منعم سليمان لم يكن "الكلور" يومًا سوى رمزٍ للنقاء؛ مادة تُستحضر في ذاكرة الناس حين تُذكر المياه الصالحة للشرب، والمستشفيات، والحياة. لكن في عصر القتلة والمجرمين، عصر الكيزان والبرهان، تحوّل هذا العنصر الإنساني إلى أداةٍ من أدوات الموت والفناء! الكلور، كما يشرح العلماء، مادة "ثنائية الاستخدام". بين يدي العالِم هو سبيلٌ للشفاء، وبين يدي المجرم القاتل يتحول إلى أداةٍ للقتل البطيء. وهو الغاز ذاته الذي ملأ خنادق الحرب العالمية الأولى، ثم عاد بعد قرنٍ ليزور سماء الخرطوم، وكأنه شبحٌ من الماضي يذكّر البشرية بأنها لم تتعلّم شيئًا من مآسيها! التقرير الصادر اليوم عن منصة فريق "المراقبون" التابعة لقناة فرانس 24 الفرنسية، والذي حمل عنوان: (الأسلحة الكيميائية في السودان – الجزء الأول: كيف استُخدم كلور مخصّص لمياه الشرب كغازٍ قتالي)، أعاد إلى الواجهة جرحًا لا يندمل: جرح الحرب التي فقدت بوصلة الأخلاق، وتحلّل فيها الإنسان من إنسانيته. وثّق التقرير حادثتين وقعتا في سبتمبر 2024 شمال الخرطوم، في محيط مصفاة الجيلي للبترول، التي تحولت إلى مسرحٍ لتجريب الموت. صورٌ ملتقطة، مقاطع فيديو، شهادات شهود وخبراء.. كلها تؤكد أن غاز الكلور .. ذلك الذي يُستورد عادةً لتعقيم مياه الشرب، تم استخدامه كسلاح كيماوي وأُطلق من الجو في هجماتٍ نفذها الجيش والكتائب والمليشيات الإسلامية ضد مواقع تسيطر عليها قوات الدعم السريع. خمسة خبراء عالميين في الأسلحة الكيميائية أكدوا أن المشاهد المصوَّرة في الموقع تتطابق مع "قصفٍ جويٍ ببراميل كلور". والبراميل نفسها، التي حملت رموز تصديرٍ من الهند إلى السودان، كان يُفترض أن تُستخدم في إنقاذ الأرواح، لا في إزهاقها. وجدير بالذكر هنا أن الكلور لم يكن سوى وجهٍ واحد من وجوه الجريمة؛ فبينما يوثّق التقرير حالتين فقط بالدلائل التقنية، تتحدث مصادر عليمة عن عشرات الهجمات بمواد أكثر فتكًا، تم جلبها من دولٍ خارجية بعيدة وقريبة، مثل إيران وغيرها، في خرقٍ فاضح للقوانين الدولية. الخبراء شبّهوا المشهد بما جرى في ميناء العقبة الأردني عام 2022، حين تسرب الكلور من حاوية صناعية فقتل وأصاب المئات. الفارق هنا أن ما حدث في ميناء العقبة كان حادثًا عرضيًا مأساويًا، أما في حكومة ميناء بورتسودان فقد كان فعلاً مقصودًا ومحسوبًا! أهمية التقرير لا تكمن فقط في توثيقه الدقيق، بل في كونه أول دليلٍ بصري وتحليلي مستقل على استخدام مواد كيميائية محرّمة في النزاع السوداني، ما يفتح الباب واسعًا أمام مساءلةٍ دولية رادعة، أقلها المحكمة الجنائية الدولية، كما يشير خبراء القانون الدولي في باريس. لكن خلف هذا المسار القانوني تظلّ هناك حقيقة أكثر مرارة: أن ما كان يومًا رمزًا للحياة أصبح الآن أداةً للموت. وأن الأيادي التي من المفترض أن تحمي السودان، هي ذاتها التي تسمم ترابه وهواءه ومياهه وتقتل شعبه. لقد قال تقرير فرانس 24 ما ظلّلنا نرده هنا، كما ظلت جميع الأصوات السودانية الحرة تردده في كل خطاب ومكان، وهو: إن استخدام الجيش لأسلحة كيماوية جريمة كبرى لا يمكن السكوت عليها، وأن الحرب في بلادنا لم تعد حرب جماعة متطرفة من أجل العودة إلى السلطة، بل أصبحت حربًا ضد الوجود والمعنى الإنساني بأكمله. وقد قال التقرير ما قلنا بأن هذه الحرب بين الماء والدم، بين الحياة والموت. وإن تحويل موادٍ سلمية إنسانية إلى أدواتٍ للقتل جريمة كبرى، وسقوطٌ أخلاقي لا يغسله أي نصرٍ عسكري. لا شك أن هذا التحقيق له ما بعده، وسيفتح الباب أمام مساءلات دولية كبرى، لكنه قبل ذلك يضع العالم أمام مرآته: كيف يمكن لجيش أن يقتل شعبه بهذه الطريقة المتوحشة؟ كيف يمكن لبلدٍ أن يختنق بمواد كان يستوردها ليشرب منها؟ وكيف يمكن لقتلة ومجرمين أن يزرعوا الغازات في رئتي شعبهم وطنهم ثم يحدثوا من يريدون قتلهم عن الوطنية والدين؟ *كيف ؟*