هنا لن نفصل كثيرا، وليس المقام للحديث الطويل، وإنما هي مجرد قطوفات وخواطر نقف معها متأملين كيفية ذلك الميلاد، ميلاد القيم من رحم الجاهلية والظلمات، ميلاد الإنسان بإنسانيته، ميلاد قيم كلية حركت ركود البشرية، ميلاد إنبعثت من بركته أضواء الحق، وترجمت بموجبه قيم العدل والتسامح، إنها الهجرة، إنها الميلاد. إن الصدام الدامي الذي خاضه النبي صلى الله عليه رسلم وعصبة المؤمنين هو السنة الماضية إلى يوم يبعثون، إنه صدام القيم مع الهوى، إنه التأسيس لروح الإنسان في هذه الأرض ولمنهجه الذي ينظم به سلوله وحركته في الأرض كذلك. الهجرة هي تجسيد قوي لهجر اتباع الهوى، لاتباع الحق، فتلك النقطة الفارقة هي أحد المضامين الجوهرية للهجرة، فترك الديار وأهل والوطن والعشيرة وما تتعلق به النفس من أهواء تعيق مسير الدعوة هو أحد المفاصل الجوهرية في هذا الدين، إنها لا تعني التخلي عن تلك المحبوبات ولا تعني الإعتزال بل تعني بكل دقة أن الدعوة تريد الهجرة لترى تلك البيئة من منطقة أخرى للنظر لتعد العدة لإصلاح ما في الوطن وما في الأهل من انحرافات. الهجرة نموذج قوي للتدبر في مسيرة العمل الإسلامي فهي تعني بصورة دقيقة التجديد في وسائل العمل، والتجديد في الأساليب والطرق، والتجديد في البيئة، والتجديد في الرؤى الفقهية إن الهجرة انتقال من جو الاستضعاف إلى جو التأسيس والقوة، وهنا تكمن عظمة الإسلام، حيث يتميز عن أي دين مجرد في أنه دمج بين مسارين مختلفين هما الأرض والسماء، الأرض بما فيها من طبيعية، والسماء بما فيها من روح تتوق لها النفس البشرية، إن هذا الدمج بين عالمي " الوحي والعلم" هو من أخص خصائص هذا الدين، وقد ترجم ذلك في مرحلة مابعد الهجرة. إن هذه القوة التي اكتسبها هذا الدين تكمن في أصلها في هذا الجمع بين هذه الثنائيات من العلم والوحي، السماء والأرض، الربانية والمادية، المثال والواقع، الدين والسلوك، فكل تلك الثنائيات تمثل في جوهرها "الإنسان"، وهنا تميز الإسلام عبر الجمع التأسيسي بين هذه الثنائيات، فكون بذلك للإنسان اعتباره وأعطاه مكانته المميزة، والهجرة في جوهرها تدشين كامل للسلوك البشري القويم المتمثل في هذا الجمع التاريخي بين عالمي السماء والأرض. إن الجمود ليس من طبيعة هذا الدين، والهجرة هي تجسيد خالد لهذه الفلسفة التي تدعو للحركة والتجديد، والبحث الدائم عن التصويب والتصحيح في مسيرة الأمة ومشكلاتها وقضاياها. الهجرة النبوية تمثل تحولا جذريا في مسيرة البشر على الإطلاق، بموجبها تأسس كيان إسلامي ضم التصور الكلي لحقيقة الإسلام، في قيمه وأخلاقه وهيئته، حيث تشكل مجتمع المدينة، وتأسست أول وثيقة دستورية مكتوبة في التاريخ الإنساني، وفي تلك الوثيقة عهود إجتماعية وسياسية بين أطياف من أديان والأفكار . إن الهجرة هي فيصل بين طبيعة الرسالات السابقة ورسالة الإسلام، إنها ختام السلسلة وتدشين لمرحلة جديدة تماما، مرحلة سيتكفل البشر وحدهم حمل رسالتها دون نبي بجسده بينهم، ولذلك كانت الهجرة تأسيس لنموذج يضم تنوع البشر واختلافهم في الأديان والتصورات، كما أن الإسلام قد وضع تلك الأطر الكلية للتعامل فالحرية هي مركز الإسلام في المجتمعات شرقا وغربا.
////////////////////////////////////////////////////// قصيدة وليد الأعظمي عن الهجرة النبوية كتب الشاعر وليد الأعظمي قصيدة (هجرة المصطفى) وتقول أبياتها: يا هجرة المصطفى والعين باكية والدمع يجري غزيراً من مآقيها يا هجرة المصطفى هيّجت ساكنةً من الجوارح كاد اليأس يطويها هيجّت أشجاننا والله فانطلقت منا حناجرنا بالحزن تأويها هاجرت يا خير خلق الله قاطبةً من مكة بعد ما زاد الأذى فيها هاجرت لما رأيت الناس في ظلم وكنت بدراً منيراً في دياجيها هاجرت لما رأيت الجهل منتشراً والشر والكفر قد عمّ بواديها هاجرت لله تطوي البيد مصطحباً خلاً وفياً.. كريم النفس هاديها هو الإمام أبو بكر وقصّته ربّ السماوات في القرآن يرويها يقول في الغار "لا تحزن" لصاحبه فحسبنا الله: ما أسمى معانيها هاجرت لله تبغي نصر دعوتنا وتسأل الله نجحاً في مباديها هاجرت يا سيّد الأكوان متجهاً نحو المدينة داراً كنت تبغيها هذي المدينة قد لاحت طلائعها والبشر من أهلها يعلو نواصيها أهل المدينة أنصار الرسول لهم في الخلد دور أُعدت في أعاليها
قصيدة محمود سامي البارودي عن الهجرة النبوية (الهجرة الكبرى) انّي لَأَعجَبُ مِن قَومٍ أُولي فِطَنٍ باعُوا النُّهى بِالعَمى وَالسَّمعَ بِالصَّمَمِ يَعصُونَ خالِقَهُم جَهلاً بِقُدرَتِهِ وَيَعكُفُونَ عَلى الطاغُوتِ وَالصَّنَمِ فَأَجمَعُوا أَمرَهُم أَن يَبغتُوهُ إِذا جَنَّ الظَّلامُ وَخَفَّت وَطأَةُ القَدَمِ وَأَقبَلُوا مَوهِناً في عُصبَةٍ غُدُرٍ مِنَ القَبائِلِ باعُوا النَّفسَ بِالزَّعَمِ فَجاءَ جِبريلُ لِلهادِي فَأَنبأَهُ بِما أَسَرُّوهُ بَعدَ العَهدِ وَالقَسَمِ فَمُذ رَآهُم قِياماً حَولَ مَأمَنِهِ يَبغُونَ ساحَتَهُ بِالشَّرِّ وَالفَقَمِ نادى عَلِيّاً فَأَوصاهُ وَقالَ لَهُ لا تَخشَ وَالبَس رِدائي آمِناً وَنَمِ وَمَرَّ بِالقَومِ يَتلُوُ وَهوَ مُنصَرِفٌ يَس وَهيَ شِفاءُ النَّفسِ مِن وَصَمِ فَلَم يَرَوهُ وَزاغَت عَنهُ أَعيُنُهُم وَهَل تَرى الشَّمس جَهراً أَعيُنُ الحَنَمِ وَجاءَهُ الوَحيُ إِيذاناً بِهِجرَتِهِ فَيَمَّمَ الغارَ بِالصِّدِّيقِ في الغَسَمِ فَما اِستَقَرَّ بِهِ حَتّى تَبَوَّأَهُ مِنَ الحَمائِمِ زَوجٌ بارِعُ الرَّنَمِ بَنى بِهِ عُشَّهُ وَاِحتَلَّهُ سَكناً يَأوي إِلَيهِ غَداةَ الرّيحِ وَالرّهَمِ إِلفانِ ما جَمَعَ المِقدارُ بَينَهُما إِلّا لِسِرٍّ بِصَدرِ الغارِ مُكتَتَمِ كِلاهُما دَيدَبانٌ فَوقَ مَربأَةٍ يَرعَى المَسالِكَ مِن بُعدٍ وَلَم يَنَمِ ////////////////////////////////////////////////////////// أم معبد تصف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا وصف امرأة للرسول صلى الله عليه وسلم، مر بها عليه الصلاة والسلام عابرا يستقي منها الماء واللبن، لمحته عينيها فجاشت لزوجها عند رجوعه آخر النهار بكلمات؛ ما وصفت به أم معبد الخزاعية رسول الله صلى الله عليه وسلم لدى مروره وجماعة من أصحابه بخيمتها واستراحتهم عندها برهة من الوقت، في رحلة لهم يطلبون الماء من خيمتها. قالت أم معبد الخزاعية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تصفه لزوجها: (ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثُجْلة، ولم تزر به صلعة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وَطَف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فضل، لا نزر، ولا هذر، كأن منطقه خرزات نُظمن يتحدرن، رِبعة، لا تقحمه عين من قصر، ولا تشنؤه من طول، غُصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، وله رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفَنَّد. (سيرة ابن هشام، زاد المعاد. الرحيق المختوم)
دور المرأة في الهجرة: لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأختها أسماء ذات النطاقين، التي ساهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله، كما روى ابن إسحاق وابن كثير في السيرة النبوية أنها قالت: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: "أين أبوك يا بنت أبي بكر؟" قالت: قلت: "لا أدري والله أين أبي؟"، قالت: "فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشًا خبيثًا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي" قالت: ثم انصرفوا". فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلًا بعد جيل؛ كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء
/////////////////////////////////////////////////////// الهجرة النبوية الشريفة.. من الدار إلى الغار قد تركت الهجرة النبوية المباركة آثارًا جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر النبوة، ولكنها امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ، كما أن آثارها شملت الإنسانية عامةً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت قدمت ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الأخلاقية والتشريعية التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع. لقد كانت الهجرة النبوية من مكة المشرفة إلى المدينةالمنورة حدثًا تاريخيًا عظيمًا، ولم تكنْ كأيِّ حدث، فقد كانت فيصلًا بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، وإذا كانت عظمة الأحداث تُقاس بعظمة ما جرى فيها والقائمين بها والمكان الذي وقعت فيه، فقد كان القائم بالحدث هو أشرف وأعظم الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أشرف مكانًا وأعظم من مكةوالمدينة، وقد غيرت الهجرة النبوية مجرى التاريخ، وحملت في طياتها معاني التضحية والصحبة، والصَّبر والنصر، والتوكل والإخاء، وجعلها الله طريقًا للنصر والعزة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، قال الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]. لم تكن قريش تعلم أن الله أذن لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وبينما هم يحيكون مؤامرتهم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد غادر بيته في ليلة السابع والعشرين من شهر صفر السنة الرابعة عشر من النبوة وأتى إلى دار أبي بكر رضي الله عنه في وقت الظهيرة متخفّيًا على غير عادته، ليخبره بأمر الخروج والهجرة، وخشي أبو بكر أن يُحرم شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذن في صحبته فأذن له، وكان قد جهّز راحلتين استعدادًا للهجرة، واستأجر رجلًا مشركًا من بني الديل يُقال له عبد الله بن أُريقط خرّيتا (ماهرًا وعارفًا بالطريق)، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما، واتفقا على اللقاء في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ، في حين قامت عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما بتجهيز المتاع والمؤن، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لوضع الطعام فيه، فسمّيت من يومها بذات النطاقين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن يتخلّف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة. ثم غادر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه من باب خلفي، ليخرجا من مكة قبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالًا، فقد سلك الطريق الذي يضاده وهو الطريق الواقع جنوبمكة والمتجه نحو اليمن، حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وقام كل من عبد الله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة وأسماء بنت أبي بكر بدوره. انطلق المشركون في آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، يرصدون الطرق، ويفتشون في جبال مكة، حتى وصلوا غار ثور، وأنصت الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى أقدام المشركين وكلامهم. يقول أبو بكر رضي الله عنه: "قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!"، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما»". ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاث ليال حتى انقطع عنهم الطلب، ثم خرجا من الغار ليلة غرة ربيع الأول من السنة الرابعة عشر من النبوة، وانطلق معهما عبد الله بن أريقط (الدليل) وعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما فكانوا ثلاثة والدليل. وعلى الجانب الآخر لم يهدأ كفار قريش في البحث وتحفيز أهل مكّة للقبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أو قتلهما، ورصدوا مكافأة لمن ينجح في ذلك مائة ناقة، وقد استطاع أحد المشركين أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد، فانطلق مسرعًا إلى سراقة بن مالك وقال له: "يا سراقة، إني قد رأيت أناسًا بالساحل، وإني لأظنّهم محمدًا وأصحابه"، فعرف سراقة أنهم هُم، فأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعًا، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى سقط، وعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق فسقط مرة ثانيةً، لكن رغبته في الفوز بالجائزة أنسته مخاوفه، فحاول مرة أخرى فغاصت قدما فرسه في الأرض إلى الركبتين، فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله، فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفي عنهم، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاب أمان ووعده بسواريْ كسرى، وأوفى سراقة بوعده فكان لا يلقى أحدًا يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أمره بالرجوع، وكتم خبرهم. . لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة انطلاقة لبناء دولة الإسلام، وإعزازًا لدين الله تعالى, وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين، ولذا فإن دروس الهجرة الشريفة مستمرة لا تنتهي ولا ينقطع أثرها، وتتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل