كتبنا مقالاً سابقاً بعنوان: "مسرح اللا معقول في العلاقة بين السودان ودولة الجنوب". وقصدنا بذلك أن النتائج دائماً تكون عكس التوقعات ومخالفةً تماماً لما تعطيه المعطيات على أرض الواقع. وأوردنا عدداً من الأمثلة دليلاً على ذلك. ولعل اتفاق المصفوفة الأخير يسير في نفس اتجاه اللا معقول في العلاقة بين السودان ودولة الجنوب. فقد كانت كل الدلائل على الأرض والمعطيات تشير إلى اتجاه التشاؤم وعدم الوصول إلى اتفاق، وبالتالي فشل جولة المفاوضات. فقد أعلن المؤتمر الوطني عن استراتيجية جديدة للتعامل مع دول الجنوب، كما قلل من جدوى أي قمة بين البشير وسلفاكير. وقد وصف الرئيس البشير القمة الأخيرة ب(اللت والعجن)، وفي الجنوب أعلن سلفاكير أن بلاده لن تتفاوض مع السودان بشكل لا يصل إلى نهايات، متهماً في نفس الوقت حكومة السودان بنشر جيشها على الحدود، معلناً عن نشر جيشه على الحدود وأنه جاهز حتى للحرب. وبعد يوم واحد من التفاوض تسربت المعلومات عن توقيع اتفاق وشيك، وفعلاً تم ذلك وسط دهشة كل المتابعين والمراقبين. وينشأ السؤال هنا، ما الذي حدث... وما الذي جعل الأمور في مسرح اللا معقول تأتي بغير التوقعات؟ الإجابة تأتي من الوقائع على الأرض، إن وفد حكومة الجنوب جاء بتعليمات واضحة من سلفاكير بضرورة التوصل إلى اتفاق مع حكومة السودان. ولكن ينشأ السؤال هنا، ما الذي حمل سلفاكير لإصدار مثل هذه التعليمات لمفاوضيه؟ هنالك عدة احتمالات وربما تكون كلها قد عملت مجتمعة على هذا التغيير المفاجئ في حكومة الجنوب. الاحتمال الأول: ربما يكون قد أدرك سلفاكير جدية حكومة الخرطوم في تصريحاتها الأخيرة بأنها تعمل على تغيير استراتيجيتها في التعامل مع الجنوب. هذا المؤشِّر أوحى لسلفاكير وربما مستشاريه ومعاونيه يأس حكومة السودان من تطبيع علاقاتها مع الجنوب، وأنها ليست على استعداد لتقديم أي تنازلات أخرى، وهذا الذي كانت ترمي إليه حكومة الجنوب من التماطل وفتح الاتفاقات مرة بعد مرة للحصول على المزيد من التنازلات. " سلفاكير ربما أحس دون غيره من أفراد حكومته وحركته الشعبية بما أصاب مواطنيه من جوع وفقر ومرض نتيجة حماقات سياسته بإغلاق خط النفط الذي يمثل المورد الأساس لخزانته " الاحتمال الثاني: ربما أحس سلفاكير دون غيره من أفراد حكومته وحركته الشعبية بما أصاب مواطنيه من جوع وفقر ومرض نتيجة حماقات سياسته بإغلاق خط النفط الذي يمثل المورد الأساس لخزانته، والآثار الكارثية التي تركها هذا الإغلاق على المواطنين. وقد أدرك سلفاكير جدية حكومة الخرطوم بأنها لن تسمح بمرور النفط ما لم تحل كافة الملفات العالقة بين الطرفين، وخاصة الملف الأمني، وقد أدرك سلفاكير أن حكومة السودان لن تسمح بمرور النفط من خلال الإعلان عن الاستراتيجية الجديدة للتعامل مع دولة الجنوب. وقد فشلت كل الضغوط الغربية على الخرطوم للسماح بمرور النفط. كما أن الخرطوم استطاعت إلى حد كبير التقليل من آثار فقدان عائدات النفط، والذي كانت تراهن عليها حكومة الجنوب في إحداث ثورة شعبية تعمل على إسقاط نظام الخرطوم. الاحتمال الثالث: أدرك سلفاكير عدم قدرة الدول الغربية على الإيفاء بتعهداتها بتعويض الجنوب عن كل جالون يفقده عند إغلاق الخط الناقل، وذلك للأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها الدول الغربية وخاصة الولاياتالمتحدة. وهذا في حدِّ ذاته مهما كانت أسبابه يمثل خذلاناً كبيراً للرئيس سلفاكير. أضف إلى ذلك عدم وصول الدعم إلى مناطق حساسة لا يستطيع سلفاكير تفادي آثارها، فقد أصبحت الحكومة عاجزة حتى عن الإيفاء بالمرتبات لأفراد الجيش، والذين لم يكونوا في يوم من الأيام جيشاً منضبطاً، وبالتالي عدم صرف المرتبات يعتبر سبباً كافياً للتمرد. الاحتمال الرابع: وربما تكون الولاياتالمتحدة قد ضغطت على سلفاكير بضرورة التفاهم مع حكومة السودان، وذلك أنه لا توجد مصلحة الآن للولايات المتحدة يمكن استخدام كرت الجنوب فيها (كالانتخابات). وعدم مقدرة الولاياتالمتحدة لتقديم أي دعم جدي للجنوب الآن. بالإضافة إلى أن تدفق النفط كفيل بحلحلة معظم إشكالات دولة الجنوب. وهذا كله يتماشى مع النظرية الاستراتيجية للولايات المتحدة (الرسمية)، والتي ترى أن قيام دولة الجنوب ونجاحها يعتمد على التعاون التام مع دولة السودان. الاحتمال الخامس: ربما يكون سلفاكير قد أدرك أخيراً أن الدولة الوحيدة التي تتعامل معه بصدق هي دولة السودان، وأن كل الآخرين الذين يتعاملون معه يريدون استخدامه لأجندة خاصة بعيدة كل البعد عن مصلحة الجنوب ومصلحة شعب الجنوب. الاحتمال السادس: ربما يكون سلفاكير قد أدرك عدم جدوى الضغوط الغربية على حكومة السودان، وأن هذه الضغوط لم تعمل على إسقاط النظام، كما أنها لم تجعل حكومة السودان تقدّم تنازلات غير تلك التي ترغب في تقديمها. وربما تكون تلك الاحتمالات أو بعضها، وربما غيرها، هي التي أحدثت هذا التغيير لدى الرئيس سلفاكير. وربما تكون هذه القناعات تكونت لدى سلفاكير منذ وقت ليس بالقصير، ولكنه كان يواجه بمقاومة شديدة داخل حكومته، وقد توكل أخيراً وحسم أمره، وربما إعفاؤه لمائة وثمانية عشر جنرالاً كانوا يعارضون الإنسحاب، وإعفاؤه ولاة الولايات المحادة للسودان تكون مؤشّراً قوياً في هذا الاتجاه. الملاحظة الثانية الجديرة بالاعتبار هي الترحاب المبالغ فيه وربما التهليل إذا لم نقل الفرح الزائد عن الحد بهذا الاتفاق، وخاصة من جانب حكومة السودان، وإن كانت حكومة الجنوب لم تخف فرحتها بهذا الاتفاق. ولم تكتف حكومة الخرطوم بالفرحة والقِبطة بالاتفاق، بل تجاوزت ذلك ببدء الإنفاذ الفوري للاتفاق، فقد صدرت التعليمات بانسحاب القوات السودانية فوراً، وتبادل الرئيسان التحايا والتهنئة عبر الهاتف مصحوبة بدعوة من سلفاكير للرئيس البشير لزيارة جوبا. وعقدت جلسة استثنائية لمجلس الوزراء لإطلاعهم على الاتفاق. وربما يكون هذا الذي يحدث مبرراً من حكومة السودان في ضوء ما ذكرنا من الاحتمالات التي أحدثت هذا التحول في موقف حكومة الجنوب. وخاصة من أن عدم الثقة وسوء النية هما من العوامل المهمة التي أفسدت كل الاتفاقات السابقة. ولكن ما دمنا نتحدث عن مسرح اللا معقول في العلاقة بين الشمال والجنوب، فلا بد من أخذ هذا السلوك من حكومة الجنوب