قبل فترة اتخذت السلطات قراراً جريئاً بشأن "العمالة البنغالية" في السودان، حيث منحتهم مهلة محددة تشرع بعدها الجهات المختصة في تصفية وجودهم، وقد قوبل القرار بارتياح بالغ في كثير من الأوساط. وكان قدوم "العمال البنغاليين" - في حد ذاته مدعاة للتساؤل حول المدى الذي بلغه السودانيون من الثراء حتى يستقدموا عمالة بنغالية لأداء مهام وظيفية، يمكن لأي سوداني أن يقوم بها، لأنها لا تتطلب مهارات أو قدرات ذهنية عالية. تعددت الروايات والتفاسير بشأن قرار الاستغناء عن العمالة البنغالية، فهناك من قال إن تصفية وجودهم كان بغرض تقليل الضغط على الدولار، لأنه من المعلوم أن هؤلاء العمال يحولون مرتباتهم الزهيدة التي يتقاضونها إلى دولار أميركي حتى يتسنى لهم إرسالها إلى ذويهم. ومنهم من ذهب إلى أن العمالة البنغالية غير مفيدة ولا يمكن أن تسهم في تطوير المهارات الحرفية أو في إكساب السودانيين معرفة متقدمة في أي من الصناعات المتوسطة التي تندرج بين الثقيلة والخفيفة، دعك من المهارات التي تتطلب معرفة عميقة بعالم التكنلوجيا والنظم الإلكترونية. ؛؛؛ معظم دول الخليج سارعت قبل السودان بوقت كثير إلى إنهاء وجود العمالة البنغالية أو تصفيتها بصورة تدريجية، عبر إيقاف تأشيرات الدخول للبنغاليين ؛؛؛ التزوير بالغ الدقة ورغم أن السودان ليس في وضع اقتصادي يسمح بمقارنته بدول الخليج إلا أن معظم هذه الدول سارعت قبل السودان بوقت كثير إلى إنهاء وجود العمالة البنغالية أو تصفيتها بصورة تدريجية، عبر إيقاف تأشيرات الدخول للبنغاليين. وسبق هذا الإجراء الخليجي جرائم متعددة كان أطرافها عمّال آسيويون وبصورة أساسية من بنغلاديش، وتعددت هذه الجرائم بين التزوير بالغ الدقة وبين جرائم القتل البشعة أو الجرائم المعقدة التي أرهقت الأجهزة الأمنية في تلك البلدان. العمالة البنغالية هي مثال قابل للتكرار في الوجود الأجنبي الذي يعج به السودان دون أسباب موضوعية تبرر وجودهم على هذا النحو الذي يجعل القلق يجد طريقه إلى الدوائر الرسمية والمجتمعية، ملايين من الأثيوبيين ومئات الآلاف من الأفارقة، وبعض الآسيويين، وشيء من العرب جاءوا إلينا. جو مشجع لارتكاب الجرائم إزاء الأوضاع الاقتصادية غير الجيدة في السودان - حتى لا نقول البائسة - وأمام مجتمع متساهل، وأجهزة حكومية بإمكانات محدودة، يصبح هذا الجو مشجع جداً لهؤلاء الأجانب لارتكاب جرائم في كل شيء: القتل، العملة، الأوراق الثبوتية، الشهادات الجامعية، شهادات البحث، وشهادات الملكية..إلخ. ومن واقع الجريمة المتطورة جداً خارج السودان، فإن المجرمين من الأجانب داخل السودان تكون لديهم مهارات وإمكانات مهولة في عملية التزوير، ربما تضارع أو تفوق إمكانات الأجهزة الرسمية. تتداعى إليَ هذه المقدمة كلما قرأت خبراً عن إنجازات الجهات الأمنية في القبض على مجموعة من المجرمين الأجانب الذين ينشطون هذه الأيام، بعد أن أقرأ الخبر أشكر للشرطة مجهوداتها الجبارة في العلن، وتحدثني نفسي في السر أن هناك الكثير من الشبكات لم تطالها يد الشرطة بعد. الجزء الظاهر من جبل الجليد في الحقيقة ليس هو حديث النفس، ولكنه حديث الواقع الذي يشير إلى أن هناك علاقة طردية بين المجرمين الذين تقبض عليهم الشرطة، وبين الجرائم التي تقع، بمعنى انه كلما زاد عدد المجرمين المقبوض عليهم، كان ذلك دليلاً على ازدياد معدل الجريمة. ؛؛؛ (سنتر الخرطوم) هو من أكثر الأماكن جاذبية لعالم الإجرام الأجنبي، مع احتفاظ هؤلاء الأجانب بالتحرك في المساحات المظلمة الأخرى من العاصمة ؛؛؛ إن الأجهزة والأدوات التي يتم الحجز عليها والبشر الذين يُلقى القبض عليهم في الجرائم، هم الجزء الظاهر من جبل الجليد، أو من جبل المجرمين على تعبير أصح، أما قاعدة الإجرام التي يقف عليها هذا الهرم، فالغالب أنها (لا يمكن الوصول إليها حالياً). (سنتر الخرطوم) هو من أكثر الأماكن جاذبية لعالم الإجرام الأجنبي، مع احتفاظ هؤلاء الأجانب بالتحرك في المساحات المظلمة الأخرى من الخرطوم