بقلم: السر السيد كاتب وناقد درامي سوداني تنشر شبكة الشروق استعراضاً متخصصاً من الناقد السوداني المعروف السر السيد لرواية الزميلة العراقية فائزة العزي "إذا سُعِّرت"، والتي كانت قد دشنتها أمام النقاد والمختصين بكل من العاصمة السودانية الخرطوم، والشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة. إشارة: رواية إبحار عكس النيل هي الرواية الثانية للصحافية العراقية فايزة العزي وقد صدرت في طبعتها الأولى 2011 عن دار التكوين للنشر والتوزيع في سوريا، وتقع في عدد 259 صفحة من القطع المتوسط، أما روايتها الأولى فقد كانت بعنوان (إذا سُعِّرت). هذه الرواية في القراءة الأولية لهذه الرواية أجدني مضطراً للعبور سريعاً على كليات الرواية وبعض تفاصيلها مما قد يساعد ولو بصورة عامة في الكشف عن ما حاولت أن تقوله الرواية والتي تنهض بالأساس على سرد حكاية فتاة جنوبية هي "لوشيَا" التي ولدت وتربت وتعلمت في الشمال ثم وجدت نفسها مواجهة بسؤال الانفصال ووجوب العيش في وطن جديد هو دولة الجنوب، وطن في حقيقته لا يمثل عندها غير الجذور والذكريات. ؛؛؛ إبحار عكس النيل هي الرواية الثانية للصحافية العراقية فايزة العزي وقد صدرت في طبعتها الأولى 2011 عن دار التكوين للنشر والتوزيع في سوريا ؛؛؛ وطن لا تعرفه إلا عبر الحكايات ولأن الانفصال فعل تاريخي سياسي له أدبياته وحججه خاصة وإنه جاء محصلة لاتفاق طرفي الصراع "المؤتمر الوطني والحركة الشعبية" حول كليات استراتيجية تحدد من خلالها مستقبل السودان بين أن يصبح دولة موحدة أو ينقسم إلى دولتين، لذلك لم يكن أمام "لوشيا" إلا أن تعير حجج الانفصاليين ودفوعاتهم الكثير من اهتمامها، فمع إيمانها الكبير بالوحدة إلا أنها كانت ترى في قرارة نفسها أن جزءاً من الحقيقة موجود عند دعاة الانفصال، وهنا تبدت أزمتها وتجلى قلقها خاصة وأن معظم أفراد أسرتها (أخوها جوزيف وزوجته روجينا وأختها جوانا وخطيب أختها بيتر) يؤيدون الانفصال ويرغبون في العودة إلى وطنهم الجديد إضافة إلى ما كشفته علاقة الشمال والجنوب عبر تاريخها الطويل من أزمات ولما لمسته هي من إعاقات نفسية واجتماعية لعالمها الخاص ونعني هنا علاقة حبها للشمالي "كرم الله" مما يعني أن تشابك الخاص والعام عندها أو فلنقل ضمير الرواية هو ما شكل قلقها وأزمتها. مصادر الرواية من الوهلة الأولى يكتشف القاريء أن الرواية في المرحلة التي يمكن أن نسميها ما قبل كتابة الرواية قد اعتمدت وهي تبني نفسها على نصوص أخرى وظفتها عبر تقنيات السرد المختلفة لتدعيم القول الكلي للرواية، وقد تمثلت هذه النصوص "الماقبلية" فيما يمكن أن نسميه بالبحث فيما يتصل ببعض مادة الرواية، فقد انتخبت الكاتبة الكثير من المعلومات من عدد من المصادر التي يمكن إجمالها في: 1.التاريخ الخاص ببعض الأحداث ذات الصلة بالحرب الأهلية في السودان سواء كانت تاريخاً مكتوباً (مثال كتاب أم دوم في ذاكرة التاريخ) أو جاء في شكل إفادات من شهود عيان. 2.