ما لم يمثل نتنياهو وليبرمان أمام المحكمة الجنائية الدولية، فلن يمثل أمامها أحد، وستكون الشرعية الدولية نفسها في مهب الريح، لأنها لن تحوز من الآن فصاعداً على احترام كل الشعوب. ولن يستطيع كائن من كان أن يقنع تلك الشعوب أن الضجة المثارة حول حقوق الإنسان ليست سيفاً يسلطه الأقوياء على رقاب الضعفاء. فالقضية لم تعد غزةوفلسطين بعد تقرير غولدستون الذي يتهم دولة الكيان الصهيوني بارتكاب جرائم حرب في غزة، كما يتهم الجماعات المسلحة الفلسطينية، بقدر ما أصبحت قضية مصداقية المجتمع الدولي. فهل نمضي في تأسيس شرعية نقول من خلالها لمرتكبي الجرائم في أي مكان في العالم إنه ليس في إمكانكم أن تفعلوا ما تشاءون، وإن البشر مهما كانت الفروقات بينهم في الدين واللون والعرق والمال ودرجة التحضر، ففي نهاية المطاف متساوون في الكرامة الإنسانية ولا يجوز انتهاك حياتهم؟ أم نصرف النظر عن انتهاكات البعض وبالتالي نعطي آخرين الحجة علينا في أن يفعلوا ما تصوره لهم أوهامهم. بلفور ليس منا لا أحد يعرف وطناً للفلسطينيين غير فلسطين، ولا من أين أتوا قبل أن يستوطنوا في تلك المنطقة، بل لا أحد يعرف لهم اسماً آخر كانوا يتسمون به أو يطلقه عليهم الآخرون غير هذا الاسم، في" لا أحد يعرف وطناً للفلسطينيين غير فلسطين، ولا من أين أتوا قبل أن يستوطنوا في تلك المنطقة " حين أن مرجعية اليهود في تأسيس شرعية دولتهم تعود الى دينهم، وهو دين مهما يكن احترامنا له، إلا أنه في نهاية المطاف يخصهم هم، لكن المهم أنهم وبهذا المعيار الموغل في الخصوصية أعلنوا أن حدود دولتهم تنتهي حيث تستطيع أن تذهب الدبابة، دون أن يحفلوا بخصوصيات الآخرين التي تؤسس لحقوقهم في الأرض وفي أن يكونوا آخرين، وهذا مفهوم لا يختلف عن مفهوم دار الحرب عندنا في الإسلام.. والمفهومان يؤسسان للإرهاب. ومهما تكن الجهود المبذولة حالياً للتهدئة وللتسوية، فإنها لن تقنع أحداً بأن إسرائيل ليست حقيقة تفاوضية، بقدر ما هي حقيقة من حقائق القوة، وقد فرضتها علينا حكومة صاحبة الجلالة في بريطانيا، لأن الضمير الغربي كان يشعر بالخزي والعار، مما لحق باليهود على أيدي المتطرفين الأوروبيين، وهو تطرف ترجع جذوره الى داء عضال أصاب حضارتهم ولو نظروا اليه كذلك لعالجوا موضوع اعتذارهم لضحاياهم بشكل مختلف دون تحميلنا نحن وزر خطاياهم، مع أن السير بلفور الذي قطع لهم العهد والذي جاء فيه أن حكومة صاحبة الجلالة "تنظر بعين العطف الى قضية اليهود"، لم يكن منا حتى نكون ملزمين بتعهداته. لا نملك أن نصمت إذاً، فاغتصاب الأرض، تكفيراً لخطايا أناس لا تخصهم، في حد ذاته يشكل حقيقة تثير الكراهية، وتشكل دافعاً مشروعاً للمقاومة، لكن أن يضاف اليها معاونة المغتصب في ارتكاب مزيد من الجرائم وتحصينه من المسألة، فإن ذلك يدفع الى عدم تحكيم العقل في أمر المواجهة وانتزاع الحق. فنحن أمام أغرب قضية وهي أن يستولي أحد على أرضك وبعد أن يشبع منها، يمنحها الى آخر اعتذاراً عن ذنب، والسؤال هو هل تحقق تلك الطريقة في الاعتذار رضاء الضمير الأوروبي، خصوصاً عندما يتورط أو يصمت حيال انتهاك إنسانية أناس آخرين على يد ضحاياه؟ لا أحد يعترض على أن هنالك محارق ارتكبت في حق اليهود، لكننا نعترض على الطريقة التي غسلوا بها ذنوبهم، فهي على أحسن الفروض قد ألحقت بهم أدراناً عليهم أن يعلنوا استعدادهم لتنظيفها حتى ينعموا بالأمن والسلام. لأنك لا تستطيع أن تقنعني بصحة نظرتك لي أو تجعلني أتصرف وفق ما تتوقعه مني، وأنت تمارس التناقض وسياسة "الكيل بمكيالين". ومهما تكن صحة الأسباب الأخرى التي يرفعها الغرب لتفسير ظاهرة التطرف الديني في العالم العربي والإسلامي، إلا أن موقف الغرب من القضية الفلسطينية يظل أحد أهم تلك الأسباب التي تغذي الإرهاب وتنتجه، لأن الشباب الذين يشبون على مرأى الجثث المتفحمة والبنايات المهدمة، إضافة الى ما هم فيه من انفلات لا بد أن يشبوا على الحقد على مصدر هذا القتل ومعاونيه، والاستعداد للانتحار في وجوههم. الاعتدال المقاتل لكن، مهما تكن مبررات التطرف الديني القائم على اتخاذ مواقف عرقية من الآخر وعدم الاعتراف بتساوي البشر في الكرامة الإنسانية، فإنه لا نبغي له أن يكون المعبِّر الرئيسي عن آمال الأمة الإسلامية وتطلعاتها، لأنه حسب رأيي يعمل على تعبئة الرأي العام العالمي الحر ضد مطالب مشروعة." الحل يتطلب قيادة سياسية معتدلة وليست متطرفة، ترفع الحقوق المشروعة للأمة دون أن تتنحى عنها " ولا أحد ينكر أثر الإرث الظلامي في الاجتهادات الدينية المتوارثة في ضخ الدماء في شرايين التطرف، إلا أن أهم الأسباب التي ساعدت السلفية في العالم العربي والإسلامي على النمو والتمدد، هي خيبة التيار الديمقراطي وانكساراته. فالحل كان ولا يزال في الاندراج في المدنية المعاصرة بمعاييرها الإنسانية، بعد تخليصها من ازدواجيتها وتطبيقها على جميع البشر، وهذا يتطلب قيادة سياسية معتدلة وليست متطرفة، ترفع الحقوق المشروعة للأمة دون أن تتنحى عنها. غير أنه وإضافة الى عوامل ضعف التيارات الديمقراطية الذاتية المذكورة، فإن مواقف الغرب المنحازة لإسرائيل كانت قد زادتها عزلة وضعفاً.