الشيخ حسن عبد الرضي ما يثير حيرتي حقًا ليس فشل قادة الجيش في تحقيق أي انتصارٍ منذ أن وُجد هذا الكيان الذي يُقال إن عمره قرنٌ من الزمان، بل أن بيننا من ما زال يصدقهم! من يظن أن الخلاص يمكن أن يأتي من أيدي من لم يعرفوا يومًا معنى النصر أو معنى الشرف العسكري الحقيقي. أتعجب من عقلٍ يصدّق ياسر العطا وأشباهه، من أولئك الذين يشدّون قامتهم بالكلمات وهم قِصارٌ أمام التاريخ والواقع. قادة الجيش السوداني تخرّجوا من كليةٍ لم تُعلّمهم معنى الوطن، بل غرست فيهم الوهم بأنهم خُلقوا ليحكموا لا ليحموا، وبأنهم أصحاب الحق في الأرض والذهب والميناء والمزرعة، وأن الوطن مشروعٌ تجاري يمتد من حطب الدخان إلى خزائن المصارف. كيف لعاقلٍ أن ينتظر نصرًا — عزيزًا كان أم وضيعا — من أناسٍ حوّلوا المؤسسة العسكرية إلى دكّانٍ كبير، ومن دماء الأبرياء وقودًا لاستمرار امتيازاتهم؟ بمنطقٍ بسيط، كيف يُستوعَب هذا النفاق باسم الاستنفار؟ في زمن الانكسارات والهزائم، يطلّ علينا دعاة الاستنفار بوجوهٍ متورّمة من الكذب. يصرخون باسم «الوطن» فيما أولادهم في مدارس أوروبا، وزوجاتهم في عواصم الرفاه. يعيشون في النعيم ويطالبون البسطاء بالموت. لا يتحدثون عن الدفاع عن الوطن، بل عن الدفاع عن مصالحهم، عن عقودهم واستثماراتهم، عن «الامتياز» الذي وهبته لهم المؤسسة القديمة ليظلوا فوق الشعب لا منه. يتحدثون عن «الشهادة» كأنها وظيفة عامة، وعن «الواجب الوطني» كأنه سلّمٌ يصعدون به نحو البنوك والعقارات. من يملك الحانات والمشروعات لا يخوض المعارك، بل يدفع الفقراء ليموتوا نيابةً عنه. فيا للحسرة حين يصبح النفاق مهنة، لا عيبًا أخلاقيًا. النفاق عند هؤلاء ليس طارئًا، بل منهجُ حكمٍ متوارث. يبيعون الوهم في الخطب، ويشترون الصمت في الأسواق. يصنعون من الدين شعارًا، ومن الوطنية مزادًا، ومن الحرب موردًا. لقد تحوّل الاستنفار إلى طقسٍ جماعي للنفاق، يُقاس فيه الولاء بعدد الأكاذيب التي ترددها، لا بعدد الحقائق التي تجرؤ على قولها. هل لنا أن نسأل عن صوت العقل؟ لسنا ضد الوطن، بل ضد من يسرق اسمه. لسنا ضد الدفاع، بل ضد تحويله إلى غطاءٍ للتجارة والموت المجاني. ما نريده ليس الكراهية، بل المحاسبة. نريد عدالةً لا انتقامًا، ومؤسساتٍ لا عصابات، وجيشًا وطنيًا لا إقطاعيًا. آن للشعب أن يقول: لا للزجّ بالمواطن في حربٍ لا تخصه، ولا لاستنفارٍ من أجل النفاق. وأطرف ما قرأت في وسائط التواصل الاجتماعي طرفةٌ أضحكتني حتى كدتُ أسقط سقوط الكيزان في شرّ أعمالهم! تتجسد الطرفة في مشهد «الخواجة والبلابسة»: يُروى أن خواجةً في أوروبا سأل صاحبه وهو يشاهد مظاهرةً لمجموعةٍ من السودانيين: "من هؤلاء؟ وماذا يطالبون؟" فأجابه صاحبه: "هؤلاء يسمّون أنفسهم البلابسة، يتظاهرون تضامنًا مع ضحايا الفاشر". قال الخواجة مبتسمًا: "جميل! إذًا هم يطالبون بوقف الحرب وإنقاذ الأرواح؟" ضحك صاحبه ساخرًا: "أبدًا، هم يطالبون باستمرار الحرب حتى يُراق دم من لم يُقتل بعد!" صُدم الخواجة وسأل: "كيف ذلك؟ أليسوا هم أنفسهم من لجأوا إلينا هربًا من الحرب؟" فأجابه صاحبه: "نعم، جاؤوا بالسمبك وركبوا البحر والموت ليصلوا إلى الأمان هنا، والآن يريدون استمرار الجحيم هناك!" قال الخواجة مذهولًا: "إذن هؤلاء لا يحتاجون مظاهرة، بل علاجًا عاجلًا في مستشفى الأمراض العقلية!" الخلاصة: إن الذين يفرّون من الحرب ثم يهتفون لاستمرارها، فقدوا بوصلتهم الأخلاقية والعقلية. والذين يدعون إلى الاستنفار من شققهم في القاهرة أو إسطنبول لا يملكون إلا نفاقهم. الحرب لا تُنهي حربًا، والنصر لا يُولد من رحم الأكاذيب. إن السودان لن يقوم على أكتاف المنافقين، بل على وعي الصادقين الذين يرفضون أن يكونوا وقودًا في معركةٍ بلا مبدأ.