وأمدرمان وبحري أو في الولايات الطرفية إذا لزم الأمر. واللافت أن جرائم الأجانب تنوعت بين جرائم ناعمة تتم في هدوء ودون صخب وضوضاء، ويقوم بها أصحاب العقول التي تنشط في الجانب الآخر من التفكير، وأخرى تنم عن وحشية مفرطة، جلبها معهم الأجانب ضمن ما جلبوا من أساليب وطرق في تصفية الخصومات. الأجانب والقتل بفنيات جديدة هذا ليس حديث النفس كما كان في المرة السابقة، ولكنها تصريحات للدكتور عبدالملك البرير معتمد الخرطوم، الذي توالت أحاديثه في الفترة الأخيرة بشأن التحذير من خطر الجرائم الناعمة والخشنة التي يرتكبها الأجانب. البرير أشار إلى أن غالب الجرائم التي تقع في الأحياء التابعة إلى سنتر الخرطوم يكون للأجانب دور فيها، فالمنطقة التي يتحدث عنها البرير منطقة جغرافية محصورة فيها كثافة سكانية هائلة من الأجانب، وبها نشاط تجاري واقتصادي لا تخطئه العين. يقول البرير في هذا السياق: أنا متابع جداً لجرائم الأجانب، فهى تشكل أعلى معدل من الجرائم المحلية، واعتقد أن محور الجريمة جله الآن سببه الأجانب، فمثلاً جرائم القتل وسرقة السيارات والمنازل هذه من عينة الجرائم التي يرتكبها الأجانب، وهم يتسببون في جرائم خطرة للغاية تصل مرحلة القتل بفنيات جديدة. وفي جانب القتل أشار الدكتور البرير إلى أنه خلال أسبوع واحد فقط ارتكب هؤلاء الأجانب ست جرائم قتل بشعة جداً، ويبدو أن البرير يتابع هذا الملف عن كثب من واقع اطلاعه اليومي على تقارير اللجنة الأمنية للمعتمدية. الحس الأمني للمواطن عشرات أو مئات بل آلاف الأجانب تدفقوا إلى السودان على إثر الطفرة الخفيفة التي حدثت بعد استخراج النفط مشفوعة بتوقيع اتفاقية السلام الشامل، وسكوت أصوات البنادق التي كانت تستنزف الخزينة العامة بصورة مرهقة ومزعجة. ولأن السودانيين حديثي عهد باستقبال أجانب بهذه الصورة والكيفية فإن الحس الأمني لدى المواطن يكون في أدنى مستوياته، كما أن المواطن يعامل الأجنبي بذات ثقافته السودانية التي يتعامل بها مع مواطن آخر، حيث حسن الظن، والتعامل بعاطفة تقصي العقل والمنطق، وهو ما يفسره الأجنبي على أنه ضوء أخضر ليفعل ما يريد. جرائم التزوير الخطر الداهم وإذا كانت جرائم القتل هي ما يقلق معتمدية الخرطوم، فإن الحكومة برمتها يجب أن تقلق من الجرائم الناعمة التي يقوم بها هؤلاء، وأخطر هذه الجرائم على الإطلاق هي جرائم التزوير. فالتزوير يتعدى أثره الأفراد إلى بنية الدولة الاقتصادية والاجتماعية، وهذا واضح من واقع الأخبار التي تتناول ضبط شبكة أجانب تعمل على تزوير العملة الصعبة، أو ضبط شبكة تعمل في تزوير الأوراق الرسمية، مثل الجنسية والجواز..إلخ. شخصياً روى لي صاحب محل تجاري في سنتر الخرطوم قصة جريمة حدثت له توافرت لها كل العناصر التي ذكرتها أعلاه من تساهل السودانيين وثقتهم غير المحدودة في الآخر، إلى جانب مهارة الأجنبي في ارتكاب الجريمة مستفيداً من كل الظروف. غفلة محليّة وذكاء أجنبي وثق صاحبنا في عامل أجنبي وعهد إليه تنظيف المحل بصورة يومية، وبحسن نية كان يضع مفتاح الخزانة أمام المنضدة، ولم يكن يدري أن العامل الأجنبي لديه من الذكاء، ما جعله يغافل صاحب المحل ويقوم بنسخ مفتاح الخزانة. ؛؛؛ العامل الأجنبي لديه من الذكاء، ما جعله يغافل صاحب محل سوداني ويقوم بنسخ مفتاح الخزانة ويسرق محتوياتها ؛؛؛ ومضت الأمور على هذا النسق حتى اطمأن العامل إلى أن الخزانة بها من المال ما يكفي لارتكاب جريمته الناعمة، فما كان منه إلا أن حضر في الصباح الباكر كما يفعل يومياً، ولكن هذه المرة لم يكن معه مفتاح المحل فقط، بل مفتاح الخزانة أيضاً. بهدوء فتح الشاب الخزانة دون أن يقوم بأي عمل لافت للنظر، وأخذ كل محتوياتها المالية البالغة ملايين الجنيهات، ثم كانت وجهته التالية العودة إلى بلاده. ولكن تم القبض عليه وهو يهم بدخول الحدود، بعد أن اشترى عربة خاصة حمل فيها ما تبقى له من مال وهو كثير، ولولا تمتع صاحب المحل بعلاقات جيدة مع مسؤولين واستنفار الشرطة لحصد الهشيم.