الكتابات حول ثقافة قبائل الجنوب ذات الصلة بموضوع الرواية فيما يتصل بطقوس الميلاد والموت والزواج والمصير. 3.ما يمكن أن نسميه بالقول اليومي في الشارع السوداني شمالاً وجنوباً حول خياري الوحدة والانفصال، بمعنى كيف ينظر الشماليون والجنوبيون لهذين الخيارين وما حجج كل طرف منهما؟ في بناء الرواية ينهض السرد بالأساس في هذه الرواية وربما بحكم طبيعتها القائمة على أنها تطرح موضوعاً واقعياً يقوم على معطيات واقعية في السياسة والتاريخ على الموقع الذي يحتله الراوي فما نلحظه هو أن الراوي يشكل حضوراً مركزياً، فهو الذي يعيد ترتيب الأحداث ويصنع سياقات أقوال الشخصيات الأخرى التي تجيء عبر تقنيات الحوار أو الاسترجاع أو المنولوج أو التلخيص أو المزج أو التناص. فنحن حقيقة نلج الرواية عبر بناء يقوم على تنوع في السرد تتداخل فيه مستوياته المتعددة والمتنوعة كما يتداخل فيه الزمان مع المكان، والمكان مع الزمان في إيقاعية وانسجام تجعل من موقع الراوي وإن كان مهيمناً القنطرة التي ينسرب منها الحكي وتتوالد منها الأحداث ومن ثم تنهض الرواية وتنتج قولها والذي يبدأ على مستوى الزمن بعد تحديد وإعلان موعد الاستفتاء على خياري الوحدة أو الانفصال مباشرة ثم يتمدد ليتحرك في خط مستقيم لا يخلو من الانحناءات والتعرجات يعود إلى الثمانينيات زمن تجدد الحرب الأهلية وتطورها النوعي مع استلام حكومة الإنقاذ لمقاليد الحكم وتطور الحركة الشعبية في جيشها وعلاقاتها وخطابها. ؛؛؛ الرواية والتي تنهض بالأساس على سرد حكاية فتاة جنوبية هي "لوشيَا" التي ولدت وتربت وتعلمت في الشمال ثم وجدت نفسها مواجهة بسؤال الانفصال ووجوب العيش في وطن جديد ؛؛؛ ليعود أي الزمن بعدها عميقاً إلى العام 1955م. هذا الخط المستقيم للزمن بتعرجاته المختلفة هو ما يشكل خلفية الرواية وروحها المستنبطة ومع تقاطعه مع زمن الحكي الذي هو الوقت الذي تستغرقه الرحلة من الخرطوم إلى واو وحتى ذهاب "لوشيّا" المأساوي البديع في النيل، ذلك الذهاب المنفتح على أكثر من تأويل تكتمل الرواية التي تبدأ في الخرطوم ولا تعود إليها. في آيدولوجيا الرواية صوت "كرم الله": "لم يكن الأمر يحتاج سوى انحناءة بسيطة مني" ص10 مشهد ذهاب لوشيا في النيل (الراوي عن لوشيّا): "وما كادت تنهي كلماتها حتى أحست بقوة هائلة تفتح يديها وترفعها نحو الأعلى، لم تعد ترى جسدها الأسمر، لم تعد تسمع صوتها، لكنها كانت تعرف أنها لا تزال تقبض على مسبحة كرم الله ولن تفرط فيها. ما أعنيه بآيدولوجيا الرواية هو أقنعتها التي بالضرورة تستبطن مسكوتاً عنه بحكم أن الرواية في الأخير خطاب له تحيزاته ومراميه قصد الكاتب هذا أم لم يقصد، فبما أن الرواية أصلاً تتخذ مادتها الأساس من حدث واقعي هو خيار الانفصال في مقابل خيار الوحدة في فضاء واقعي تمثله جماع الخبرة أو الخبرات المستنبطة من تجربة العلاقة بين الشمال والجنوب التي