كان على غير عادته.. مكتئباً… مبتئساً… متجهماً؛ صاحب البقالة.. فسألته مداعباً : هل أغضبتك المدام – أم أغضبتها – صباحاً؟.. فتبسم أخيراً – كسابق عهده – ورد وهو يلهو بقلم (المشكلة أن عندي شريحتين).. ولم أفهم إلا بعد أن شرح لي…وهو يزداد تبسماً.. ولعله كان يضحك – في سره – من بطء فهمي ؛ أو جهلي بشفرات أيامنا هذه.. فالشريحة هي الزوجة الواحدة… والشريحتان زوجتان.. فلما تشتغل الشريحتان في شبكة واحدة – يقول – لا يقدر على فهم أيٍّ منهما.. علماً بأن الشريحة الواحدة يحتاج فهمها قدراً من الوعي.. بمعنى أن تطرق المدامان على موضوع واحد ؛ في مصادفة ليست نادرة الحدوث.. ولكن كلاًّ منهما بطريقتها… رغم إن المراد واحد.. فيصبح كلامهما – من ثم – مثل (كلام الطير في الباقير) ؛ كما في المثل الشعبي.. وينتظرك كلام الطير نفسه… آخر اليوم.. وذلك إن عدت بغير ما أرادته كلٌّ منهما بحذافيره ؛ جراء عدم فهمك منطق الطير.. ومنطق الطير لم يفهمه إلا نبي الله سليمان.. فلا تفقد – والحالة هذه – الرغبة في التكلم…. والتبسم….. والتجمل؛ وحسب.. وإنما حتى في…….. (الحياة).. وقبل أيام كنت أقرأ دراسة أكاديمية ذات صلة – على نحوٍ ما – بهذه القضية.. قضية قدرة المرأة على كلام – أو منطق – الطير.. والذي يستعصى على الرجال… بما أن عقولهم تختلف عن نظائرها لدى النساء.. فعقل الرجل يميل إلى التجريد ؛ وعقل المرأة لتجسيد التجريد.. تجسيد حتى الفلسفة – إن استطاعت إلى ذلك سبيلا – لتضحى واقعاً قابلاً للوقوع.. ولذلك خلا تاريخ الفلسفة من فيلسوفة واحدة.. فمثالية هيجل – على سبيل المثال – لا يمكن أن تصير مادة في علم التطريز.. وإلا باتت فلسفة غير ذات روح…ولا (حياة).. وضحى يوم – وأنا يافع صغير – كنت أجلس تحت شجرة وريفة في فناء بيتنا.. ومن فوقي عشرات العصافير تتكلم بمنطق الطير.. تتكلم كلها في آنٍ واحد… إلى درجة أنني تساءلت: كيف لها أن تفهم بعضها بعضا.. ثم عج المكان – والفضاء – أمامي فجأة بمنطق طير بشري.. فما لا يقل عن عشر من نساء الحي أقبلن… وجلسن… وتكلمن في وقت واحد.. ثم طفقن يتكلمن – جميعهن – دونما انقطاع…من أمامي.. ومن فوقي يفعل الطير الشيء ذاته…وأنا في حيرة طفولية علقت بذهني إلى اليوم.. وفي غمرة هذه الحيرة ظهر صديق طفولتي مبارك.. وأخذ ينادي على أخته – وقد كانت بين الجالسات – حياة…. حياة…..يا حياة.. ولكن لا (حياة) لمن تنادي.. وقبل أشهر استضافت قناة (فرنسية 24) سودانيين مقيمين بباريس.. وكان عن الراهن السوداني…بعد الثورة.. والضيوف ثلاثة ؛ امرأتان ورجل…وضاع الرجل – رغم فصاحته – بين (الشريحتين).. وإلى أن انتهى البرنامج ما كان له وجود.. ولا (حياة) !!.