عبد الحفيظ مريود إلى أين ستتجهُ الأنظارُ بعدَ بابنوسة؟: على إيقاعِ "المردوم"، والقمرْ بِضوّى هناااااك. فى آخر انتخاباتٍ ديمقراطيّة 1986م، شهدتْ دائرةُ "أبييْ الشّماليّة" إنقساماتٍ حادّة فى صفوف حزب الأمة، بقيادة السيّد الصّادق المهدىّ، يرحمه الله. نزلَ أربعةٌ من المرّشّحين فى الدّائرة، وجميعهُم ينتمون إلى حزب الأمّة. لم يستطعِ الحزب أنْ يحتوى الخلافات، حينئذ. تشتّتْ أصواتُ الحزب. ولم تكن لأحزاب الاتّحادىّ الديمقراطىّ، بقيادة مولانا الميرغنىّ، البعث العربىّ الاشتراكىّ، الشّيوعىّ حظوظ بالفوز فى الدائرة. ذلك أنَّ الدائرة هى عمق المسيريّة (المجلد، الميرم، بابنوسة، وما بينهنّ من بلدات المسيريّة الحُمُر). انتهزتِ الجبهةُ الإسلاميّة القوميّة الفرصة، فعملتْ على جذب أصوات ناخبين كُثر. ففاز أحمد الصّالح أحمد صلّوحة، المعلّم بالمرحلة المتوسطة، بالانتخابات. كانتْ ديارُ المسيريّة هى المورد البشرىّ للحرب فى الجنوب المتاخم لها. مثلها مثل ديار الرّزيقات، الهبّانيّة البنى هلبة، الفلّاتة، التّعايشة فى دارفور. ومثلها مثل ديار المسيريّة الزُّرُق، الحوازمة وأولاد حميد. فقد وجدتْ حكومة الإنقاذ أقواماً يمكنهم أنْ "يُسرعوا النّهضةَ فى الصّريخ"، بعبارة البدوىّ وهو ينصح ابنه. كانت أرتالٌ من المسيريّة تذهبُ جنوباً لتذودَ عن "السُّودان"، عن "الإنقاذ الوطنىّ"، عن "المركز". آخرها كانت النّهضة لتحرير هجليج من الجيش الشّعبىّ، بعد استقلال جنوب السُّودان. كان ثمّة سماسرة من أبناء المنطقة. يقومون بالمقاولات. يقبضون أو يدّخرون خدماتهم ليومٍ أسود. برزتْ قياداتٌ من المنطقة فى عهد الانقاذ: د. عيسى بشرى، حسن صباحىّ، الخير الفهيم، مهدىّ بابو نمر، وغيرهم، بالإضافة إلى د. الدّرديرىّ محمّد أحمد، آخر وزير لخارجيّة الإنقاذ. على الرّغم من أنّه غير منغمس فى العمل الأهلىّ والجماهيرىّ. فالرّجل نخبوىٌّ، لا يرى فى أهله غير "عرب الشّتات". شايف كيف؟ عام 1997م ظهرتْ بوادر نفطٍ، بعدَ أنْ تمكّنتِ الإنقاذ من خداع شركة شيفرون الأمريكيّة وشراء امتيازها، عبر شركة يديرُ أموالها محمّد عبد الله جار النّبىّ، من يوغندا. أوّل شحناتٍ نفط خرجتْ من السُّودان إلى الخارج، وعادتْ بدولاراتٍ نّاصعة، خرجتْ من ديار المسيريّة. ثمّة حقولٌ معروفة: هجليج، دِّفْرة وبليلة، هى التى ما تزالُ تزوّدُ السُّودان بالنّفط. خاصّة بعد ذهاب حقول الجنوب الأكثر إنتاجيّة. لكنَّ ديار المسيريّة ظلّتْ كما هى. يدفعُ بالنّفط، بالثّروات، فيما يتآكلُها الفقر، الملّل، العطالة، سوء الخدمات وسوء التّقدير. تتراكمُ ظُلاماتُها على ترابيز المسؤولين فى الخرطوم. لا تنعم بلدانها بطرقٍ أسفلتيّة تربط بينها. ليس هناك من شيئٍ يدعو المرء للبقاء فى ديار المسيريّة، إلّا الوفاء للأرض، أو التمسُّك بالرّحم. لا يجدُ الخريجون من أبنائها حظوظهم من الوظائف. يهاجرون شرقاً وغرباً..ثمَّ لا شيئ. حتّى بعد توقيع اتّفاقيّة السّلام الشّامل، عام 2005م، نصَّ بروتوكول منطقة أبييْ على أنْ تذهبَ 2% من عائداتِ النّفط المستخرج من المنطقة إلى المسيريّة ومثلها إلى دينكا نقوك. لكنْ لا أحدَ يعلمُ أنْ ذهبتْ تلك النّسبة طوال الفترة الانتقاليّة، الخمسة أعوام. كان هناك لجنة يرأسها صلّوحة، الفائز بانتخابات 86م. لم يعرفْ منه أحدٌ شيئاً. شايف كيف؟ تريدُ من المسيريّة أنْ يستنفروا ليقضوا على الدّعم السّريع؟ حسناً.. جئْ بالمعلّم والنّائب البرلمانىّ أحمد الصّالح صّلّوحة، واجعله رئيساً "للمقاومة الشّعبيّة" فى السُّودان. سينهضُ المسيريّة وبنو عمومتهم فى كردفان ودارفور، وستهربُ قوّاتُ الدّعم السّريع إلى السّنغال، كما تنبّأ الأكاديمىُّ البارز محمّد جلال هاشم. لكنْ من يفكّر للنُّخبة الكيزانيّة هذه المرّة؟ حين كتبتُ، بدايات حرب أبريل هذه، عن "فقر خيال الإسلاميين"، كنتُ أقصدُ شيئاً مما يجرى الآن، عن طرائق معالجة الأمور. ذلك أنّهم يبنون على وقائع مرّتْ عليها 40 سنة، حين فاز صّلّوحة فى دائرة "أبييْ الشماليّة". يتوجّبُ على المعطيات أنْ تتحنّط، أنْ تدخل فى بياتٍ شتوىّ ليتمَّ استدعاؤها متى احتاجوا إليها. لكأنَّ الاجتماع البشرىّ، التعقيدات الاقتصاديّة، السياسيّة، والحوامل الثقافيّة لسلوك المجتمعات كلّها، لا تتدخّل فى إحداث تغييراتٍ جذريّة فى المواقف. هل تراهن على صّلّوحة، جودات، ودرموت فى جرّ المسيريّة إلى دولة المركز، والدّفاع عنها؟ هل تُراهنُ على كاشا، وتنسيقيّة الرّزيقات فى تغيير مواقف الرّزيقات؟ تُراهنُ على علي محمود وزير المالية الأسبق فى تغيير مواقف التّعايشة؟ تُراهن على الفريق مفضّل فى تغيير مواقف البنى هلبة؟ ثمَّ مَنْ هى "مليشيا الدّعم السّريع" التى تعتقدُ أنَّ على "الشّعب السُّودانىّ" أنْ ينخرط للقضاء عليها؟ كائنات نزلتْ من الفضاء؟ إذا لم تفهم، ولن تفهم، بالتأكيد، عقول الإسلاميين : لماذا تنسحبُ قبيلة رُفاعة من مناطقها فى "الدّالى" و "المزموم"، وأرياف سنّار والنّيل الأزرق، إلى مناطق سيطرة الدّعم السّريع، فأنتَ لا تعرف شيئاً عن "المليشيا". وإذا لم تفهم لماذا تمتلئ سجون مدنىّ ، بأكثر من 5 آلاف متّهمين ب "التّعاون" مع الدّعم السّريع، فأنتَ أيضاً لا تعرفُ عنها شيئاً. وإذا لم تفهم لماذا تتواجدُ عموديّات ومقاتلين من البنى عامر فى نيالا، فأنتَ واهمٌ جدّاً. وإذا لم تفهم لماذا لا يستنفرُ الكبابيش – وهى أهمُّ قبيلة فى شمال كردفان – فى مشروع "القضاء على المليشيا"، فبالتأكيد لن تفهم لماذا تحرّرتْ بابنوسة. شايف كيف؟ فقرُ خيال الإسلاميين يجعلُهم يفكّرون بأدوات تغيّرتْ منذ أربعين سنة. وهو الذى أوقفهم عاجزين عن فهم لماذا خرجتْ مواكب تطالبُ برحيل "الحراميّة"، فى ديسمبر. هل ستفهم الآن، بعد بابنوسة، لماذا سيتمُّ تحريرُ كادقلى، الدّلنج والأبيّض، أمْ ستكون سجيناً فى خطابات الدّفاع الشّعبى وشعارات التآمر الدّولىّ والإقليمىّ على السُّودان؟ بالتأكيد إذا لم تفهم لماذا لم يحارب المسيريّة لأجلك، فأنتَ أعجز من أنْ تفهم لماذا لم تقف فى صفّك دول الجوار: إثيوبيا، جنوب السُّودان، إفريقيا الوسطى، تشاد، ليبيا..ولماذا لا تناصركَ كينيا، يوغندا، جنوب إفريقيا، نيجيريا…الخ. سيكون خيالُك المحدود مشغولاً ب : إنّهم يحاربوننا لأنّنا مميزون. يطمعون فى ثرواتنا. فتأمل، هداك الله.