* غيب الموت أمس واحداً من أهم وأقوى وأميز الشخصيات السودانية وأكثرها إثارة للجدل، رحل الشيخ العلامة حسن عبد الله الترابي من دنيانا بعد 84 عاماً من العطاء، غرس فيها ما غرس، وشاد فيها ما شاد، ولكن سبحان من له الدوام، وسبحان الحي الذي لا يموت، فقد كان رحيله في بداية أسبوع جديد، وهو الرجل المجدد والذي اتخذ التجديد سبيلاً في مشواره الطويل، ووضع بصمته في الخارطة السودانية باختلاف وجهات النظر حولها..!! * رحل الشيخ حسن الترابي، عراب الحركة الإسلامية في السودان، وكأننا الآن نقرأ بيتاً لمحمد سعيد العباسي رحمه الله وهو يردد "طلبت الحياة على ما أشتهي.. وهم لبسوها على ما هي"، وكأنه يصف الروح الوثابة للشيخ حسن الترابي، الذي ظل على مر الحقب يختار أسلوبه في الحياة ويطوع المستحيلات لتنفيذه، يخاطب ساحراً، يكتب مقنعاً، تسبقه ابتسامته الواثقة التي ظلت سمته الملازمة، ولا تكاد تجد صورة، إلا وتزينها سحر هذه الإبتسامة متعددة الأبعاد، عميقة المعاني..!! * ظل الشيخ الترابي رحمه الله لصيقاً بالقرآن ومدارسته، غزير العلم في الفقه، وبشتى المذاهب، ولأنه كان يؤمن بأن الإسلام لم ولن يكون جامداً فقد ظل يتحدث باستمرار عن التجديد، وضرورة التبحر في العلم لمواكبة العصر الحديث الذي يختلف كلياً عن العصور القديمة التي قدمت هذه الفتاوى، لذلك كان أغلب كتبه تتحدث بالتجديد ما بين "تجديد أصول الفقه"، "تجديد الفكر الإسلامي" ، "الأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة" ، "تجديد الدين"، ولم يكن شيخ حسن يدعو إلى عقيدة جديدة بقدر ما كان ينادي بتفكير جديد في تفسيرات النصوص، ولم تكن رسالته مفروشة بالورود، فقد عانى كثيراً في هذا ما بين المتشددين، وما بين الوسطيين، وما بين الآخرين..!! * دفع الترابي رحمة الله عليه الكثير من عمره في السجون المختلفة، وفي عهد الأنظمة العسكرية التي توالت على السودان، كان رفيقاً دائماً للسجن، يصبر ويحتسب لأنه كان يؤمن أنه ليس بأفضل من سيدنا يوسف عليه السلام الذي قبع في قعر مظلمة بمكيدة ابتدأت من "هيت لك"، فصبر واحتسب حتى انتهت محنته ب"الآن حصحص الحق" ، لذلك فقد حولت نفس الترابي المتطلعة أيام الحبس إلى مساحة لتقديم المزيد من الفكر حيث قال في إحدى حواراته عن السجن: " في مجتمع مثل مجتمع السودان يعني بيتعثر عليك أن تجد مجالا لتركز فتقرأ أو تصوب إلى الورقة أفكارك فتكتب ولكن السجن يفتح لك مجالا للكتابة فكل الكتب التي كتبها عن السلطة، عن السياسة والحكم كان كتاب كبير أحسب أنه يعالج قضايا ما وجدتها معالجة في قضايا للعالم الإسلامي وتفسير القرآن كذلك بنهج جديد"..!! * رحل الشيخ حسن الترابي يحمل كتابه بيده إلى مليك مقتدر لا يظلم عنده أحداً، يحمل اجتهاده وآراءه وسعيه المستمر لتقديم فكرته وعلمه، قد نختلف في شيخ حسن السياسي وسياساته وأسلوبه في القيادة، ولكننا لا نختلف أبداً في كونه علامة وهب وقته للبحث والدراسة والتفكر في القرآن والسنة وفي ملكوت الله الكبير، أخطأ أو أصاب فإن له أجر الاجتهاد، ولسنا في مقام المحاسبين لأننا لا نفوقه علماً ولا معرفة، مات عالم من علماء الإسلام في السودان، ورفع علما غزيرا إلى السموات العلى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا)..!! * لوح شيخ حسن عبد الله الترابي بتلويحة الوداع الأخيرة، بلغاته الأربع التي يجيدها، وبابتسامته الأخيرة، وقد كانت حياته عبرة وعظة، وموته عبرة وعظة، وربما سيأتي زمان يعرف فيه الناس عظمة ما قدمه شيخ حسن من علم..!! * أما السياسة فلها أصحابها ومن يقيمون التجربة..!! * اللهم أرحم عبدك الشيخ حسن عبد الله الترابي..!! * سبحان من له الدوام..!! * أقم صلاتك تستقم حياتك..!! * صلّ قبل أن يصلى عليك..!! * ولا شيء سوى اللون الأزرق..!!