مع اقتراب موعد اللحظة التاريخية لتوجه ملايين السودانيين نحو صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في أول انتخابات تعددية منذ نحو ربع قرن من الزمان، بدأ عشرات المراقبين الدوليين في التقاطر نحو السودان لمراقبة الانتخابات التي تمثل حجر الزاوية في إقامة النظام السياسي الديمقراطي في أكبر بلدان القارة الأفريقية. والسودان حسم مبكراً الجدل المتعلق دائماً بالرقابة الدولية على الانتخابات، وما إذا كانت تمثل شكلاً من أشكال التدخل الخارجي في الشأن الداخلي وتهديداً للسيادة الوطنية، وذلك باعتبار أن الانتخابات تجرى بموجب استحقاقات اتفاقية السلام المبرمة بين شمال السودان وجنوبه بعد 21 عاماً من الحرب الأهلية الطاحنة والتي نصت على الرقابة باعتبارها ضمانة لنزاهة العملية الانتخابية. فكرة الرقابة وتطورها إن فكرة المراقبين الأجانب للانتخابات لديها تاريخ طويل نسبياً، حيث بدأت لأول مرة عام 1857، عندما قامت فرق من فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا وتركيا بالإشراف على استفتاء في مولدوفيا. وتطور الأمر في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث طلب من الأممالمتحدة مراقبة الانتخابات في كوريا وألمانيا. وتسارع التطور خلال سنوات انتهاء الاستعمار 1950-1960، وعرف ذلك التطور ب"الجيل الأول" من المشاركة في الانتخابات التأسيسية للتأكد من أنها كانت حرة ونزيهة. وجاء بعدها ما يسمى ب"الجيل الثاني" من بعثات مراقبة الانتخابات وهي أكثر شمولاً، وأصبحت أكثر شيوعاً مع نهاية الحرب الباردة وبروز الإجماع العالمي المتزايد على قيمة الديمقراطية، وكانت البداية مع ناميبيا عام 1989، وبعدها تلقت الأممالمتحدة أكثر من 140 طلباً للحصول على المساعدة الانتخابية من الدول الأعضاء. أهمية الرقابة إن وجود مراقبين للانتخابات هو خدمة لمنع الاشكالات وإعطاء الأحزاب مزيداً من الثقة بأن الانتخابات كانت حرة ونزيهة، والمفتاح لتحقيق هذه النتيجة هو المراقبون الذين ينظر إليهم من قبل جميع الأطراف على أنهم محايدون، كما أن وجود المراقبين يعزز ثقة الناخبين في نزاهة العملية الانتخابية ونزاهة هيئة إدارة الانتخابات. " المراقبة بالنسبة للانتخابات المرتقبة في السودان تكتسب أهمية إضافية، باعتبارها التزاماً دستورياً للمفوضية القومية للانتخابات، نص عليه قانون الانتخابات " واكتسبت عملية مراقبة الانتخابات أهمية خاصة في العقود الأخيرة لكونها تحدد بشكل كبير جودة ونزاهة الانتخابات، ويقول المحامي المختص في التنمية الدولية إريك بيورنلند في حوار مع موقع (نشرة واشنطون)، إنه منذ عقد الثمانينيات نمت مراقبة الانتخابات المحلية والدولية، بحيث أضحت وسيلة مهمة للتأكد مما إذا كانت الانتخابات، وخصوصاً في دول الطور الانتقالي أو دول ما بعد النزاعات، قد جرت بطريقة حرة ونزيهة. وبالنسبة للانتخابات المرتقبة في السودان، فإن المراقبة تكتسب أهمية إضافية باعتبارها التزاماً دستورياً للمفوضية القومية للانتخابات، حيث تنص المادة 41 من قانون الانتخابات القومية لسنة 2008 على أنه لأي مواطن -بلغ العمر الذي حدده الدستور والقانون- أن يصوت أو يتم ترشيحه في انتخابات دورية. ولضمان