رشا عوض تتردد عبارة " العالم لا يحترم الا القوي" في أحاديث الإسلامويين السودانيين التعبوية والاستنفارية للجهاد، وهذه العبارة التي يلهج بها شيوخ الاسلام السياسي الكبار و"كتاكيته" الصغار هي الأساس الذي جعل "جماعة الاخوان المسلمين" – أينما وجدت تنظيماً عسكرياً من الدرجة الأولى. هل فعلا نجحت هذه الجماعة ولا سيما فرعها السوداني في حيازة احترام العالم بسبب رهانها على القوة؟ هل نجح إسلاميو السودان فعلا في امتلاك أسباب القوة التي تجعلهم في هذا العالم شيئا مذكورا؟. الاجابة: لا كبيرة! لأن القوة المؤهلة للمنافسة عالمياً هي معادلة معقدة، مدخلاتها المعرفة بمجالاتها المختلفة، والتكنولوجيا والاقتصاد والسلاح المتطور، وكل ذلك لا يتحقق دون وجود مجتمع بشري منتج ومبدع بمعايير العصر، تحركه جماعياً رؤى فلسفية وقيم أخلاقية رفيعة، وتنظم حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مؤسسات ذات جدوى بمعايير العصر، كل ذلك لن يتحقق الا بامتلاك "دولة وطنية حديثة قوية ومنتجة" فالدولة الوطنية الويستفالية- إلى حين اشعار آخر- هي وحدة تكوين هذا العالم وأداة الانخراط فيه والتفاعل معه . تجربة الاسلامويين أضعفت بل قوضت الدولة الوطنية في السودان لصالح دولة التنظيم، أما القوة التي يتحدثون عنها ونجحوا فعلاً في امتلاكها فهي تجنيد عشرات الآلاف من الشباب وشحنهم بالعدوانية تجاه ما يسمونه الغرب الكافر، ولأن الكهنة الكبار في التنظيم يعلمون علم اليقين أنهم عاجزون تمام العجز عن أدنى مواجهة جدية مع الغرب بسبب "فارق القوة" الكبير وهو في جوهره "فارق المعرفة ومستوى التحضر"، فإنهم يخدعون شبابهم المعبأ بالطاقة العدوانية ويقنعونه بان بني وطنهم من العلمانيين واليساريين والديمقراطيين يجب أن يكونوا هدفهم الأول في القتال والعدوان! فقسموا الوطن الواحد إلى دار إسلام وسلام هي دارهم هم كاسلامويين، ودار كفر وحرب هي كل من يخالفهم سياسيا وينازعهم السلطة! وبهذا أضعفوا الوطن بإغراقه في مفاصلات دموية وعداء غوغائي موجه ليس ضد عدو خارجي بل ضد مواطنين سودانيين! أما المفاصلات المزعومة مع أمريكا والغرب فلا تتجاوز المجال الخطابي والعنتريات التي ما قتلت ذبابة! إذ أن الحرب الحقيقية هي "البلطجة المحلية" على السودانيين العزل واستباحة الدولة السودانية كغنيمة! ولذلك تم تدميرها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لصالح تمكين التنظيم من المال والسلاح الذي أصبح نصيب الأسد منه في يد المنظومات العسكرية الموازية لجيش الدولة الرسمي (الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية والاحتياطي المركزي وكتائب الظل وأخيراً الدعم السريع الذي يولولون منه الآن ويتباكون). لقد اثبت الاسلامويون بلسان حالهم أنهم يخلطون بين "مفهوم القوة المؤهلة لكسب الاحترام في العصر الحديث" وبين "البلطجة المحلية" التي برعوا فيها وأبدعوا! وهذه البلطجة لم تجلب لهم سوى الكراهية داخلياً والمذلة والهوان خارجياً ! كل العنتريات الخطابية في مواجهة الغرب وأمريكا التي دنا عذابها والحرب على الامبريالية والصهيونية لم تصمد أبدا! أمريكا تم تسليم مخابراتها