26يناير2022م هبط البحيرة لا يكف عن التلفت والسؤال وكأن هاتفةً به هتفت تقول له تعال قالوا أطال وقوفه بالجسر قلت نعم أطال الجسر أوقفه وأوقفه على الجسر الجمال. هذه الديباجة وفقاً لما هو مدون، منسوبة إلى الشاعر خلف الله بابكر وسواء صح ذلك أو لم يصح فالرجل شاعر يستحق أن نتوقّف عنده لنقرأ له وعنه بمزيد من الاهتمام. وأنا بهذا الاستهلال أتمنى أن أجد عذراً عند القارئ يتيح لي العودة مرة أخرى الى ريفي بارا في ترويحة ثالثة، كانت شرشار هي خاتمة مطاف الرحلة الأولى. فقد وصلنا الى هناك والوقتُ أصيل. دلفنا مباشرةً الى الوادي الطيني غرب المدينة والذي يمتد الى ساحله الشرقي حقل من الآبار ذات المياه المالحة. عند احدى الآبار كان هناك صبية يحضرون نوعاً محدداً من التربةً ويقومون بإذابتها في الماء المستخلص من البئر ثم يرشحونه لفصل متبقي التربة غير الذائبة. علمنا منهم أن هذه التربة ملحية تتم إذابتها لزيادة ملوحة الماء، في الجزء الشمالي من منظومة الآبار وجدنا رجلاً يسحب الماء من البئر ليفرغه مُباشرةً في عربة كارو. سألناه عن أفراد أسرة بعينها إن كان بعضهم لا يزال يقيم هناك، أشار الى مجموعة منازل ليست بعيدة من الوادي، وقال إنهم يسكنون في هذا الجزء من القرية. وأعطانا الرجل وصفاً واضحاً لطريق العودة. تحرّكنا لنلتقي الطريق الذي اتجه بنا جنوباً عبر وادٍ رمليٍ فسيح تغطي بعض أجزائه أشجار كبيرة تتشابك أغصانها في الأعلى مكونة غابات صغيرة متفرقة. عبر هذا الوادي تندلق مياه الأمطار باتجاه "دماير" وما يُعرف بمنطقة الخيران. الآن أدركت لماذا يجزم خبراء المياه أن حوض بارا الجوفي تتم تغذيته بملايين الأمتار المكعبة من المياه العذبة عند منطقة الخيران. توقفنا هنا قليلاً لأداء صلاة المغرب ثم تحركنا باتجاه مدينة بارا التي توقّفنا عندها لمراجعة أحد الإطارات. وصلنا مدينة الأبيض قبل منتصف الليل، في وقت لا تزال فيه الشوارع والأسواق عامرة بحركة الناس والسيارات. في يوليو من العام 2005 بدأت رحلتنا الثانية، وهذه المرة كانت الخُضرة تُحاصر شارع الأسفلت من الرهد حتى مداخل مدينة الأبيض. على جانبي الطريق كانت المياه تغطي مساحات واسعة من الأرض حتى يتخيّل للناظر أنه في بيئة من المستنقعات اللا متناهية. كانت قطعان من الماشية بأنواعها المختلفة تزين جانبي الطريق. وصلنا الأبيض عصراً وتحركنا منها صبيحة اليوم التالي لنتوقف عند أم قلجي (البئر) على بُعد أمتار من شارع الأسفلت. أخذنا فكرة عن المنطقة من شاب كان يستقي هناك. قال لنا هذه منطقة الدكتور/ #الضو مختار، وأشار باتجاه قرية على البُعد. تحرّكنا بعدها الى مدينة بارا وأمضينا فيها أكثر من ساعة مررنا خلالها على السوق وبعض المباني الحكومية والجنائن القريبة. وتساءلنا لماذا لم تُعمّم فكرة زراعة أشجار الظل الوارفة على مدن السودان الأخرى وقُراه. وكنا نود التحرك من هناك باتجاه الشمال الغربي، ولكن يبدو أن تقاطعات الطرق قد غيّرت وجهتنا. توقّفنا عن "الحديّد شريف" و"الحديّد أم نبق" و"أم جزيرة" و"مجرور" لنصل أخيراً لمنطقة "السراج" التي بها مجمع لتحفيظ القرآن. هنا قيل لنا إنكم قد تركتم الطريق المؤدي إلى شرشار خلفكم. قفلنا راجعين حتى وصلنا إلى قرية "معافى" حيث توقفنا عند البئر وأخذنا وصفاً جديداً للطريق. اتجهنا غرباً بميلان قليل ناحية الشمال لنلتقي مباشرةً بالتلال الرملية المتقاطعة والتي ينحدر بعضها بصورةٍ حادة نحو الواحات الصغيرة في الأسفل. وهي منخفضاتٌ لا يتجاوز عمق البئر فيها أكثر من عشرة أمتار، بعض هذه الواحات مُحاطٌ بأسوار من فروع الأشجار الشوكية وبعضها يستخدم الوابورات لضخ مياه الري، حيث تزرع على جانب الأشجار، أشجار النخيل والموالح وبعض الخضروات مثل الطماطم والبامية والجرجير وغيرها. ويقال إنه يوجد ما يقارب الثمانمائة منخفض من هذا النوع. لكل واحدة من هذه الواحات الصغيرة اسمٌ. توقفنا عند حوالي منها كانت إحداها تسمى (الكليوة). اتجهنا شمالاً الى منطقة (دماير). في واحدة من تلك الدماير كانت المساكن قريبة من موقع البئر وتوجد مبانٍ حكومية مبنية بصورة جيدة احدها مدرسة وربما يكون المبنى الآخر مركزاً صحياً. تحرّكنا من "دميرة عبدو" صوب شرشار عبر الوادي الفسيح، وصلنا قبل الغروب بقليل والمدينة يسودها جوٌّ خريفيٌّ غامرٌ. سُحب بنية بعضها بلون داكن أقرب إلى السواد وأخرى بيضاء بلون الثلج. وهزيمُ رعدٍ لا ينقطع من ناحية الشرق وزخات مطر. والشمس تكاد تحتجب عند الأفق لتكون لوحةً من الألوان المتداخلة والمُتباينة مع حركة رياح هادئة. توقّفنا عند السوق الذي بدأ يغلق أبوابه للتو. راجعنا الإطارات ثم اصطحبنا بعد ذلك أحد الشبان إلى منزل (حسن ود عبد الله) في الجزء الغربي من المدينة. كان مجيئنا على غير موعدٍ ولا سابق معرفة بالرجل. استقبلنا أهل الدار بترحابٍ حارٍ. بعد تبادل التحايا والتعارف وأداء صلاة المغرب حضر الغداء. وما هي إلا لحظات حتى أقبل علينا خمسة من الجيران، يحمل كل منهم (صينية غداء) بعدها توافدت صبّارات الشاي والقهوة، وامتدّ الانس والتعارف حتى اضطرنا هطول الأمطار للتفرق. وهكذا أمضينا ليلة خريفية قلّ أن يجود الزمان بمِثلها. أوصلنا الانس والدردشة الى أن أرحاماً متعددة بصاحب الدار وأسرته أقرب بكثير من الرحم الذي أتيناهم عبرها. في الصباح الباكر، خرجنا للتجوال حول المدينة الصغيرة التي ترقد على ربوة عالية نسبياً، يحدها من الغرب الوادي الطيني الذي تتخلّله آبار المياه المالحة ويحدها من الشرق وادٍ رملي فسيح تتخلله عدة آبار تستخدم مياهها لسقاية الحيوانات ويُمكن أن تستخدم لبعض الأغراض الأخرى في المنزل. ويمكن وصف المياه هنا بأنها ذات عذوبة نسبية مقارنة بما هو هو الحال في غربي المدينة. الواقع هنا يجعل فكرة الملح الاُجاج والعذب الفرات أكثر وضوحاً. يلتقي الواديان في الناحية الجنوبية للمدينة لتصبح بذلك أشبه بجزيرة تحاصرها الأودية ويبقى منفذها الوحيد نحو البر هو الجانب الشمالي الذي تحده من على البُعد جبال. عدنا الى المنزل لتناول لتناول الإفطار ثم أخذنا الإذن من أهل الدار وجيرانهم بالمُغادرة. اتجهنا غرباً نحو القاعة. أمضينا بعض الوقت هناك لنقف في أكثر من موقع، على طريقة إنتاج الملح في المنازل. غادرنا بعد الظهر بصحبة بعض المواطنين الذين يريدون الوصول الى "دماير" ومنطقة الواحات الصغيرة والتلال الرملية باتجاه بارا ومنها الى مدينة الأبيض العريقة. في ختام هذه الترويحة، يلزمنا أن نزف خالص التحايا والأمنيات الطيبة لأهل تلك البقاع الوادعة والواعدة. خالص الشكر وأجزله للباشمهندس جعفر حسن بإدارة الطرق بالأبيض وقتها. والخبيرين السيد صلاح أحمد محجوب بإدارة مياه الولاية والسيد عبد الله ميرغني بمنظمة إيفاد. الشكر مَوصولٌ لكل من تابع هذه التدوينات، وللجميع وافر الود وعطر التحايا. ودُمتم في حفظ الله…