شفافية الانتخابات، أعطى قانون الانتخابات القومية لسنة 2008 المفوضية الحق في دعوة مراقبين وطنيين ودوليين، كما تنص الأجزاء 104 و105 و106 من الفصل الحادي عشر من قانون الانتخابات القومية على سلطة المفوضية القومية للانتخابات في دعوة المراقبين وتحديد مهامهم وإلغاء اعتمادهم. كما ينص قانون الانتخابات بند دعوة المراقبين الجزء 104، على أن للمفوضية الحق في دعوة الدول الأجنبية أو المنظمات الدولية أو الإقليمية بالإضافة إلى الدول الراعية لاتفاق السلام الشامل أو قبول طلباتها لحضور ومراقبة أي انتخابات أو استفتاء منصوص عليه في الدستور، وأن تقترح ممثلي تلك الدول، شريطة أن يتم اعتماد هؤلاء الممثلين رسمياً من قِبل المفوضية. سلبيات بعثات المراقبة خلصت مجمل الدراسات التي رصدت تجارب المراقبة الدولية، إلى أن الغرباء غالباً ما يجهلون الظروف المحلية المتعلقة بالتاريخ والثقافة، وما شابه ذلك، كما أن بعثات المراقبة غالباً ما تصل قبل وقت قصير من التصويت وتفتقر عادة إلى اللغة أو التدريب الثقافي لتمكينها من إجراء تقييم فعال للتصويت، كما أن بعثات المراقبة الدولية تتخلى في كثير من الأحيان عن العمل مع المراقبين المحليين وذلك لتفادي الظهور بمظهر التحيز. وبجانب تلك السلبيات هناك مشكلات أشد خطورة، فقد رصد المهتمون بعمليات الرقابة الدولية أن معظم البعثات لم تكن مستقلة تماماً فهي مرتبطة دوماً مع الكيانات التي تقدم لها التمويل ودائماً ما تأتي تقاريرها وفقاً لمتطلبات التمويل، وبذلك تميل لمصدرها بدلاً من الوفاء بمهمة مراقبة الانتخابات، ولا سيما بالنسبة للمنظمات الحكومية الدولية، كما أن العديد من المنظمات غير الحكومية ليست مستقلة تماماً، فبعضها لديه اتصالات مع أحزاب سياسية خاصة أو منظمات دينية. وفي هذا الخصوص، يمكن الإشارة إلى خلاصة إحدى الدراسات التي أجريت حول مواقف بعثات المراقبة الدولية للانتخابات الزيمبابوية، فقد اختتمت الدراسة بالقول: "على الرغم من مئات المراقبين الذين شهدوا الانتخابات الرئاسية نفسها، وتنوع تقاريرهم الرائع جداً، فإن بعضهم تحدث عن انتخابات حرة ونزيهة بشكل عام، والبعض الآخر تحدث عن التخلي عن كل المعايير الانتخابية". أول نماذج المخاطر في السودان تشير كل الدراسات التي أجريت على تجارب المراقبة الدولية، إلى أن النظام الراهن لرصد الانتخابات يفتقر إلى الضوابط الكافية، وهو عرضة للخداع، وليس له علم دقيق يتحكم به، ويستخدم أعضاء المراقبة دائماً قدرة مختلطة ويلجأ بعضهم إلى اتباع النصوص المكتوبة مسبقاً من قبل كفلائهم. وهذه العيوب في نظام لا يمكن علاجه بسهولة، على الرغم من كل الكلام عن فرق المراقبين والتدريب، ووضع معايير مشتركة وتنسيق عمل البعثات. ويمكن في هذا السياق أن نشير إلى مفارقة وقعت من بداية عمل المراقبين الأوروبيين والأميركيين، ففي حين أعلن مركز كارتر للديمقراطية، أحد مراقبي الانتخابات السودانية، عن مخاطر تهدد قيام الانتخابات القادمة في أبريل منها تدهور الأوضاع الأمنية في دارفور وشرق السودان وقدم مقترحا يدعو للتأجيل ولو لفترة قليلة، سارع الأوروبيون في اليوم الأول لتدشين عملهم بالسودان للتقليل من ما ذهب إليه الأميركيون، وقالت رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات في السودان السيدة فيرونيك دي كيسر عضو البرلمان الأوروبى عن بلجيكا: "لو انتظرنا نهاية النزاعات فلن تكون هناك عملية ديمقراطية"، وأضافت "أنا أوروبية وأعرف أن مشوار العملية الديمقراطية طويل جداً وتاريخنا في أوروبا كانت به العديد من الحروب والنزاعات وخلالها استطعنا تشييد النموذج الأوروبي الراهن". التعامل المطلوب أمام كل هذه المخاطر والسلبيات في عمل بعثات المراقبة، فإن كثيراً من المراقبين يرون بأن التعامل مع بعثات ومنظمات المراقبة الأجنبية ومقترحاتها، يتطلب قدراً وافراً من الحذر وأخذ الاحتياطات اللازمة، كما يتطلب جاهزية عالية وتوظيف القدرات الوطنية والدولية والصديقة لسبق هذه المنظمات بتصورات متقدمة تكبح أطماع هذه المنظمات بالتدخل." المراقبون يجب حملهم للتعامل وفقاً لبنود الوثيقة الدولية التي تحدد صلاحيات المراقبين وأغراض مهامهم، والتي ترسم حدود تحركات المراقبين وتلزمهم بالتقيد بالتزامات مهنية وسلوكية محددة " وعلى الرغم من أن التجارب الانتخابية تتباين وتختلف في ظروفها وبيئاتها، وعلى الرغم من اختلاف أوضاع السودان عن كثير من الدول، إلا أنه يجب أخذ العبر من بعض التجارب التي أسهمت منظمات الرقابة الدولية على الانتخابات في إدخالها في دوامة صراعات تلت فترة الانتخابات، وذلك بإصدارها تقارير أسهمت في التشكيك في نزاهة الانتخابات ونتائجها، ومن أقرب هذه التجارب في أفريقيا تجربتا الانتخابات الكينية والزيمبابوية. ويبقى المطلوب أكثر التعامل بحسم مع أي تجازوات، ولعل ذلك أثبت نجاعته حينما حذر الرئيس السوداني عمر البشير الجهات التي تراقب الانتخابات من التدخل في شؤون بلاده، وهدد بطرد أي منظمة تدعو إلى تأجيل الانتخابات بقوله "إن الخرطوم تريد من المراقبين أن يرصدوا حرية الانتخابات ونزاهتها، لكنها ستقطع دابرهم وتطردهم إذا تدخلوا في شؤون البلاد الداخلية". وجاءت نتيجة هذا الموقف الحاسم بعد ساعات، حيث أعلن مركز كارتر تراجعه عن مقترحاته الداعية لتأجيل الانتخابات وانتقاداته للأوضاع بالبلاد. وبالتالي فإن التعامل مع فرق المراقبة منذ اليوم الأول بعلمية وانضباط وصرامة وعدم التهاون معها، مطلوب حتى لا تتجاوز حدود مهامها طوال فترة الانتخابات، كما يجب حمل المراقبين للتعامل وفقاً لبنود الوثيقة الدولية التي تحدد صلاحيات المراقبين وأغراض مهامهم، والتي ترسم حدود تحركات المراقبين وتلزمهم بالتقيد بالتزامات مهنية وسلوكية محددة. وفي هذه النقطة يقول السفير محمد عبدالدائم الخبير الوطني ومسؤول المراقبة بالمفوضة القومية للانتخابات: "لقد نصت قواعد المراقبة والسلوك في الانتخابات على سحب اعتماد المراقبين الدوليين حال ثبات قيامهم بعمل يخل بقانون الانتخابات أو اللوائح المصاحبه له. وأثناء الأيام الصعبة المقبلة من عمر العملية الانتخابية، فإن المطلوب بشدة وجود جسم وطني مرجعي ومركزي، ترفع له التقارير من جميع الوحدات الانتخابية للتعامل أولاً بأول مع المستجدات، ويقوم هذا الجسم أيضاً بوضع خطة للتعامل مع الميديا العالمية وممثليها الذين سيحضرون لتغطية الانتخابات والذين يقومون بفتح قنوات مباشرة مع المراقبين الدوليين.