شعور خفي يدفعني أن أهدي كتابتي هذه للبروف عثمان جمال الدين وللدلال إبراهيم عالم، تلفه عمامة وجلباب، وينزوي في ركن قصي بتلفزيون السودان، ولشيخ الأعاريب كاكوم فتى يجيء من زمان الفوارس. الدراما الآن وفي ورطة كونية تلقي بالعباءة القديمة وتتسيد حقولاً جديدة حتى نشرات الأخبار وربطة العنق الأنيقة، وبيانات ملثم من جبال سوات، لا علينا الآن وتلك قصة أخرى. عندما يرش (الكابلي عوض الكريم وليس المغني المعروف) وجه بدرية ابنته بماء طوبة المتيبس من فرط صحراء العتامير، تشيح عنه ما بين الضجر والرجاء "عليك الله يابا الصبح ملحوق أنا عندي حاحاي طير؟" والكابلي يحشد الجميع لتلقي بركات الفجر الفواحة. آه يا "حاحاي الطير" وما أدراك ما "الحاحاية". * والحاحاي تعني عملية طرد الطير من الزراعة، حتى لا يأكل سنابل القمح والذرة الشامية، في مناطق شمال السودان، والحاحاية هي المكان الذي يتخذه الشخص المكلف بعملية الحاحاي. رجم الطير عليك أن تتهيأ ل"صحيان الدغش" وشاي "البياح"، لا تفرز لون الكباية، من لون الشاي وإن كانت الحواشة بعيدة عليك بالحمار والخُرج "بضم الخاء"، والخرج من أجل التحميل بأكبر عدد من الحصي المخصص لرجم الطير. "بعد ما لبّن أدّوهو الطير" وتلك أقصى ما يتعرض له من تسوّل له نفسه الكسل والإهمال. لذا أول ما تستوي سيقان الذرة تعجب الزراع وتحبل بالقندول "الما خمج"، يستعد أهل البيت ل"الحاحاي" فيتم نصب "الحاحاية" في منتصف الحواشة، وهي عبارة عن أربعة شعب من عيدان السنط عادة والذي تزين أشجاره الشريط النيلي، بطول يرتقي ويتجاوز طول سيقان الذرة ليصل للثلاثة أمتار ونيف، لينسج عليها ما يشبه "العنقريب" وهو المكان المخصص للصبي المناط به "حاحاي" الطير أي منعه من أكل القندول. وبواسطة شبكة اتصالات محكمة الصنع ترتبط أطراف الحواشة وحوافها ب"عارات" مفردها "عار" وهي عود بطول "الحاحاية" يغرس في الحواف ويعلق عليه صفيح مملوء بالحصحاص ليتصل بحبل متين بالمركز أي "الحاحاية"، وعند نزول الطير في أي جهة يتم هز "العار" المخصص لتلك الجهة وإن كان طير "رأسه قوي" تكون "الجداعة" حاضرة إذ يتم إطلاق صاروخ من برج المراقبة باتجاه "الزرزور" العنيد. * والزرزور نوع من الطيور الصغيرة. حكاوى و"بلاوي" وفي هذا حكاوى وبلاوي، إذ يحكي عن قريبنا الذي ما زال الأبناء زغب الحواصل ولم يبلغوا مبلغ إدارة "الحاحاية" بعد، بأنه تولى شخصياً إدارة شؤون "الحاحاي" ومعه حرمه المصون. الرجل عليه أن يعتلي ظهر "الحاحاية" والحاجة -أي زوجته- تجري بالأطراف "تنش" الطير من هنا ومن هناك، وعندما حمي الوطيس واشتد أوار المعركة، بلغ بهما التعب مبلغه وأصبح الطقس العام عبارة عن "أبو الزفت خمسة شنكل". وتحول الأمر من جدع الطير إلى حرب ضروس ما بين الزوج المتمترس بأعلى الحاحاية والزوجة المحجوبة خلف سيقان العيش وحجر من هنا وحجر من هناك حتى قال الزوج قولته المشهورة "فرد مره لقيت حجراً سكت "أي "كفت" المسكينة عن مواصلة المعركة، فساور الزوج خوف دفين ونزل ليستكشف الأمر فوجدها ممدة أرضاً، وواصل الحكي "أتاري يا جنا حجري مكنا" أي قضى عليها. صوت الرباطابي أما قريبنا المنصوري، والمناصير يعرفون جيداً كيف يفلحون الأرض، زرع عيشه بالتساوي مع العطا صاحب الأرض والبابور بالتساوي كل فدانين، وعند الحصاد عبأ المنصوري ستين جوالاً وشيخ العطا لم يتجاوز العشرة، وتساءل الناس عن السر والأرض ذات الأرض، وهنا قال المنصوري قولته التي صارت مثلاً "العطا عيشو ودرتو الجمعي" أي شيخ العطا كان يذهب للصلاة في ميقاتها ويوم الجمعة لا يأتي لحراسة الطير أصلاً. أما الفنان الشعبي الشهير أحمد عمر الرباطابي على قبره شآبيب الرحمة والغفران لم "يحاحي" طيراً قط وعندما سئل عن السبب قال "أنا صوتي الناس بالقروش ما لاقنو أودرو في الطير بالمجان"، وقد كان. "زرزور" مستبد وموسم "حاحاي" الطير من أخصب المواسم، فالحسان يردن "لحش القش" وذاك حديث تعطره الشجون. والرحلات الممتعة عن البحث ل"قصبة" حلوة وتعرف من شريط أزرق بالصفقة و"القصبة" في حد ذاتها تشمخ رامزة للكبرياء الجميل. "يا قصبة منصح الوادي المخدر زرّو.. جعلت قلبي تطوي وكل ساعة تفرّو". والطير كذلك "خشم بيوت"، منه طير الخلا الذي يفر من أول هزة "عار" ومنه طير البيوت، الذي كأن شيئاً لا يعنيه، وهذا الذي جعل عبدالله الجابري "ينط" من أعلى الحاحاية فوق زرزور عنيد ويصاب بإصابات بليغة والزرزور المستبد "مصنقر فوق القنقرة" المجاورة. وأهم شيء في الحاحاي أن يلوح في الأفق من يحمل "عمود" الإفطار أو الغداء، خاصة وإن كان معه "سيرمس" الشاي فتلك نعمة لا تقدر بثمن. ومجهود الحاحاي يبين عند الحصاد "والله تبارك الله أولاد فلان عيشن نزلت فيهو البركة حرسو حراسة جد". بينما آخرون "أريتن أولاد السماد والرماد بالمسخرة واللعب، الطير ما خلا شيء، بري بري يا يمة منهن". صراع البقاء والحاحاي عادة يستمر لقرابة الشهر تبدأ من فجر الرحمن حتى معاودة الطير لأوكاره وإن تزامن مع موسم البلح فهناك قيلولة. ومن له "حاحاية مكربة" فهو الفائز ب"ونسة نص النهار"، إذ يتجمع عنده أصحاب الحاحايات المجاورة، والويل لمن يضبطه الأب أو الأخ الأكبر وهو تارك مكانه والطير يرتع. أمي عليها رحمة الله إذا استوى العيش على سوقه وهو بقارعة الطريق تقوم بتعليق "عضم" حمار ميت، وعندما نسأل ترد "يا أولادي العين النبي اتعوذ منها". سيدي وزير الزراعة، الآن الجميع غادر تلك البراحات لأطراف الخرطوم والطير هاجر لأن صراع البقاء بينه ومزارع هصور انتهى.