بضع لحظات تستحضر فيها كثيراً من الأهوال في جنوب السودان كمجزرة بور، فقبل أن يصبح الجنوب دولة بمدة طويلة، وعندما كان لا يزال في خضم إحدى أطول الحروب الأهلية في إفريقيا، اجتمع المحاربون حول قائدٍ يسمى رياك مشار. اقتحم مشار مدينة بور عام 1991م مخلِّفاً 2000 من القتلى الجنوبيين في هجوم عرَّى الانقسامات العميقة في هذه الأرض الفقيرة. ومن بعد ذلك حظي أهل جنوب السودان بفترات من السلام والتسويات، بل والبهجة المشتركة لدى مولد دولتهم في عام 2011م وأن مشار نفسه أصبح نائباً للرئيس معتذراً عن تلك المجزرة. لكن ليس هناك تصالح حقيقي ودائم بين الفصائل التي تهدد بتمزيق هذه الدولة الجديدة، حيث أن المحاربين الذين تحالفوا مع مشار اقتحموا بور مرة ثانية. وفي هذا يقول جون برندرقاست عضو مشروع كفاية Enough Project وهي منظمة غير ربحية تعنى بمكافحة الإبادة الجماعية: "هذه نار في انتظار الاشتعال". زعماء العالم عندما ضغط زعماء العالم على جنوب السودان لكي يبرز إلى الوجود حيث رأوا في كينونته الطريق الأفضل لإنهاء عقود من الحرب مع جاره الشمالي، السودان كانوا مدركين تماماً أن المنافسات الداخلية المُرَّة في الجنوب لم تُحل حلاً نهائياً. إن المانحين الدوليين كالأممالمتحدة والولايات المتحدة ضخوا ملايين الدولارات من المساعدات لكيما يدعموا الفرص الضعيفة لهذه الدولة آملين في خلق دولة قابلة للنمو في واحد من أفقر الأماكن على وجه الأرض. ولكن المحللين يقولون إن ما ظل مفقوداً لمدة طويلة هو وجود وسيلة معتمدة لتسوية الصراعات بطريقة من شأنها أن تحفظ الدولة الجديدة من أن تدور في حرب أهلية من تلقاء نفسها. وقال تشارلس ستيث السفير الأميركي لدى تنزانيا خلال إدارة كلنتون "إذا لم تحل تلك القضايا مسبقاً في الوقت الذي لا يزال هناك تأثير لوضع الناس لدى الطاولة فإنك تكون بذرت البذور لتدهور أي اتفاق يتم التوصل إليه". تمزيق الطبقات " صناعة الأزمة كانت باقية قبل اشتعال القتال في زواج المصلحة العابر الذي وضع آمال جنوب السودان في أيدي متنافسين سياسيين كثيراً ما تشاطروا ماضياً طويلاً ومؤلماً " إن الاقتتال الذي يعمل الآن على تمزيق طبقات هذه الدولة اندلع في ثكنات عسكرية في جوبا العاصمة يوم 15 ديسمبر، حيث اتهم الرئيس سلفا كير السيد مشار بتدبير محاولة انقلابية، ونفى مشار ذلك لكنه فرَّ إلى الغابة مطالباً سلفا كير بالاستقالة. وسرعان ما انداح الاقتتال بين القوى الموالية لكل طرف إلى 20 مدينة على الأقل متسبباً في نزوح 180000 شخص وقتل 1000 شخص على الأقل وربما أكثر ومعظمهم من المدنيين. ولكن صناعة الأزمة كانت باقية قبل ذلك الحين في زواج المصلحة العابر الذي وضع آمال هذه البلاد في أيدي متنافسين سياسيين كثيراً ما تشاطروا ماضياً طويلاً ومؤلماً. وقال مسؤول أميركي كبير فضَّل عدم ذكر اسمه حول المفاوضات قبل سنوات من الاستقلال "لم نقترح من الذي يجب أن يكون رقم 1 أو رقم 2 أو رقم 3 في الحكومة، فذاك خيارهم لوحدهم، فهم قبلوا عودة رياك مشار إلى الحكومة". سماسرة السلطة وكثيرٌ من سماسرة السلطة وجنرالاتها في هذه البلاد بدلاً من أن يحكموا من خلال المؤسسات القوية فإنهم ما زالوا يديرون قواتهم الخاصة، وأن ولاءاتهم للحكومة كثيراً ما يحددها استقطاعهم من العوائد النفطية القومية. يقول أليكس دي وال المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي بمدرسة فلتشر، جامعة تافتس "إنه عملٌ ابتزازي مع استمرار المقايضة على أساس منتظم: فإما العنف أو التهديد بالعنف باعتباره شكلاً من أشكال التفاوض". عندما تنهار الأشياء فإن الوضع سرعان ما ينغمس في العنف، فقوات التمرد هاجمت بور حيث اشتبكت في اقتتال ضار مع القوات الحكومية في المدينة التي تمثل موقعاً استراتيجياً يعتبر بوابة لجوبا . وقال العقيد فيليب أقوير المتحدث الرسمي باسم جيش جنوب السودان إن القتال كان مكثفاً جداً، في الوقت الذي قال فيه ناطق رسمي باسم الأممالمتحدة إن المتمردين استولوا على شريط جوي وملتقى طرق كبير يؤدي إلى العاصمة. غرق بالنهر " الوسطاء الدوليين يهرولون لحمل الأطراف إلى طاولة التفاوض قبل أن تتصاعد دورة العنف أكثر،فقد اتفق كلا الطرفين على إرسال مفاوضين إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا " ونجد جاكوب أجيك جوك "29 عاماً" قد فر من بور عندما كان المقاتلون على وشك الدخول إلى المدينة، كما أن كثيراً من السكان الآخرين المرعوبين حاولوا الفرار أيضاً إما عبر الطريق أو عبر النيل الأبيض والبعض لم يفروا، حيث قال جوك "كثير من المواطنين العاديين غرقوا في النهر". إن الوسطاء الدوليين يهرولون لحمل الأطراف إلى طاولة التفاوض قبل أن تتصاعد دورة العنف أكثر. فقد اتفق كلا الطرفين على إرسال مفاوضين إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بيد أن القتال ظل مستمراً حيث أوردت بعض وكالات الأنباء عن مشار قوله إنه سيزحف على العاصمة المرة القادمة. وقالت دينا المفتي الناطقة باسم وزارة الخارجية الإثيوبية "المعلومات التي لدينا أن كلا الطرفين في طريقهما إلينا، فنحن نتوقع وصول كلا الوفدين ربما اليوم". إن مشار القائد الذي تلقى تعليمه في بريطانيا والمنتمي لمجموعة النوير العرقية، قد انشق من حركة التحرير الجنوبية الرئيسة خلال حرب الاستقلال الطويلة من السودان. مجموعة عرقية وقام أنصاره خلال تلك الفترة بذبح أفراد المجموعة العرقية للدينكا التي ينتمي إليها كير في بور عام 1991م. وفي النزاع الحالي تحول صراع السلطة بين المتنافسين في ذات الحزب السياسي كير ومشار إلى موجة من الاغتيالات العرقية وضعت هذه البلاد في حافة الحرب الأهلية. وكما كان عليه الحال أثناء كفاح الاستقلال نجد كل طرف في الصراع الحالي دينكا ونوير متهماً بقتل المدنيين في الأسابيع الأخيرة. فقد قال قديت كوانق دينق 31 سنة أحد ال 75000 شخص الذين اتخذوا لهم مأوىً في قواعد الأممالمتحدة بالبلاد "إن جنوب السودان لم يكن مستعداً للاستقلال الذي ناله عام 2011م. ويضيف "نحن يجب أن نكون تحت إشراف الأممالمتحدة لمدة عشرة أعوام على الأقل حتى نعلِّم شرطتنا الانتظام ونعلِّم جيشنا التصرف". إن حالات التمرد في الريف والعنف الذي تمارسه الأجهزة الأمنية غير المنضبطة كثير منها عبارة عن أفراد مليشيا سابقين تم استيعابهم في القوات المسلحة قد أعطت إشارات مبكرة بأن جنوب السودان سيظل يصارع بانقساماته. مناصب عليا فأفراد الجيش الشعبي لتحرير السودان لم يكونوا سعداء وهم يرون المتمردين الذين يعتبرونهم خونة قد مُنحوا مناصب عليا ومرتبات دون الآخرين الذين ناضلوا بإخلاص من أجل القضية. فقد قال جوك مادوت جوك أحد مؤسسي معهد السد وهو مجموعة بحثية بجوبا "لدينا كل هذه المليشيات المسلحة التي يجب على الحكومة رشوتها ووضع قوادها في مناصب عليا فوق قوات الجيش الشعبي حتى تضمن عودتها إليها". وأضاف جوك قائلاً "لقد كان منصب مشار نائباً للرئيس جزءاً من الثمن الذي كان على البلاد أن تدفعه حتى تحصل على نوع من الاستقرار، فكثيرٌ من الناس كانوا يقرعون نواقيس إنذار التشظي السياسي قبل أن يبدأ القتال في 15 ديسمبر". لقد جعلت التوترات مهمة الحكم الصعبة أكثر تحدياً لبلادٍ فقيرة ذات طرق قليلة ورعاية صحية ضعيفة ومدارس غير كافية. منافسة على الرئاسة " في يوم 6 ديسمبر عقد مشار وأكثر من عشرة من مؤيديه مؤتمراً صحفياً اتهموا فيه سلفاكير ب "جرِّ جنوب السودان إلى الفوضى والاضطراب من خلال محاولات تركيز السلطة التي من شأنها أن تودي بالحزب والبلاد إلى الهاوية " فبعد أن صرَّح مشار أنه بصدد منافسة الرئيس في انتخابات 2015م قام سلفا كير بفصله وطرد بقية أعضاء حكومته في يوليو بما أنهى اتفاقية قسمة السلطة المرتبكة التي كانت توحد الحكومة. ومن ثم في يوم 6 ديسمبر عقد مشار وأكثر من عشرة من مؤيديه مؤتمراً صحفياً اتهموا فيه كير ب "جرِّ جمهورية جنوب سوداننا الحبيب إلى الفوضى والاضطراب من خلال محاولات تركيز السلطة التي من شأنها أن تودي بالحزب والبلاد إلى الهاوية". وبعيد ذلك مباشرة تم اعتقال حلفاء مشار وقال شهودٌ إن مواطني مشار من النوير قد تم جمعهم وقتلهم في العاصمة مما أدى في الحال إلى هجمات انتقامية ضد المجموعة العرقية لسلفا كير في أجزاء أخرى من البلاد. قال جوك مادوت عضو معهد السد "إن الرجلين سيجلسان على الأرض في نهاية الأمر ويحسمان قضاياهما ويبتسمان للكاميرات ولن يوضع اعتبار لآلاف المدنيين الذين ماتوا، فلن يكون هناك أحدٌ مسؤولاً عن موتهم".