في الاعتبار، خاصة وأن تجاربنا معها منذ مفاوضات نيفاشا، مروراً بمرحلة الشراكة، ثم الاستفتاء، ثم الانفصال، كانت عبارة عن ممارسة لسوء النية بصورة مستمرة ضد حكومة السودان. ولم يغب في لحظة من اللحظات عن ذهن الحركة الشعبية وحكومة الجنوب ضرورة تقسيم السودان والسيطرة عليه بالتمكين للسودان الجديد. لذلك (التقلة واجبة). وجد هذا الاتفاق ترحيباً دولياً واسعاً، سواءً كان من الأممالمتحدة أو الدول الأوروبية أو الاتحاد الأفريقي. ولكن الذي يحيّر ويجب الوقوف عنده وإبداء بعض الملاحظات عليه هو موقف الولاياتالمتحدة الأميركية. فقد وجد الاتفاق الترحيب من الولاياتالمتحدة على لسان وزير خارجيتها في بيان مشترك مع الخارجية البريطانية. " مندوبة أميركا بالأممالمتحدة "سوزان رايس" اعترضت ومنعت مجلس الأمن من إصدار مجرد بيان صحفي مرحباً فيه بالاتفاق " ولكن كان هناك موقف آخر في الاتجاه المعاكس من الولاياتالمتحدة تبنته مندوبتها في الأممالمتحدة (سوزان رايس)، فقد اعترضت "سوزان رايس" ومنعت مجلس الأمن من إصدار مجرد بيان صحفي مرحباً فيه بالقرار. وهذا ربما يعكس الآراء (المتعاكسة) في داخل الإدارة الأميركية في الموقف من السودان من النظرة الأولى، ولكن من النظرة الفاحصة ندرك أن المؤسسات في داخل الولاياتالمتحدة، وعلى الرغم من الاعتبار للاختلاف في وجهات النظر، لا تعمل بمعزل عن بعض. وخاصة العلاقة بين وزارة الخارجية والمندوب الدائم في الأممالمتحدة، فلا يمكن أن يتبنى المندوب الدائم موقفاً يكون غير مقبول أو غير مقنع لوزارة الخارجية. ولكن يمكن أن نفهم من ذلك أن الإدارة الأميركية تحاول بذلك إرضاء قوى مختلفة ومتصارعة لها مواقف متباينة من السودان، وهذا ما يعقد أمر السودان في داخل الولاياتالمتحدة. ومن كلِّ ذلك إذا أردنا أن نخلص إلى مستقبل هذا الاتفاق ومدى حظوظه من النجاح، يمكن أن نخلص إلى الآتي: أولاً: من المعطيات وما ذكرنا من تحليل، وربما مواقف أثناء التفاوض، وردود الفعل بعد التفاوض، نرى أن هنالك حظوظاً كبيرة لإنفاذ هذا الاتفاق، وربما يكون النجاح في إنفاذه بداية التحول في العلاقة بين الشمال والجنوب. ثانياً: هنالك عقبات كثيرة وربما قوى كثيرة لا ترغب في التقارب بين الشمال والجنوب، وربما تعمل على إفساده، ومن هذه القوى إسرائيل والتي تبني استراتيجيتها للسودان على أن يكون السودان في حالة عدم استقرار مستمر. هذا إضافة إلى حركات دارفور، والحركات الثورية، وقطاع الشمال، والتي سوف يكون هذا الاتفاق إذا تم إنفاذه يعني فناءها وعدم وجودها، ولذلك ستعمل جاهدة لإفشال هذا الاتفاق، وقد بدأت بالفعل، وذلك بالتصعيد الذي يتم في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. كذلك المتنفذين في داخل حكومة الجنوب، وأبناء أبيي بالتحديد، ويؤكد ذلك المخاشنات التي حدثت بين دينق ألور وباقان. ولذلك نعتقد أن الاتفاق سيتم الاجتهاد على إنفاذه من الجانبين، وسيصاحب ذلك عقبات كثيرة، فإذا لم يتم التحسب لها فسوف يتم نسفه كما تم نسف السابقات. Email: هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته