الحديث عن الحركة الإسلامية السودانية أو عن الإسلاميين في السودان لا ينتهي، لاعتبارات كثيرة أولها وليس آخرها إمساكهم بمفاصل الدولة لما يقارب نصف قرن، زد على ذلك أن الإسلاميين في السودان أكثر حركة لها تأثيرها في الحياة العامة، منذ ما قبل ثورة الإنقاذ، وزاد هذا التأثير بعد استلامهم السلطة في 1989. والحديث حول المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية والذي انعقد في نوفمبر الجاري بقاعة الصداقة، يحمل في طياته الكثير بعد تمدد الإسلاميين بحاءاتهم الثلاثة (حزب وحكومة وحركة) على امتداد المشهد السياسي، وأفلحوا في إقصاء خصومهم من الأحزاب الأخرى، خلال سنوات التمكين الأولى والشرعية الثورية، مروراَ بنسخ الإنقاذ الأولى والثانية والثالثة، من دائرة الفعل والمشهد السياسي.. بل أفلحوا ومنذ عقدهم الأول في إبعاد شيخهم وقائد مسيرتهم الذي حملهم على كفيه ووضعهم في قمة قيادة الدولة. العلاقة مع الدولة لكل ما سبق، يكتسب الحديث عن المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية، أهمية كبيرة بين المراقبين والمهتمين، وأهم ما يمكن تناوله في هذا الشأن، علاقة الحركة الإسلامية بالدولة وحزب المؤتمر الوطني. ؛؛؛ ظهور الحركة الإسلامية كداعم للوطني أعطى إيحاء أن (مؤتمر الحركة الثامن) انعقد لمساندة الدولة وداعم للحزب الحاكم ؛؛؛من البديهي أن تكون الحركة سابقة في تكوينها للحزب والدولة معاً، وهو الشيء الذي لم يحدث في مخرجات المؤتمر، بظهور الحركة وكأنها خرجت من رحم المؤتمر الوطني، ولعل خروج د. غازي عده كثيرون أنه جاء من هذا الباب، وكان غازي أعلن لوسائل الإعلام عدم نيته الترشح للأمانة العامة، بعد أن كان أقوى المرشحين، ونسب إليه القول إنه كان يؤيِّد بقوة التعديلين المقترحين في الدستور "لأنهما يصنعان حركة قوية وحرة وأمانة عامة بسلطات حقيقية". ظهور الحركة الإسلامية كداعم للمؤتمر الوطني ومساند حقيقي له وكأنها ما ولدت إلا لتصب مياهها في نهره، أعطى إيحاء أن (مؤتمر الحركة الثامن) انعقد لمساندة الدولة، وداعماً للمؤتمر الوطني. أنظر حديث المحلل السياسي إيهاب محمد الحسن لصحيفة "الرأي العام" 20 نوفمبر الجاري فهو يقول: "مؤتمر الحركة الإسلامية جاء كمحاولة لإسباغ شرعية على النظام، فالمؤتمر والتصعيد في خطاب الحركة الإسلامية وما لازمه من تهديدات الغرض منه (سنترة) الحركة الإسلامية السودانية في أذهان ومخيلة واشنطن وتل أبيب بعد تجديد العقوبات على السودان وضرب اليرموك، في محاولة لإرسال رسالة بخطورة الحركة وقدرتها على مقارعة المجتمع الدولي في سياق المواجهات المتوقعة". السودان ليس وحيداً هذا القول أكده التركيز الإعلامي الكثيف على فعاليات المؤتمر، فضلاً عن التنظيم الدقيق والاهتمام بالوفود الداخلية والخارجية، وما أوجده المؤتمر من مشاركة دولية تجلت في أنظمة الربيع العربي والقيادات الإسلامية البارزة في تلك الدول (المرشد محمد بديع وراشد الغنوشي)، وذلك أظهر الدولة بمظهر المؤيد إقليمياً وعربياً ضد مواجهتها مع إسرائيل والمجتمع الدولي، وفيه أيضاً رسالة واضحة بأن السودان ليس وحيداً. ؛؛؛ مشاركة وفود بارزة من دول الربيع لعربي أرسل رسالة مفادها أن السودان ليس وحيداً ؛؛؛ سقف محدود اختيار د. الزبير أحمد الحسن أميناً عاماً للحركة بالتزكية دون وجود منافسين، يشير إلى أن تيارات جارفة داخل الغرف المغلقة