شاهد بالفيديو.. الفنان محمد بشير يصلح لسيدة سودانية ثوبها بعد أن سقط منها أثناء تفاعلها معه في الرقص على أنغام إحدى أغنياته    كامل إدريس يصل بورتسودان استعدادًا لأداء القسم وتولي مهامه رسميًا    مناوي يهنئ الشعب ب"الانتصار العظيم" في معركة الخوي ويشيد بصمود القوات    الذكاء الاصطناعي يتوقع الفائز بدوري أبطال أوروبا 2024-2025    شاهد بالفيديو.. بعد أن أبلغه بنيته الارتباط بمطربة شهيرة.. شاب سوداني ينصح صديقه بعدم الزواج من 4 أنواع من النساء من ضمنهم الفنانة والدكتورة (أحذرك من المرأة الشغالة وبيتك بكون فاتح زي الخلوة)    شاهد بالفيديو.. حسناء الفن السوداني مونيكا روبرت تشعل مواقع التواصل وتهز جسمها في وصلة رقص مثيرة على أنغام أغاني الدلوكة    شاهد بالفيديو.. شريف الفحيل يواصل هجومه على زملائه هجومه على زملائه الفنانين لعدم وقفتهم معه: (أنا واضح في حربي تجاهكم ولو اتشقلبنا ما بنحصل الراحل الجزار ولن نكون أعظم منه)    قال الفريق ياسر العطا إن الجيش لن يتدخل في عمل رئيس الوزراء ..!    "الدعم السريع" تعلن تحرير "الدبيبات" الاستراتيجية بجنوب كردفان (فيديو)    نسرين طافش تستعرض أناقتها بفستان لافت| صور    نهاية درامية.. من البطل؟.. الأهلي وبيراميدز يحتفلان بلقب الدوري المصري    إيلون ماسك يغادر منصبه بالحكومة الأميركية.. ويشكر ترامب    الهلال يختتم الدوري الموريتاني بفوز صعب على إسنيم    جَان بالشمال و(جَاك) باليمين وبالعَكس!    جاءت الفرصة تسعى للأزرق العاتي    إنهيار قوات المليشيا بمحاور القتال المختلفة في كردفان    احذروا من (المشوطن) عند اقامة الصلاة    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن حادثة سرقة ثمانية كيلو ذهب وتوقف المتهمين    مقارنة بين أرقام رونالدو ومبابي في موسمهما الأول مع ريال مدريد    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    زيدان: أحلم بتدريب منتخب فرنسا... لا أطيق الانتظار!    وفاة الأسطورة الأرجنتينية خوان فيرون عن 81 عاماً    إعادة تعبئة (العَرَقِي) القديم في (كريستالات) جديدة..    نتنياهو قد يأمر بشن هجوم على إيران حتى بعد اتفاق مع واشنطن    من مجنون إلى لاعب بالنار.. "ترامب يفقد صبره مع بوتين"    مشاهد صادمة في مركز عزل الكوليرا بمستشفى النو    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    مباحث ولاية القضارف تنجح في فك طلاسم جريمة في فترة وجيزة – صور    حنان فرفور: لنحتفل بالشعر والحلم والحياة برغم أنف الموت والخراب    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (صفا .. وأسترح)    بشاشة زرقاء.. "تيك توك" يساعد الشباب على أخذ استراحة من الهواتف    علامات خفية لنقص المغنيسيوم.. لا تتجاهلها    حبوب منع الحمل قد "تقتل" النساء    رحيل "عطر الصندل".. وفاة الفنان والمخرج أحمد شاويش    العقوبات الأمريكية تربك سوق العملات وارتفاع قياسي للدولار    إحباط محاولة تهريب 60 ألف دولاراً أميركياً    السلطات في بورتسودان تضبط تفشل المحاولة الخطيرة    تحذير من بنك الخرطوم: ملايين العملاء في خطر    العناية الإلهية تنقذ مراسل قناتي "العربية" و "الحدث" بالسودان بعد إصابته بطلقة في الرأس    بالصور.. شرطة ولاية البحر الأحمر وباسناد من القوات الأمنية المشتركة تنفذ حملة بمحلية بورتسودان وتضبط عدد 375من معتادي الإجرام    الكشف عن نهب آلاف الأطنان من الصمغ العربي من مناطق النهود والخوي وود بخيت    ضمانا للخصوصية.. "واتساب" يطلق حملة التشفير الشامل    "رئيس إلى الأبد".. ترامب يثير الجدل بفيديو