وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المُعْضِلَةُ اللُغَويَّةُ فِي النِّزاعَاتِ السُّودانيَّة!
نشر في حريات يوم 22 - 03 - 2013


بقلم/ كمال الجزولي..
من بين كلِّ مشكلات بناء الدَّولة الوليدة في جنوب السُّودان، بعد انفصاله في عقابيل حرب أهليَّة ضروس لم تتوقف، منذ 1955م، سوى لسنوات معدودات، ما تنفكُّ المشكلة اللغويَّة تطلُّ برأسها، وبإلحاح استثنائي، في أيَّة مناسبة، حتَّى لو كانت ورشة عمل تدريبيَّة كالتي أقيمت بجوبا، مؤخَّراً، حول حقوق النِّساء، حيث انطرح مطلب كتابة الدُّستور باللغات المحليَّة كضرورة لتيسير فهم النُّصوص، حسب النَّائبة البرلمانيَّة فويبي فونا (المصير الإليكترونية؛ 18 يناير 2013م). كذلك من بين كلِّ هموم الحركة الشَّعبيَّة/شمال، في مناطق سيطرتها بجبال النوبا بجنوب كردفان، حيث ستكمل الحرب الأهليَّة الجَّديدة عامها الثاني بعد ثلاثة أشهر، ما تنفكُّ نفس المشكلة تطلُّ برأسها في أيَّة مناسبة، حتى لو كانت الامتحانات النهائيَّة لتلاميذ يدرسون بالإنجليزيَّة، وفق المنهج الكيني، تحت إشراف إدارة التَّعليم بالحركة، في ظروف الحرب، وتشرُّد عشرات الآلاف بين معسكرات اللجوء والنزوح (مركز جنوب كردفان الإعلامي؛ 22 فبراير 2013م).
(1)
تركيزنا على هذين النَّموذجين ليس، فقط، بجامع الآيديولوجيَّة والقيادة السِّياسيَّة لدى “الحركة الشَّعبيَّة” في كليهما، رغم أن ذلك قد يكون كافياً في حدِّ ذاته، بل، أيضاً، بجامع التَّناقض بين توفُّر عنصر الفدائيَّة لدى بعض المجموعات الإثنيَّة غير المستعربة/غير المسلمة في بلادنا، والتي تقاتل ضدَّ ما تعتبره استضعافاً لها، من جهة، وبين افتقار نفس هذه المجموعات، من جهة أخرى، إلى عنصر الوعي بذاتها على صعيد مكوِّنها الثَّقافي! وتأكيداً لهذه المفارقة، ما من أحد، بالغاً ما بلغت عداوته للحركة الشَّعبيَّة في الجَّنوب سابقاً، وفي جنوب كردفان وغيرها حاليَّاً، يمكن أن ينكر روح الفداء التي ظلت تتحلى بها هذه الحركة في حربها مع المركز. مع ذلك، عند بلوغها الاستقلال في الجَّنوب عام 2011م، وبدلاً من أن تعمل على تطوير إحدى اللغات المحليَّة لتصبح اللغة الرَّسميَّة للدَّولة الوليدة، لجأت لاعتماد الإنجليزيَّة على هذا الصَّعيد، مواصلة لمكابرة سياسيَّة قديمة ظلت تتمثَّل في الدَّفع الحثيث من جانب أقسام مختلفة من الإنتلجينسيا الجَّنوبيَّة نحو إقصاء العربيَّة التي هي، في المقام الأوَّل، لغة أفريقيَّة، مثلما ظلت تتمثَّل في الإصرار العنيد على تضمين الإنجليزيَّة في النُّصوص الدُّستوريَّة كلغة رسميَّة للجَّنوب، رغم أنها ليست لغة أفريقيَّة، دَعْ انحصار استخدامها بين أقليَّات النُّخب المتعلمة. كذلك جرى، في بعض سياقات هذا التَّخبُّط، اقتراح السَّواحيليَّة، أيضاً، كلغة للإقليم (Nile Mirror, Feb. 1974). وقد يجدر بنا أن نشير، هنا، إلى أنه لم يشذ عن تلك المكابرة سوى البرنامج الذي اختطه جوزيف قرنق، إبَّان توليه وزارة شئون الجَّنوب قبيل إعدامه (1969م 1971م)، حيث شرعت إدارته، بتأثير، ولا ريب، من برنامج الحزب الشِّيوعي الذي كان ضمن قيادته، في دراسة تبنِّى إحدى لغات الجَّنوب، كالدينكا الأوسع انتشاراً، لتكون لغة الإقليم القوميَّة. بل لعلَّ اللافت هنا، بوجه خاص، أن جوزيف قد جعل من تلك المهمَّة أولويَّة تسبق حتَّى التَّنقيب عن النَّفط الذي اعتبر استخراجه، في ظروف استمرار الحرب الأهليَّة، سبباً إضافيَّاً للتباعد بين الشَّمال والجَّنوب!
