مَنْ سيحكمُ إقليم الوسط، وولاية الجزيرة؟ عبد الحفيظ مريود منتصف التسعينات كنُّا نسكنُ فى "بيت العزّابة"، فى الحلّة الجديدة، الخرطوم، قُبَالة نادى الدّفاع. وضمن مثقفين خرطوميين كُثر، كان يزورنا مثقف من الطّراز الرّفيع. ضحّاكٌ وساخرٌ سخرية ممتعة. لكنّه – كحال أغلب مثقّفى الخرطوم – لا يعرفُ شيئاً كثيراً عن السُّودان. وفيما يتأهّبُ القربين رفاقُ السّكن القريبين فى الخرطوم (الجزيرة، نهر النّيل، كردفان) للسّفر لقضاء عطلة عيد الأضحى مع ذويّهم، عرض عليه إخوةٌ لنا من "أمْ دَم حاج أحمد"، إحدى أرياف مدينة أمروابة، أنْ يسافر معهم، ويضوق عيداً مختلفاً. فكّر المثقّفُ الخرطومى بُرهةً من الوقت، ووافق :(أصلاً عندي خالي قاعد في نيالا ليهو زمن طويل ما جا..ممكن أول يوم في العيد، عصرية كدا، نشيل لينا بوكسي نمشي نسلّم عليهو في نيالا، نشرب معاهو شاي مغربيّة، ونرجع). شايف كدا؟ وعلى أيّام اعتصام القيادة، عام 2019م، ركبتُ "ترحالاً" إلى الحاج يوسف، من أبوروف. يقود السّيارة أحد شباب أبوروف، خريج تقنية معلومات، إبن أخت زميلنا المخرج في أخبار التلفزيون، الفاتح خلف الله. كان يُصرُّ على أنّهم "جيلٌ مختلف". سيصنعون سوداناً لم نَرَه، حتّى في الأحلام. قلتُ له، مباغتاً :أين يقعُ جبل مرّة؟ ضحك. تختبرني؟ قلتُ نعم، متحدّياً، كمان. الشّاب الظّريف أجاب واثقاً (جبل مرّة في جبال النّوبة). سألتُه: وأين جبال النُّوبة هذه؟ أجاب بثقة لا تحدُّها حدود، مع ابتسامة (في الشّمالية..أصلاً النُّوبيين في الشّمالية..دا سؤال ليك؟). لكنَّ الأخطر كان المثقّف الأمدرمانىّ، في أعقاب إنقلاب البرهان، في أكتوبر 2021م. المثقّفُ ذاك، صديقي، كاتبٌ مسرحىّ وباحث له باع طويل، وعناوين في المكتبات السُّودانيّة. كان قد دعاني لكوب قهوة، فى الثورة، الحارة الأولى. الوقت عشاء، والنّاسُ حلقات حلقات في ميدان الشّاى. لا حديث يعلو على السّياسة والإنقلاب وماذا ستصنعُ الثّورة. كان يحدّثني عن علاقاته ببعض ضبّاط الجيش، وعن مصير الإنقلاب والخطط، وما يتوجّبُ على المدنيين لتلافي المصير الكارثىّ للبلاد. ضمن أحاديثه كان إحتمالية تطبيق سيناريو فصل دارفور. لم أُبدِ قلقا. "خلّيهم يفصلوها"، قلتُ له. أجابني، مستنكراً (والله يفصلوها، موية تشربوها ما تلقوا). انتبهتُ إلى أنَّ المثقّف الكبير، والذى لم يذهب أبعد من سوق ليبيا، غرباً، يظنُّ – جادّاً – بأنَّ دارفور تشرب من مياه النّيل. وأنّها – في حال الإنفصال – ستمنعُ عنها حكومة السُّودان الجديدة مياه الشُّرب. يا للهول! شايف كيف؟ في نيالا أتونّس وأناقشُ مثقّفين رائعين من قبائل رُفاعة، وسط السُّودان، النّيل الأزرق وسنّار. نتعازمُ لحوم "السّخيلات"، كما يحبُّ مولانا مجاهد أبو المعالي أنْ يسمّيها، في سوق معسكر "عُطاش"، شمال نيالا. يصرُّ الطيّب النُّور بأنّه " لو دا معسكركم بتاع النّازحين، شوفوا لينا واحد زيّو في الدّالي والمزموم". أهلُ القائد الفذّ، الشّهيد البيشىّ. يتعرّفون على سودان لم يخطر لهم على بال. ويتعرّفُ عليهم أهل دارفور. يعلّق مثقّف وسياسىٌّ شاب من رزيقات الضّعين بأنْ (نحنا عرفنا روحنا عرب شتات..لكن إنتو طلعتوا "عرب بدون" ساكت..ياخ زول بعرفكم في السُّودان دا مافي). تبتلعُ رفاعةُ الكبرى الطُّعم. تنحبسُ في هُويّاتٍ ضيّقة على أنّها قبائلُ لها تمايزاتها عن الأخريات. الطُّعم قائمٌ في التشرذم القاتل. ذلك أنّه منذ نهاية السّلطنة الزرقاء على أيدى الألبان وملاقيط محمد علي باشا، وأعوانهم المحليين، لم تقُم رُفاعةُ – أكبر قبائل وسط السُّودان – ككتلة واحدة. في سياق الإنشغال بالهويّات الضّيّقة وتسييدها، بقيتْ الجزيرةُ، ووسط السُّودان مرتعاً لأعوان الألبان، فيما يُسمّى بالتركيّة السّابقة، وأعوان الإنجليز وورثتهم، فيما بعد. ثمّة أثمان باهظة دفعها، وسيدفعُها الذين احتفظوا بالاسم. ذلك أنّه في أعقاب انفصال جنوب السُّودان، وجدَ الكثيرون من سكّان الحدود منهم، والمتداخلين أنفسهم فى اللامكان، اللاهويّة، اللا وجيع. نفقتِ الماشية. واتّسعَ الخرق. لن يسمعهم أحد. لن يبكىَ عليهم أحد. شايف كيف؟ أناكفُ الطيّب النُّور، صالح عيسى الرّاعى، والأطباء الاختصاصيين منهم، في نيالا، القادمين من بلاد بعيدة متطوّرة، وكان يمكنهم ألّا يفعلوا، بأنَّ عبد الله جمّاع أسطورة. ولو لم يكنْ ذلك كذلك، لما بقيتم فى أواسط السُّودان مجرّد (خشوم بيوت) يتلاعبُ بها المتلاعبون على أنّها قبائلَ. لا تملكُ فى أراضيها فعلاً. يتمُّ استقدام ولاةٍ لها من كلّ بقاع السُّودان، ولا تملكُ تمثيلاً فى السّلطة العليا: الرئاسة، الجيش، الشُّرطة، جهاز المخابرات، الجهاز التنفيذى. لا يستشيرُها أحد. سأكونُ أكثر قسوةً، بالطّبع، إذا قلتُ لهم أنّه من هوان الدُّنيا على النّاس، أنْ يكون (………….) ولاةَ أموركم. نأخذُ منكم ود اللمين، حروف إسمك، زاد الشّجون، بتتعلّم من الأيّام، قلنا ما ممكن تسافر، من شوفتو طوّلنا…نأخذُ البيشىّ، والنّاظر أبوروف، ثمَّ لا شيئ. شايف كيف؟ ننخرطُ فى الحرب بسبب الجهل العميم. لا بسبب شيئٍ آخر. الجهل ببعضنا. الجهل بالأرض. الجهل بالتأريخ. الجهل بالجغرافيا. الجهل بكلّ شيئ. كتبَ محلّلٌ سياسىٌّ كيكلىّ بأنَّ الهزائمَ التى تعرّض لها متحرّك الصيّاد تنبعُ من أنَّ الجيش، المشتركة، البرائيين، درع السُّودان والمستنفرين يتحرّكون فى (بيئة ومجتمع غير موالٍ. فى حواضن المليشيا. ولذلك لابدَّ من تغيير الخطط). شايف كيف؟ والصُّور والفيديوهات التى نُشرتْ لخروج مدينة الجنينة، حاضرة ولاية غرب دارفور، ستجعلُ محلّلٌ سياسىٌّ بلبوسىٌّ آخر، يتساءل: هل من الممكن أنْ يكون حشداً مفتعلاً؟ هل تمَّ التلاعبُ به فى غرفة "تضخيميّة" فى أوربا، كما كان يقول الطّاهر حسن التُّوم، عن مواكب ثورة ديسمبر؟. المهم: سأعودُ إلى رفاعة والرفاعيين، ودورهم في حكومة تأسيس.. إلى مَنْ سيحكمُ وسط السّودان والنّيل الأزرق وسنّار؟