ساخر    الجنيه السوداني يواصل رحلة التدهور مع استمرار الحرب    المؤتمر الاقتصادي بنيالا يوصي بتفعيل الاتفاقيات التجارية مع دول الجوار    349 الف جوال قمح انتاجية الموسم الشتوي بمشروع حلفا الجديده    ولاية القضارف: وجهة جديدة للمستثمرين في ظل التحديات    "الدعم السريع" تكشف حقيقة مقاطع الفيديو المتداولة لجثامين متحللة بالخرطوم    سفارات كييف في أفريقيا.. خطط ومهام تتجاوز الدبلوماسية    ترامب: أريد أن "تمتلك" الولايات المتحدة غزة    ((مبروك النجاح يانور))    ما هي محظورات الحج للنساء؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان- الجندي المظلوم والراية الممزقة: من الخيرات إلى هارلم: (فيديو)
نشر في الصيحة يوم 28 - 05 - 2025

السودان- الجندي المظلوم والراية الممزقة: من الخيرات إلى هارلم:
في مشهد مهيب ومفارق، وقفت سيدة سودانية قد تكون في الخمسينات من عمرها، تكسوها ثياب الوقار السوداني، وتتحدث بحنق منضبط أمام حشد من النساء والأطفال والرجال معظمهم كبار في السن، في قلب قرية الخيرات المهدمة حديثا. كان الغضب يمور تحت جلد الكلمات، لكنه منظم، عقلاني، واعي بل أخلاقي وحكيم في جوهره وان اختلف البعض مع الموقف. تحدثت السيدة عن المفارقة الجارحة: أن من يُطلب منهم القتال باسم الوطن، يُحرمون من السكن فيه. وتقول، أن الجنود الذين يدافعون عن الدولة في الخطوط الأمامية، حينما يعودون سيجدوا بيوتهم مهدمة، وأطفالهم في العراء. كانت السيدة تقف بثقة، خلفها مبنى نصف مكتمل، وتحت ظله عشرات النساء والأطفال الرجال يجلسون في الأرض أو على كراسٍ بلاستيكية متناثرة، وعلى وجوههم علامات الغضب، الذهول، والانكسار.
https://www.assayha.net/wp-content/uploads/2025/05/فيديو-امراة-الخيرات.mp4
تلك السيدة لم تصرخ باسم قبيلة، بل باسم المواطنة، باسم العدالة، باسم سودان حر يليق بأبنائه الذين يُجلدون ثلاث مرات: مرة في ميدان المعركة، ومرة في ميدان الحياة، وثالثة في وجدان وطن لا يراهم. تحدثت عن "الدعامة"، الجنود القادمين من مناطق الهامش، الذين احتضنتهم العاصمة في أحيائها الشعبية دون أن يحملوا معهم شيئاً سوي (هويتهم العربية) تساءلت: لماذا لم تُهدم الأحياء الراقية التي سكنها الدعامة حينها، ولماذا لاتهدم الاحياء والبيوت التي يسكنها أبناء النخب؟ ولماذا يُعامل أبناءها هي، أبناء الهامش كغرباء؟ وهل لأنهم من مناطق يُنظر إليها دوماً بعين الشك والازدراء وانهم "عبيد" وقد قالتها مباشرة دون مواربة؟
هذه المفارقة التي تسكن جسد الدولة السودانية الحديثة، ليست غريبة عن التاريخ البشري، بل هي جزء من بنية عالمية من الجحود البنيوي تجاه المهمشين الذين يضحون في سبيل دول لا تعترف بإنسانيتهم. ونجد مرآة ساطعة لها في تجربة الأميركيين الأفارقة بعد الحرب العالمية الثانية. أولئك الذين قاتلوا في كل الجبهات، من نورماندي إلى صقلية، وساهموا في كسر آلة الفاشية والنازية في أوروبا، باسم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان. لكنهم حين عادوا إلى وطنهم، امريكا لم يجدوا لهم فيه وطناً، بل وجدوا الأبواب مغلقة، والعنصرية مستمرة، والهياكل الاجتماعية مُصممة ضدهم.
جنود وحدات "توسكيجي"، أول وحدة طيران من السود في الجيش الأميركي، قاتلوا ببسالة، وحصلوا على أوسمة الشرف. لكنهم، عند العودة، مُنعوا من دخول المطاعم التي دخلها زملاؤهم البيض، ورفضت البنوك منحهم قروض السكن، ولم يستفيدوا من امتيازات قانون "جي آي" الذي منح المحاربين القدامى فرصاً في التعليم والملكية والرعاية الصحية. وكأن الوطنية كانت مشروطة باللون والانتماء العرقي.