احتلت فيها الحرب الموقع الأكبر بحيث طغت على كل الخبرات الأخرى في هذه العلاقة وصيرتها وهماً عمدت الرواية وهي تبني أحداثها وتصل إلى مصائر أبطالها إلى خلق تماثل بين علاقة كرم الله المثقف الشمالي مع لوشيّا المثقفة الجنوبية. تلك العلاقة المأزومة وعلاقة الشمال بالجنوب التي يشكل الدم أساسها، بحيث يبدو لنا وكأننا أمام مرآة يرى فيها الخاص (علاقة كرم الله بلوشيا) العام (علاقة الشمال بالجنوب) ويرى فيها العام (علاقة الجنوب بالشمال) الخاص (علاقة كرم الله بلوشيا) وكأن كل واحد منهما صورة للآخر لتكون الآيدولوجيا أو الأقنعة هنا هي أن الكاتبة وهي توظف حيلة المرايا تعمد إلى خلق صورة للشمال من خلال عوالم شخصية كرم الله وعائلته (أمه وأختيه وابنته) وأصدقائه والعاملين معه في مكتبه وطلابه أو من خلال عوالم شخصية الشيخ محمد الحسن هي صورة المسلم عبر أيقونات المسجد والقرآن الكريم والمسبحة، فبهذه الصورة النمطية للشمال التي عمدت الكاتبة إلى صناعتها جاء الشمال في هذه الرواية وعظياً وتقريرياً كما أن كل الشخصيات التي تمثله جاءت بسيطة وغير مركبة وتفتقد إلى الغنى الفني فهي لا تفعل شيئاً سواء تلاوة القرآن والذهاب إلى المسجد والبحث عن الميراث، لذلك تبدى الشمال في هذه الرواية وكأنه خلفية أو حيلة للحكي عن الجنوب بشخصياته الغنية المركبة الفاعلة والمتفاعلة مع أحداث الرواية (مبيور –– أش – العرافة – لوشيا ....الخ). ؛؛؛ العزي جعلت من الشمال خلفية وحيلة للحكي عن الجنوب لتاتى صورة الجنوب بطريقة سحرية تلفه الأساطير والخرافات ؛؛؛ وبالمقابل جاءت صورة الجنوب بطريقة سحرية تلفه الأساطير والخرافات فقد تبدى في هذه الرواية كمكان غامض بغاباته ووحوشه كما أنه تبدى فاعلاً وحياً عبر شخوصه وهم يدافعون عن خيار الانفصال ولكن وبرغم تدخلات الراوي الكثيرة كاستدعائه لما حدث في توريت عام 1955 أو قانون المناطق المقفولة في إشارة إلى دور الاستعمار الإنجليزي فيما يحدث وحدث في الجنوب أو بجعله مبيور والد لوشيا بطلة الرواية يقتل بسبب الثأر في محاولة للتغطية عن دور الشماليين في تقتيل بعض الجنوبيين بسبب الحرب أو في استدعائه لمواقف بعض الشماليين الشخصية الشهمة تجاه الجنوبيين كما في حي الفتيحاب أو الكلاكلة. إلا أن الرواية في قولها الأخير ومن خلال أحداثها وتدخلات الراوي الكثيرة وبعد أن جعلت من الشمال خلفية وحيلة للحكي عن الجنوب أكدت على تحكم الرؤية الشمالية والعربية التي كان ولا يزال يمثل الجنوب عندها كوناً سحرياً أسطورياً كما أن أي محاولة منه للخروج إلى ما هو واقعي ومدني تضعه باستمرار أمام تساؤل كبير. رواية إبحار عكس النيل استطاعت وبأسلوب بديع أن تضعنا أمام رؤانا وأفكارنا وقولنا اليومي فيما يتصل بعلاقة الشمال والجنوب، والرواية وهي تحكي مأساة لوشيّا حكت لنا مأساة الوحدة وذلك عندما غابت لوشيا في النيل ذلك الغياب الذي يحتمل أكثر من قراءة وأكثر من تأويل.