ملفات الحركات الجهادية وبعض شخوصها بواسطة جهاز أمن صلاح قوش (سلموهم عن يد وهم صاغرون)! وتم تقديم يد العون للمخابرات الأمريكية حتى استطاعت تصفية بن لادن الذي بدأ طريق الوصول إليه من السودان (قصة تهريب المتطرفين السودانيين الذين قتلوا الدبلوماسي الامريكي قرانفيل في الخرطوم نهاية عام 2007 الذي تم بتنسيق مع أمريكا) اصدر ال FBI تعليماته للأجهزة الامنية السودانية التي هي أجهزة الاسلامويين بلا منازع بتهريب قتلة قرانفيل حتى يتابع تحركاتهم التي كان من المرجح ان تكون باتجاه افغانستان حيث يقبع أسامة بن لادن! الصحف الاسرائييلية ظلت تكشف عن زيارات سرية لأعضاء في البرلمان الكيزاني وفي حزب المؤتمر الوطني بحثا عن التطبيع كطريق الى قلب الغرب الامبريالي ممثلا في أمريكا! وأثناء مفاصلة الاسلامويين وانقسامهم الى مؤتمر وطني ومؤتمر شعبي تعالت هتافات الشعبيين في وجه إخوانهم: لن تحكمنا ال CIA!!! وطبعا قصة ال CIA (المخابرات الامريكية) واجهزة المخابرات الغربية عامة مع جماعات الإسلام السياسي قديمة وبلغت ذروتها في فترة الحرب الباردة إذ توطدت هذه العلاقة بين "الغرب الامبريالي الكافر" والجماعات الاسلاموية في سياق محاربة الشيوعية ومحاصرة نفوذ الاتحاد السوفيتي حينها. العلاقة بين جماعات الإسلام السياسي وأجهزة المخابرات الغربية أشبه ما تكون بزواج عرفي لا يجرؤ اي طرف من طرفيه الإعلان عنه! فهذه الجماعات تؤسس دعايتها السياسية على أأنها الترياق المضاد للتغريب، وأن خصومها السياسيين هم عملاء الغرب الخونة المتنكرين لدينهم وثقافتهم ولذلك هم حريصون أشد الحرص على أن تظل علاقتهم بالغرب طي الكتمان مع المبالغة في نكرانها! اما "الغرب السياسي" ممثلاً في حكوماته التي تحسب ألف حساب للرأي العام فليس من مصلحته فضح تحالفاته السرية مع جماعات الإسلام السياسي المرتبطة بالإرهاب والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان ومناهضة القيم الغربية. هذا الحقائق تنسف أكبر "الأساطير المؤسِّسة للإسلام السياسي" وهي المفاصلة الحدِّية مع الغرب كأسطورة صغرى متفرعة من الأسطورة الأكبر وهي تميز الاسلامويين بسلوك سياسي مستعلي على معادلات الأرض وإكراهاتها لأنهم يطبقون سياسة السماء الطاهرة والمقدسة ذات الصوابية المطلقة! في حين أن الواقع يقول إن لا ميزة للاسلامويين سوى الكذب على الله! وعلى الناس بادعاءات لا أساس لها! فهم بشر عاديون يخوضون الصراع السياسي تبعاً لمعطيات الأرض، ووفق مقتضيات مصالحهم الدنيوية التي احياناً تكون دنيئة وانتهازية، وهم محكومون طوعاً أو كرهاً بمعادلات توازن القوى في بلدانهم وفي العالم، إلا أن التشويش المسيطر على عقولهم بسبب "الأساطير المؤسسة " يجعلهم في بعض الاحيان يفارقون العقلانية ويؤسسون سياساتهم على أوهام ايدولوجية لا علاقة لها بالواقع فيدخلون بلدانهم في مواجهات وصراعات أكبر من طاقتها وتجر على شعوبها الخسران المبين من حروب وعقوبات، ولكن سرعان ما يمد الواقع لسانه لهم فيعودون أدراجهم لتقديم تنازلات ضخمة وبصورة دراماتيكية ولا تتبقى من عنترياتهم الا "البلطجة المحلية" على شعوبهم المغلوبة على أمرها.