إن قانون "جي آي بيل""
(G.I. Bill of Rights)
الذي صدر عام 1944، وُضع نظريًا لمكافأة الجنود الأميركيين، لكنه صُمم بطريقة حرمت غالبية السود من الاستفادة منه، خصوصاً في مجالات السكن والتعليم العالي. فقد قامت البنوك برفض منحهم القروض، وتواطأت معها إدارات التعليم والبلديات، وكانت الضمانات الفيدرالية تُرفض لمن يسكنون في أحياء السود. وهكذا، تكرّس نظام تمييزي، عنصري، أخفى نفسه خلف الأدوات البيروقراطية، كما تفعل الدولة السودانية اليوم حين تهدم قرى بأكملها دون قرارات قضائية، بل تحت ذريعة "الوجوه الغريبة" أو "محاربة التخريب" او "السكن العشوائي" او عقوبة لمن يعتقدوا انهم "تواطؤوا مع الدعم السريع"
كتب جيمس بالدوين، أحد أكثر الأصوات بلاغةً واحتجاجًا في أدب الأميركيين الأفارقة، في مقاله الشهير
"The Fire Next Time"
عن المفارقة الفاضحة التي تعصف بوجدان أي إنسان أسود قاتل من أجل دولة لا تعترف به مواطنًا كاملاً: "تطلب الدولة دمك في الحرب، لكنها لا تعترف بدموعك في السلم". لقد فهم بالدوين أن أخطر ما يمكن أن يُرتكب في حقّ المهمشين هو إقناعهم أن التضحية من أجل وطن لا يعترف بهم، تُعدّ بطولة، لا خيانة للذات!
إذا كنت تحارب من أجل الحرية في الخارج، فاسأل نفسك: "أين هي حريتي هنا؟" هكذا صاح مالكوم إكس، رافعًا إصبعه في وجه مؤسسة لا تعرف سوى القهر، ومتوجّهًا بكلماته مباشرة لأبناء جلدته الذين تورطوا – عن جهل أو اضطرار – في خدمة نظام عنصري. لم يكن ذلك سؤالًا شعريًا، بل كان نداءً سياسيًا، أخلاقيًا، وتحريضيًا بامتياز.
هذا السؤال لا يزال معلقًا، طافحًا بالمرارة، لكنه ليس بلا عنوان. هو اليوم يُطرح مجددًا، على أبناء البلاد الذين حملوا أعباء التاريخ، ودفعوا ثمن الانتماء في الهامش وفي الهضاب وفي السهول. هؤلاء الذين يلبسون زي الدولة، ويحملون سلاحها، يجدون أنفسهم أحيانًا في خنادق لا تخصهم، يُطلب منهم أن يصوبوا النار إلى صدور إخوانهم، بينما لا يجدون في مؤسسات الدولة ذاتها مكانًا يُشبههم أو يحميهم.
في لحظة كهذه، قد يبدو السؤال حول "الولاء" سؤالًا ثقيلًا ومربكًا، لكن التباس الولاء لا يعفي من ضرورة مساءلته. فهل يكون الانتماء لوطنٍ لا يعترف بك هو نوع من الوفاء؟ أم استسلامٌ لتاريخ يعيد إنتاج الإقصاء في ثوب الواجب؟ ليس القصد أن يُشهر المرء السلاح في وجه من كان معه بالأمس، بل أن يعيد النظر في أين يقف، ولماذا يقف، ولأجل من يقف.
إن أولئك الذين يتقدمون الصفوف اليوم، ليسوا مجرد جنود، بل مواطنون ذوو ذاكرة، يعرفون جيدًا أي القرى احترقت، وأي المدارس دُمرت، وأي الأمهات بكت أبناءها أمام الركام. وإذا كان الانضباط قيمة عسكرية، فإن الوعي قيمة أخلاقية لا تقل شأنًا. فلا يليق بمن يحمل بندقية أن يُسقط عقله معها، ولا يليق بمن يعرف الألم أن يُمارسه على غيره.
من هنا، يصبح السؤال الأخلاقي أكبر من مجرد موقع في الميدان؛ إنه سؤال عن الغاية، عن المعنى، عن الانحياز في لحظة الحقيقة. لا أحد يُنكر صعوبة الخيارات في زمن التشظي، لكن التاريخ لا يرحم من صمت أو تواطأ. فليس كل من يرفع الراية يمثل الوطن، وليس كل من يقف في صف الدولة يمثل العدالة!
جيمس بالدوين كتب: "أن تولد أسودًا في أميركا هو أن تكون في حالة غضب دائمة." واليوم، أن تولد هامشيًا في السودان هو أن تكون مُستباحًا دائمًا. لكن الغضب يجب أن يتحول إلى فعل. إلى تمرّد. إلى إعادة تموضع. إلى سحب البندقية من كتف الطغاة، وتوجيهها إلى من يستعبد الوطن.
لن يغفر التاريخ لمن قاتل في الجانب الخطأ، لا بحجّة الطاعة، ولا بدافع الفقر، ولا تحت ذريعة الانتماء. آن الأوان أن تعرفوا من أنتم، ولمن تقاتلون. فالسودان الجديد قادم، وهو لا يُبنى ببنادق المرتزقة، بل بوعي الأحرار، وبقرار الجنود الشجعان الذين يرفضون أن يُستخدموا كأدوات ضد أهلهم.
اسأل نفسك اليوم: هل بندقيتك تحمي أهلك أم تقتلهم؟ إن كانت الثانية، فقد خانتك البوصلة، وحان وقت العودة إلى الصف الصحيح من التاريخ.
المفارقة الأخلاقية في السودان، تماماً كما في الولايات المتحدة حينها، هي أن من يُطلب منهم القتال من أجل وحدة الوطن، يُنظر إليهم كمصدر تهديد داخل الوطن. تُستخدم شجاعتهم لتثبيت نظام لا يراهم شركاء بل أدوات. كما قالت السيدة في قرية الخيرات: "نحن لسنا عبيداً. نحن من حرر الوطن. وسنظل سودانيين، غصبا عن عين أي زول"
هذه الكلمات تشبه، في بلاغتها الأخلاقية، ما كتبته توني موريسون عن جدها الذي حارب في أوروبا، ثم عاد ليُمنع من التصويت. وهي ذات النبرة التي نسمعها في خطب مارتن لوثر كينغ، عندما تحدث عن "الشيك المرتجع" سلّمته أميركا لمواطنيها السود، دون رصيد من العدالة. كتب د. كينغ: "لقد أتينا إلى العاصمة لنصرف هذا الشيك، شيك الحرية، شيك العدالة، لكنه عاد إلينا غير قابل للصرف".
ومن جنوب أفريقيا، تكررت ذات المأساة: السود الذين قاتلوا ضمن القوات البريطانية في الحرب العالمية الثانية، لم يُعترف بهم بعد الحرب، بل عادوا ليواجهوا قوانين الفصل العنصري (الأبارتايد) التي حرمتهم من السكن، من التعليم، من حق التصويت، بل من الحق في العيش بكرامة. وهكذا، يتكرر التاريخ ذاته: تستخدم الدولة أجساد المهمشين وقت الحرب، ثم تُقصيهم في السلم دون اكتراث لتضحياتهم وتضحيات اسرهم وذويهم.
تجارب مماثلة ظهرت في المستعمرات الفرنسية والبريطانية، حيث قاتل الجنود الأفارقة والهنود من أجل إمبراطوريات لم تعترف أبدًا بمواطنتهم الكاملة. في الجزائر، مثلًا، قاتل آلاف الجزائريين مع الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، لكنهم قُتلوا أو سُجنوا لاحقًا عندما طالبوا بالمساواة والحرية. وتكررت هذه المفارقة في الفلبين، وفي الكاريبي، حيث تم سحق المطالبات بالمساواة بعد التضحية.
إن التجربة السودانية تتقاطع بشكل أكثر فجاجة مع هذا الإرث، لأن الدولة السودانية الحديثة، ومنذ تأسيسها، استبطنت مفهوم المواطن من الدرجة الثانية، واستخدمت أدوات شتى لتكريس هذا التمييز: في الإعلام، في التعليم، في توزيع الثروة، وفي حرمان أهل الهامش من الحق في المدينة والحق في الأرض. و"الخيرات" ليست استثناء، بل نموذج كثيف لهذا المسار التاريخي. عندما يُقال لسكانها أن "وجوههم غير مرغوب فيها"، فذلك ليس سوى استمرار لنفس الخطاب الذي قيل لجنود توسكيجي، ولسكان هارلم، ولسود جنوب إفريقيا: أنتم أدوات عند الحاجة، عبء عند السلم.
إن المفارقة الكبرى في كل هذه التجارب، هي أن الحرب – بما تحمله من خطاب التضحية والوطنية – لم تُلغِ البنية العنصرية، بل كشفتها بشكل فج. فقد ظنت الدول أن باستطاعتها استخدام المهمشين في أوقات الشدة، ثم إعادتهم إلى الهامش بعد النصر. لكن التاريخ يُظهر أن هؤلاء العائدين من الجبهات، هم أنفسهم من قادوا الموجات الثورية الكبرى: من الحقوق المدنية في أميركا، إلى الانتفاضات في جنوب إفريقيا، إلى المقاومة المسلحة في الجزائر، إلى ثورات الهامش في السودان.
