في كل يوم تزداد قناعتي بأن السبب الرئيسي الذي يقف وراء تراجع كرة القدم السودانية هي فترة العشرين يوما التي تبدأ في الأول من ديسمبر وتنتهي في العشرين منه . ففي هذه الفترة تحديدا يتحول شارع كرة القدم إلى سوق كبيرة للتجارة والمتاجرة بالبشر .. تحت غطاء الإحلال والإبدال في كشوفات الأندية .. حيث تنشط في هذه الفترة من السنة عمليات السمسرة والمتاجرة في اللاعبين لأجل ضمهم إلى أندية الدرجة الممتاز أو الدرجة الأولى أو ألدرجة الثانية دون وجود أدنى إشراف ومتابعة من المختصين في الجوانب الفنية لأندية هذه الدرجات .. تعالوا أحكي لكم هذه القصة التي تحمل تفاصيلها ما يثبت حديثي هذا للقلة التي يمكن أن تعترض عليه .. أنا متأكد ان الغالبية على علم بهذا الأمر ولا تحتاج لبرهان . تلقيت إتصالا الأسبوع الماضي من صديقي الكوتش محمد عطا الذي طلب مني الحضور إلى احد ملاعب الصحافة شرق المعروفة لمتابعة مباراة غريبة في طابعها ومضمونها .. فغلب علي الفضول وتوجهت من فوري إلى ذلك الملعب الذي وما أن وصلت بالقرب منه إلا وأدهشني التواجد الكثيف للسيارات ( الفارهة ) التي وضع أصحابها لجمها ( جمع لجام ) حول هذا الملعب ..! ركنت سيارتي ثم ترجلت منها لمعرفة من يلعب ضد ( برشلونة ) في هذا الملعب الترابي .. !! فالتواجد الكثيف لأصحاب هذه السيارات الفارهة يشير إلى أن فريقا كبيرا من أوربا قد قرر في الخفاء زيارة منطقة الصحافة شرق وأداء مباراة هناك ضد أحد أندية المنطقة .. ولكن بعد قليل علمت أن هذه المباراة قد تم تصميمها تماما كما يتم تصميم حفلات عروض الأزياء .. حيث تجمع هذه المباراة بين لاعبين يرغبون في الإستفادة المادية من فترة التسجيلات بالإنضمام إلى احد الأندية يتم تقسيمهم إلى فريقين .. حيث يتم التنسيق بين اللاعب واحد الوسطاء لأجل الحصول على فرصة للمشاركة في هذا ( العرض ) الذي يتم فيه تقديم الدعوة لعدد كبير من الإداريين ورؤساء الأندية ( عرفتو العربات حقت منو ) لمشاهدة اللاعبين ثم إختيار من يروق لهم .. ولاحظ يا صديقي ان من توجه إليهم الدعوة لمشاهدة هذه المباريات هم اداريو الاندية وأقطابها .. وليس المدربين والمتخصصين في الأمور الفنية ..!!
تخيلوا معي عروض الأزياء التي لا بد وأنكم قد شاهدتم إحداها من قبل .. حيث يجلس الحضور على جانبي مسرح طولي يمشي عليه عارض الأزياء بخطوات محسوبة ومدروسة تدرب عليها كثيرا .. حيث تبدأ الرحلة من أول المسرح إلى آخره حينما يتوقف ( العارض ) هناك بعد أداء حركة ( وهمية كدا ) تظهر ملمحا معينا في هذا الزي .. ثم يعود بالعكس من حيث أتى ..!! وفي طريق الذهاب والعودة تترقبه وتتفحصه أعين تجار الأزياء وهواة شرائها..!! هذا هو بالضبط ما يمكن أن تشعر به وانت تراقب عارضي المواهب داخل ملعبهم .. وتجارها من حواليه .. فهل بربكم يمكن أن تكون كل الإختيارات موفقة وصحيحة وتخدم الأندية التي ينتمي اليها أصحاب تلك السيارات الفارهة ..!!؟ تخيلوا معي كيف يشعر الواحد من هؤلاء اللاعبين وداخل الملعب وهو يحاول أن يبدو الأفضل من بين كل المجموعة . وتخيلوا أيضا كيف يكون المستوى الفني لهذه المباراة التي يشارك فيها لاعبون لم تجمعهم من قبل ولا حتى ( حافلة المواصلات ) ..!!
هكذا يتم التنقيب عن المواهب في بلادي .. وهكذا يتم تسجيل هؤلاء اللاعبين .. كل المطلوب منهم خلال هذه المباراة فقط العمل لأجل إقناع الحاضرين من خارج الملعب بأية طريقة كانت ..!! و من منً الله عليه من اللاعبين ب( حركة حركتين ) في هذه المباراة نال مراده .. ونال سمساره ضعف مراده .. ومن لم يكن محظوظا في هذه المباراة فعليه بذل المزيد من الأموال لمنسقي هذه الحفلات حتى يحظى بفرصة جديدة في يوم جديد من تلك الأيام العشرين ( المباركة ) .. !!
بالمناسبة هذا السوق غير قاصر فقط على اللاعبين المحليين .. ففي اليوم الذي ذهبت فيه إلى هناك كان من بين ( العارضين ) لاعب من الكاميرون ..جاءه خبر هذا السوق ( الكبير ) هناك وهو بين أهله في ( ياوندي ) فحزم حقائبه ويمم وجهه شطر الخرطوم ليكون سلعة يتكسب بها ( سمسار ) من سماسرة التسجيلات ويخسر لأجلها لاعب موهوب فرصة الحصول على وظيفة في إحدى الأندية .. فقط لأنه لم يضع نفسه في مثل هكذا سوق ..!!
ألا تتفقون معي في أن ( المشكلة كبيرة ) .. !؟ ألا تتفقون معي في أن فترة العشرين يوما من شهر ديسمبر هي موسم للتجارة والتكسب فقط لا غير ..!؟ أما كل الشعارات التي تتحدث عن مصلحة رياضة كرة القدم في بلادنا فمكانها سلال القمامة .. فهذا أمر لا يطعم ( عيش ) ..!!