(2)
وفي تقرير خاص نُشر مؤخَّراً (موقع “نيلان” على الشبكة؛ 14 فبراير 2013م)، طرح أبراهام داليانق ثلاث مفارقات في غاية الأهميَّة حول تجليَّات هذه المعضلة اللغوية في دولة الجَّنوب الوليدة: المفارقة الأولى أن الإنجليزيَّة ما تزال بعيدة عن أن تكون اللغة الرَّسميَّة، لأسباب عملية ليس أقلها أن أغلبيَّة الرَّسميين تلقوا دراساتهم بالعربيَّة في الخرطوم. أمَّا المفارقة الثَّانية فهي أن العربيَّة ما تزال تمثِّل أداة التَّواصل اليوميَّة lingua franca بين مختلف المجموعات الإثنيَّة، رغم أن الشَّكل السَّائد منها، والذي يُعرف ب “عربي جوبا”، يمزج، بصورة شديدة الخصوصيَّة، بين العربيَّة العاميَّة وبين ألفاظ وتصاريف غير عربيَّة، لكن قدرة الجَّنوبيين على استخدام هذه اللغة تتفاوت من منطقة لأخرى، فعلى حين يستطيع الجَّميع، مثلاً، فهمها والتحدُّث بها في الولاية الاستوائيَّة الكبرى، لا تستطيع ذلك سوى القلة في ولاية البحيرات، ما يجعل الاستعانة باللغات المحليَّة، عن طريق الإعلام المسموع عبر محطات ال FM المتعدِّدة، ضرورة ملجئة. وأمَّا المفارقة الثالثة فهي أن نفس الدُّستور الانتقالي لسنة 2011م الذي فرض الإنجليزيَّة “لغة رسميَّة عاملة”، أوجب أيضاً احترام، وتطوير، وتعزيز هذه اللغات المحليَّة التي تتكلمها نحو 64 قبيلة.
هكذا يمثِّل الافتقار إلى لغة جامعة موحِّدة، فضلاً عن تفشِّي الأميَّة بأحد أعلى معدَّلاتها في العالم، واحداً من أكبر التَّحدِّيات الشَّاخصة في أفق التَّواصل عبر الإعلام المقروء بالذات، خصوصاً مع سكان الرِّيف.