إن ما جرى في قرية الخيرات ليس مجرد فعل محلي. هو مرآة لأزمنة قبيحة تكررت في التاريخ، حيث يلتقي التهميش بالبطولة، ولا يعترف الوطن بأبطاله إلا حين يموتون، لا حين يطالبون بحياة كريمة. في الخيرات، كما في هارلم، كما في سويتو، كما في القصبة، يقف الجنود المظلومون في مواجهة السؤال الجوهري: لمن يُرفع علم الوطن؟ ومن يحق له أن يقول "أنا من هذا البلد"؟
بالمنظور الجذري الذي تتبناه رؤية السودان الجديد، كما صاغتها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال ومنظور تحالف "تأسيس" الذي تبناها، لا تُفهم قضية المهمشين بوصفها مظلومية ظرفية أو معاناة أخلاقية فحسب، بل تُقرأ بوصفها نتاجًا لبنية اقتصادية – سياسية غير عادلة، أقامت دولة المركز على إقصاء الأغلبية وإدامة الاستغلال. وعليه، فإن إعادة بناء السودان لا تبدأ من المصالحة بين نخب الخرطوم، بل من قلب الهامش، حيث تصعد أصوات جديدة، وتجارب مقاومة، وشروط مغايرة للتنمية والعدالة والكرامة.
إذا كان الأميركيون السود قد ساهموا في تحرير أوروبا من النازية ليُعادوا إلى أحياء مفصولة، وإن كان جنود جنوب إفريقيا قد دافعوا عن الإمبراطورية البريطانية ليُقصَوا بعدها في وطنهم، فإن المهمشين السودانيين – الذين يقاتلون الآن في الصفوف الأمامية، ويُستشهدون دون أن تُذكر أسماؤهم – هم من سيفرضون معادلة جديدة على هذا البلد ان وعوا الي من هو عدوهم الحقيقي. إنهم لم يعودوا عبيد ولاء لا يُكافَأ، بل حملة مشروع وطني صاعد، يريد أن يُعيد كتابة مفهوم العدالة التاريخية و التنمية من جذوره.
رؤية السودان الجديد للتنمية لا تنطلق من ضخ الأموال في مشاريع تجميلية فوقية، بل من اعتراف تاريخي بحقوق الناس في الأرض، في السلطة، في الموارد، وفي صناعة القرار. وهي رؤية تفكك ربط التنمية بالخضوع للمركز، وترى أن الأجسام السياسية والاجتماعية المنحازة للهامش – من الحركات المسلحة إلى الروابط القاعدية ومنظمات المجتمع المدني الحية – هي التي ستعيد توجيه البوصلة التنموية نحو ما يستحقه السودانيون فعلاً: تنمية عادلة، شاملة، ومؤسسة على الحقوق، لا على الامتيازات، و مستقبل السودان يجب ان يؤسس علي هذا.
لا بد إذًا من إعادة كتابة عقد المواطنة بما يجعله عقدًا للعدالة والكرامة والتنمية، لا عقدًا للطاعة والخضوع. لا بد من تفكيك الدولة القديمة التي جعلت من الانتماء الجغرافي أو العرقي شرطًا للعيش بكرامة، وبنت اقتصادًا ينزف من الأطراف ليصب في المركز. وكما قال فرانز فانون: "كل جيل، عليه أن يجد مهمته التاريخية، ويُنجزها أو يخونها".
جيل الخيرات، الذي رأى أمهاته يُهَنَّ، وبيوته تُهدم، وأحلامه تُسحق، لن يخون مهمته. بل سيبني وطنًا لا يقتل أبناءه، ولا يطردهم من أرضهم، ولا يحرمهم من الحياة التي يستحقونها. سيبني وطنًا تُوجَّه فيه التنمية حيث توجد الحاجات لا حيث يقيم الحكّام، وطنًا تُكرَّم فيه التضحيات لا تُجازى بالإهانة، وطنًا جديدًا بعد أن تُفكَّك المنظومة القديمة التي حوّلت الأغلبية إلى أدوات، واحتكرت الحداثة والثراء في أيدي قلة.
هذا هو منطق السودان الجديد: أن تصبح السلطة خادمة للتنمية، والتنمية خادمة للعدالة، والعدالة خادمة للكرامة الإنسانية، ولا شيء غير ذلك.
النضال مستمر والنصر اكيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.