كان لها شدها وجذبها، مما أثَّر على النتيجة النهائية وانسحاب د. غازي. وعلى الرغم من براعة الإسلاميين في إخفاء ما كان يدور داخلياً من تفاعلات عن وسائل الإعلام، إلا أن التيار الإصلاحي في الحركة بدا واضحاً في عدم الاتجاه لتكرار الوجوه القديمة، لكن ذات القيادات القديمة خرجت من الباب وعادت من الشباك عبر الجسم القيادي الذي نشأ في دستور الحركة ما يعني أن سقف الحركة وأمينها العام محصورون بهذا الجسم. ؛؛؛ القيادات القديمة خرجت من الباب وعادت من الشباك عبر الجسم القيادي الذي نشأ في دستور الحركة ما يعني أن سقف الحركة وأمينها العام محصورون بهذا الجسم ؛؛؛ وقد حاول د. الزبير أن يقلل من هذا الرأي لبرنامج "حتى تكتمل الصورة" عندما قال: "إن إنشاء جسم قيادي في دستور الحركة لن يكون خصماً على منصب الأمين العام، لأن الجسم مهمته رعاية الخط الاستراتيجي للإسلام كمنهج حياة والتنسيق بين المستويات المختلفة". وهو حديث فيه قدر من التماهي الزائف إذ ماذا تعني (رعاية الخط الاستراتيجي للإسلام كمنهج حياة)؟. ومعروف أن الحركة الإسلامية بأمينها العام ومجلس شوراها هي التي تقود الناس لمنهج الإسلام الذي ارتضته بالدعوة والقدوة والتعايش بين الناس. تيارات الإصلاح نعود لاختيار د. الزبير، لا يختلف اثنان على شخصية الزبير المعتدلة والمتدينة والمنضبطة والمتعففة، كما نعته عدد من رفقاء قريته وزملاء دراسته بعطبرة الثانوية أو جامعة الخرطوم، وعدد من المقربين. ؛؛؛ صفات الزبير النبيلة والمميزة هل كافية ليقود الرجل الحركة الإسلامية وهي في أوج تحدياتها داخلياً وخارجياً ؛؛؛لكن، هل هذه الصفات النبيلة والمميزة كافية ليقود الرجل الحركة الإسلامية وهي في أوج تحدياتها داخلياً وخارجياً، وقد اعترف هو نفسه بأن مهمته ستكون عسيرة وليست بالهينة. فقد قال إن هناك تيارات داخل الحركة تنادي بالإصلاح، وقال استقبلت مجموعة من الشباب المطالبين بالإصلاح واتفقت معهم على مواصلة الحوار، إلا إنه لم يفصح عن نوع هذا الإصلاح هل هو إصلاح مؤسسي للحركة يشمل دستورها وهياكلها وسقف تحركاتها؟؟ أم أن الإصلاح المعني تبديل الشخوص بأن يذهب زيد ويأتي عبيد؟ تفاعلات خفية وفي السياق نفسه، قال القيادي بالحركة الإسلامية اللواء الفاتح عابدون، إنه التقى مجموعة من الشباب ساخطة على الطريقة التي تم بها اختيار الأمين العام، وقال إن مجموعة من عضوية الحركة التقت به وأبلغته صراحة عدم رضاها عن الطريقة التي تم بها اختيار الأمين العام. ؛؛؛ تيارات الشباب الرافضة لطريقة اختيار الأمين العام ربما هي من ذات مجموعة الألف التي رفعت مذكرة في أوائل هذا العام لقيادة الحزب ؛؛؛وقطعاً هي غير المجموعة التي التقت د. الزبير، ما يؤكد أن فوران التيارات داخل الحركة بات شديداً، وهذه التفاعلات مهما اجتهدت القيادة الحالية بما فيها مسؤولو الدولة وأقطاب الحزب في إخفائها ستظهر إلى العلن وقد تؤدي لمزيد من التشقق والإنقسام في جسم الحركة التي عقدت مؤتمرها الثامن لتتجاوز التحديات الماثلة لتبدو متماسكة أمام أعضائها. تيارات الشباب الرافضة لطريقة اختيار الأمين العام ربما هي من ذات مجموعة الألف التي رفعت مذكرة في أوائل هذا العام لقيادة الحزب، وربما من جموع المجاهدين الإسلاميين التي التقت أخيراً للبحث في أمكانية توحيد الإسلاميين. وإذا كان ذلك كذلك، تظل بذرة المذكرات والمجاهرة بالاختلاف موجودة في رحم الحركة الإسلامية، ولا سبيل إلى معالجتها إلا بالمزيد من الشورى وعدم تكلس القيادات القديمة وتشبثها بمواقعها، وإفساح المجال للشباب. ملفات شائكة ثم تمتد التحديات أمام القيادة الجديدة للحركة الإسلامية في الواقع السوداني الداخلي الذي ينتظر المعالجات بدءاً بالتسوية مع دولة الجنوب في إنفاذ اتفاقيات التعاون الثمانية، وتهدئة الأحوال في جنوب كردفان والنيل الأزرق والوصول لتفاهمات مع الحركة الشعبية قطاع الشمال، بالإضافة إلى تكملة مسيرة سلام دارفور وعلاج أزمتها بإدخال حاملي السلاح إلى وثيقة الدوحة. وهذه ملفات عسيرة وشائكة لا يمكن أن يكون للحركة الإسلامية دور بارز فيها إلا في ظل قيادة تعرف تماماً ما تريد. يظل واقع المواطن السوداني الاقتصادي والاجتماعي من أكبر تحديات الحركة الإسلامية، فهل ناقشت الحركة في أوراق مؤتمرها الأخير علاقتها بالشعب السوداني وإلى أين وصل به الحال، بعد أن ضاقت عليه سبل العيش وأرهقته أوضاع المعيشة؟ هل سألت الحركة الإسلامية نفسها -وهي تعقد مؤتمرها الثامن- ماذا قدمت للمواطن السوداني؟ وهو الذي تتخذه ميداناً لدعوتها وسوحاً لبسط منهاج الدين من تعاضد وتكافل وتراحم؟ هل قارنت الحركة الإسلامية بين أوضاع قادتها ومنسوبيها وبين أوضاع عامة الشعب السوداني؟ كل تلك التساؤلات موضوعة الآن أمام منضدة الأمين العام الجديد الذي أبدى تفهماً واضحاً باعترافه بأن التحديات جسام. غياب المبادرات ثم يتمثل سقف التحديات في سياسات السودان الخارجية التي ظلت مقياساً ومؤشراً لمدى ضيق عنق الزجاجة واتساعها مع المجتمع الدولي، حيث لم يستطع السودان ولمدى ثلاثة وعشرين عاماً من بناء علاقات استراتيجية لا عربياً ولا أفريقياً ولا دولياً، وليس مرد ذلك أنه غير مرغوب فيه، لكن انعدام الرؤية وغياب المبادرات هو ما أوردنا هذا المورد. ما زال السودان في قائمة الإرهاب، وما زال محاصراً على الأقل من الدول الغربية، ودخل حديثاً في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، هذه الملفات أو قل المواجهات بحاجة إلى رؤية استراتيجية تدير الشأن الخارجي، ودعوة النائب الأول التي أطلقها في مؤتمر الحركة الإسلامية بضرورة تكوين نظام إسلامي عالمي جديد أولى الخطوات في البعد الاستراتيجي، ولكن من يلتقط قفاز المبادرة؟ الانتقام للذات وليس ببعيد أن تتجه مجموعة من داخل المجموعة الحاكمة، وقبل أن يجف مداد اختيار الأمين العام للحركة الإسلامية لتتبنى "محاولة تخريبية" أفلح القائمون على أمر الدولة في تسميتها عندما أطلقوا عليها "تخريبية"، إذ -والحق يقال ماذا يريد هؤلاء؟ وإلى أين سيقودون البلاد إذا قدر لهم الفلاح؟ ؛؛؛ تحديات عديدة تواجه قيادة الحركة في الواقع السوداني الداخلي الذي ينتظر المعالجات بدءاً بالتسوية مع دولة الجنوب وتهدئة الأحوال في جنوب كردفان والنيل الأزرق ؛؛؛ والسؤال الكبير الذي لا يجدون له إجابة: ماذا قدمتم من مبادرات للإصلاح وأنتم في قمة السلطة؟ حتى تفكروا في قيادة تيار الإصلاح وأنتم خارج السلطة.. وكأنما أن ذروة الأمر انتقام للنفس، أو نصرة للشخصية، وهو ذات ما برع فيه د. الترابي، عندما أخرج من موقعه. فالحركة الإسلامية موعودة بتحديات جسيمة، تقع كلها على عاتق القيادة الجديدة التي تقلدت المنصب في ظل ظروف بالغة التعقيد، فإما أن تكون بحجم التحدي أو فلتترك المجال للشباب، فهم قادرون على تغيير وجهة المستقبل.