو التشويه غير المتعمد الذي يتطوع للقيام به بعض المحسوبين على الدعاة وهم لا يشعرون. ويشير الكتاب إلى أهمية أن يحسن الدعاة عرض الإسلام بثوابته المرتبطة بالمبادئ والغايات والقيم والأخلاق والآداب والشرائع والجماليات، ومتغيراته المرتبطة بالوسائل والأساليب حتى تقام حجة البلاغ، لِيهلك من هَلَك عن بيِّنة ويحيى من حيَّى عن بيِّنة، فالخطاب الإسلامي إذا أُحسن استغلاله يستطيع أن يسهم بفعالية في محاولات استعادة الريادة الحضارية والسيادة العالمية لأمة الإسلام، التي تتطلب المصالحة الشاملة بين فعاليات الأمة، والتعاون التام بين دوائر النفوذ فيها، كما يستطيع أن يفتح آفاقاً وأقطارا، فتحا سلميا، لا تراق فيه قطرة دم، فلا نَشهر سيفاً، ولا نطلق مدفعاً، ولا نعلن حرباً.. بل نفتح القلوب بالهداية، ونفتح العقول بالفكر. الإسلام منهج وفي ثنايا الكتاب يلخص د. عصام البشير دور الخطاب الإسلامي المعاصر ومهمته في أنه يجب عليه تقديمُ الإسلام منهجاً مرتبطاً بالزمان والمكان والإنسان، موصولاً بالواقع، مشروحاً بلغة " الكتاب يدعو لتقديم الإسلام مرتبطاً بالزمان والمكان والإنسان، موصولاً بالواقع، مشروحاً بلغة العصر " العصر، جامعاً بين النقل الصحيح والعقل الصريح، منفتحاً على الاجتهاد والتجديد وَفْقَ مِنهاج النظر والاستدلال المعتبَر عند أهل العلم، ثابتاً في الكُلِّيَّات والأصول، مَرِناً في الجُزئيَّات والفروع، محافظاً في الأهداف، متطوراً في الوسائل، منتفعاً بكل قديمٍ صالح، مرحِّباً بكل جديدٍ نافع، منفتحاً على الحضارات بلا ذَوَبان، مراعياً الخصوصياتِ بلا انكفاء، ملتمساً الحكمةَ من أي وِعاءٍ خرجت، عاملاً على تعزيز المشترك الحضاريِّ والإنسانيّ.. مرتبطاً بالأصل.. ومتصلاً بالعصر. وجاء الفصل الأول للكتاب بعنوان: الخطاب الإسلامي: دلالةُ المفهوم والمصطلح، واحتوى على مفاهيم «الخطاب» في السياقات المختلفة، مركزاً على مستوى المفهوم القرآني، حيث أشار إلى أن كلمة خطاب وردت في القرآن الكريم من مشتقات "خَطْب" تسع مرات، وورد لفظ "خطاب" ثلاث مرات، وهي قوله تعالى: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابا) [ سورة النبأ، الآية: 37]،، وقوله (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) [سورة ص، الآية: 23]، في حين يرى د. عصام البشير أن الذي يناسب المقام هو قوله تعالى: "وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب" (سورة ص، الآية 20)، حيث يلاحظ في سياق ورود لفظ "خطاب" في هذه الآية الكريمة أن الخطاب مقرون بالحكمة، فيَتَلاقَى المفهومان اللغوي والقرآني، في تأكيد الدلالة السامية للخطاب، على اعتبار أن "فصل الخطاب" لا يتم على الوجه الأفضل، إلاَّ إذا اقترن بالحكمة، وكان القصد منه تبيان وجه الحق على أكمل الوجوه وأتمها. الثنائيات والتقابلات أما الفصل الثاني فكان حول الخطاب الإسلامي المعاصر بين الثنائيات والتقابلات، حيث تناول المؤلف: مستويات الخطاب وامتداد الخطاب ومضمون الخطاب وحيوية الخطاب أو ما أطلق عليه المؤلف خطاب المرونة، حيث قسم مكونات الخطاب الإسلامي إلى نوعين: مكون شرعي وهو ما جاء به الوحي الإلهي من قرآن وسنة نبوية صحيحة، وهو أصل الخطاب الإسلامي ومنطلقه ومرجعيته الثابتة الدائمة، لكونه صادراً عن الله سبحانه الذي أبدع الوجود كله. أما المكون الثاني فهو المكون البشري وهو ما فهمه واستنبطه البشر من النصوص الشرعية وما نتج عن ذلك فكراً كان أو فقهاً أو علوماً وأدباً، والمكوّن الشرعي يكسبه مصدره الرباني خصائص الربانية والشمول والثبات والتوازن والمرونة والصلاحية لكل زمان ومكان، لذلك بحسب المؤلف فإن هذا المكون يمكن أن نكتشف بمعاييره كلَّ خلل واضطراب في واقع الحياة القائم. خطاب لا يتغير ويلفت المؤلف إلى أن الخطاب الإسلامي له سمة خاصة، فهو لا يتغير ولا يتبدَّل في جوهره، أي في ثوابته الأساسية المرتكزة على مكونه الشرعيِّ مهما تغيرت عوارض الزمان والمكان والأحوال والأشخاص. أما المكوّن الآخر، ففيه يكون الاجتهاد والتطوير بما يراعي المخاطبين وظروفهم العامة والخاصة زماناً ومكاناً وأحوالا، ويحتج لذلك بمقولة للعلاَّمة الدكتور يوسف القرضاوي: "وإذا كان المحققون من أئمة الدين وفقهائه قد قرَّروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، والفتوى تتعلق بأحكام الشرع، فإن هذا المنطق ذاته يقول: إن تغيير الدعوة أو الخطاب بتغير الزمان والمكان والعرف والحال أحق وأولى". أما الفصل الثالث من الكتاب فكان بعنوان: من سلبيات الخطاب الإسلامي المعاصر، وتناول فيه د. عصام البشير أزمة ضبط المصطلحات وفقهها، حيث شدد على أن تحديد المفاهيم وضبط الاصطلاحات مما ينبغي أن يكون في صلب أولويات الخطاب الإسلامي المعاصر العمل، لأنها عملية في صميم قضية الهُوية، فالاصطلاحات ليست سوى منظومة فكرية يفترض فيها الانسجام والتكامل، والإنسان يعبر عن رؤيته للواقع والوقائع من خلال اللغة، وطريقة تعبيره تؤثر بدورها في الرؤية، فنحن كما نخلق طريقة تعبيرنا نتأثر كذلك بالنظام الإشاري الذي نستخدمه. الاستقطاب الفكري المدمِّر ويرى د. عصام البشير أنه إذا كان الحوار بمختلِف صوره (حوار المسلمين فيما بينهم، وحوارهم مع غيرهم) هو طريق النجاة من الاستقطاب الفكري المدمِّر، فإن تحرير مضامين " المؤلف يلفت إلى أن الخطاب الإسلامي له سمة خاصة، فهو لا يتغير ولا يتبدَّل في جوهره " المصطلحات، واكتشاف مناطق التمايز في المعاني والمفاهيم مهمةٌ أساسيةٌ وأوَّليةٌ بالنسبة لأي حوار جادٍّ يروم إنقاذ حياتنا الفكرية من خطر التعصب والاستقطاب، ويوجد بين الفرقاء والمتحاورين لغةً فكريةً مستقيمة مشتركة. ويرفع المؤلف تحرير المصطلحات إلى مرتبة الواجب، حيث إن الفهم العميق هو مفتاح التعامل الراشد، وأساس اختيار الموقف الصحيح، وعدم العناية الكافية بهذا الباب من أبرز سلبيات الخطاب الإسلامي المعاصر، ونتج عنه أخطاء فادحة في الفكر والحركة جميعاً، وضرب المؤلف مثلاً بالاختلال في فهم مصطلح "الحاكمية" والذي أدى إلى الوقوع في براثن تكفير الأنظمة بإطلاق، دون تفريق بين "الحاكمية القدرية" و"الشرعية المطلقة" للخالق سبحانه وتعالى، وبين حاكمية سلطة الاجتهاد فيما لا نص فيه أو فيما جعله الشارع الحكيم محلا للاجتهاد، كما أن الغلو في مصطلح "الجاهلية" أدى إلى تكفير المجتمعات، دون مراعاة للحد الفاصل بين "جاهلية الاعتقاد" و"جاهلية العمل". مرونة وانفتاح أما الفصل الرابع فكان حول آفاقُ الخطاب الإسلامي المعاصر، حيث أشار المؤلف الى أن الخطاب الإسلامي في سموه وأصالته ينطلق من منطلقات راسخة، تتميز بالثبات من جهة والواقعية بما فيها من مرونة وانفتاح من جهة أخرى، وتدور سمة الواقعية حول هذا المحور الثابت، تلتزم بهذا المسار في فكرها وأحكامها واجتهاداتها العملية والنظرية. ويعتبر المؤلف أن أي تجاوز في استصحاب هذه المنطلقات يعني بالضرورة انحراف الخطاب عن رسالته وضلاله عن مقصده وانفلاته من مساره المرسوم وهدفه المعلوم. وقد تطرق المؤلف إلى ما أسماه القضايا النهضوية للخطاب الإسلامي، حيث يرى أنه يتعين على الخطاب الإسلامي المعاصر السعيُ إلى سد الفراغ، وتكثيف الجهود، في عددٍ من القضايا الملحة، مثل حفظ معالم الدين من التحريف والانتقاص، وفي هذا الصدد يرى المؤلف أن هناك ثمة جُفاةٌ يريدون الإسلام عقيدةً بلا شريعة، وديناً بلا دولة، وفقهاً بلا حدود، وعبادةً بلا معاملة، وحقًّا بلا قوة، وجهاداً بلا قتال، ورحمةً بلا حسم، وتسامحاً بلا عزة، وحواراً بلا تكافؤ، وانفتاحاً بلا خصوصية، وهؤلاء لا بد من أن يتصدى لهم الخطاب الإسلامي، كما يجب بحسب المؤلف صون الفكر الإسلامي عن الفهم السقيم بسبب خرافات في العقيدة، ومبتدعات في العبادة، وسلبياتٍ في التربية، وجمودٍ في الفكر، وتقليدٍ في الفقه، وتفريط في السنن، معتبراً أن العلاج لكل ذلك هو المنهج الوسطي الذى يكفُل للأمة أن تعيش زمانَها وأن تتكيفَ مع واقعها، من غير أن تذوب هُويَّتُها أو أن تتخلَّى عن حقها في أن تكون لها شخصيتُها الحضاريةُ المستقلِّة. " استعادة الريادة الحضارية والسيادة العالمية لأمة الإسلام تتطلب المصالحة الشاملة بين فعاليات الأمة، والتعاون التام بين دوائر النفوذ فيها " استعادة الريادة الحضارية ويرى المؤلف أن استعادة الريادة الحضارية والسيادة العالمية لأمة الإسلام تتطلب المصالحة الشاملة بين فعاليات الأمة، والتعاون التام بين دوائر النفوذ فيها، ويشمل ذلك المصالحة بين العاملين في الحقل الإسلامي، والمصالحة بين جماعات العمل الإسلامي والتيارات الوطنية والقومية بأن يعملوا جميعاً للمحافظة على الهوية والثوابت وإرساء قواعد الحوار وممارسته وبعث التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية، ويدعو المؤلف كذلك إلى مصالحة بين المؤسسات الرسمية ومصالحة بين الشعوب والأنظمة. وتناول الفصل الخامس الخطاب الإسلامي المعاصر والحضارة الغربية، حيث تطرق لموقف الخطاب الإسلامي من المعايير المزدوجة للحضارة الغربية، وعوامل الاعتدال والتطرف في الخطاب الإسلامي المعاصر تجاه الحضارة الغربية والمؤثرات التي شكلت العلاقة بين الإسلام والغرب، ومبادئ الخطاب الإسلامي المعاصر في التعامل مع الحضارة الغربية، مع مقترحات لخطاب إسلامي فاعل مع الحضارة الغربية.