من جهة أخرى تتَّخذ هذه المعضلة اللغويَّة أحد أبرز وجوه تجليَّاتها، في الدَّولة الوليدة أيضاً، على مستوى التعليم الجَّامعي. فمَن تلقوا تعليمهم العام بالعربيَّة في دولة الشَّمال الأم، قبل الانفصال، ثمَّ التحقوا، بعده، بجامعات الجَّنوب، يعانون الأمرَّين من التعلم بالإنجليزيَّة. وقد فسَّر أحد هؤلاء سبب رسوبهم في الامتحانات بأنَّهم، ببساطة، لا يستطيعون فهم الأسئلة! ووفقاً لراديو “مرايا إف إم” أضحت أجندة صراعات الطلاب تشمل حتَّى لغة التَّدريس، فخلال عشرة أيام فقط تمَّ تنظيم احتجاجين كبيرين على تلقي المحاضرات بالإنجليزيَّة في جامعتين مختلفتين! وفي ذلك، بالقطع، أثر من الإضعاف الممنهج الذي تعرَّضت، وتتعرَّض له الإنجليزيَّة، كلغة للعلم الحديث، ضمن تخبُّط السِّياسات الرَّسميَّة في الدولة السُّودانيَّة منذ انقلاب 1989م، مِمَّا يلقي على عاتق دولة الجَّنوب الوليدة بمهمَّة دعم وتعزيز مقدرات الطلاب، على الأقل في مستوى التَّعليم الجَّامعي، ورفع تأهيلهم لاستخدام الإنجليزيَّة كلغة للأكاديميا، باعتبار أن ذلك أضحى، منذ زمن بعيد، ولأسباب عدة، من ضرورات العصر؛ لكنه لا ينهض، إطلاقاً، كمبرِّر لإهدار قضيَّة تطوير اللغة المحليَّة، سواء في مستوى التَّواصل، أو الاستخدام الرَّسمي.
هنا تبرز أهميَّة العربيَّة؛ فعلى حين تثور، حاليَّاً، المشكلة الخاصَّة بلغة التَّعليم الجَّامعي في الجَّنوب، تكاد لا تنتطح عنزان على كون العربيَّة ما تزال تؤدِّي دورها في كلا الاتِّجاهين: لغة للتخاطب بين المختلفين الإثنيين في الشَّارع، وفي الجَّيش الشَّعبي، بصفة خاصة، منذ عهد قيادة جون قرنق، وحتى قيادة سلفا كير، حاليَّاً، ولغة، كذلك، للتفاعل الاجتماعي للطلاب أنفسهم، بل حتَّى لنشاطهم السِّياسي في الحرم الجَّامعي خارج قاعات المحاضرات.
وهكذا، في حين يبدو، على هذه الخلفيَّة المعقدة، أن الطريق ما يزال طويلاً أمام دولة الجَّنوب لتطوير لغة واحدة جامعة، إزاء ضرورات التنوُّع الإثني، ومهام إدماج العائدين من الشَّمال، فإن المرء ليدهش من المنهج العدمي الذي تهدر به نخبة الحركة الشَّعبيَّة الحاكمة اللغة العربيَّة، مع أنَّها اللغة الوحيدة المؤهَّلة، حاليَّاً، رغم الكثير من التَّعقيدات، ورغم عهود الصِّراعات المريرة، كي تكون، ليس، فقط، لغة التَّواصل الاجتماعي اليومي، بل ولغة المعاملات الرَّسميَّة، لينقلبوا يبحثون، بشقِّ الأنفس، عن لغة “أخرى” تجمع وتوحِّد أشتات التَّكوينات القوميَّة شديدة التَّنوُّع!
(3)
الوضع في جبال النوبا بجنوب كردفان لا يختلف كثيراً. وفي مبحثنا بعنوان “جبال النوبا الإنجليزيَّة”، المنشور منذ ما يربو على العقد، قبل أن يُعاد نشره كفصل ضمن كتابنا بعنوان “الآخر” الصَّادر عن “دار مدارك” عام 2004م، كنا قد نبَّهنا إلى خطورة نفس المنهج العدمي الذي تعاملت به الحركة الشَّعبية مع قضيَّة اللغة في مناطق سيطرتها بالجِّبال، عقب اتِّفاقها مع الحكومة، مطالع الألفيَّة، على وقف إطلاق النَّار واقتسام النُّفوذ في جنوب كردفان.
لقد كان المأمول، وقتها، أن تفتح ترتيبات السَّلام هناك طريقاً سالكا لبسطه على مستوى السُّودان كله، بما يحافظ على وحدة شعوبه، وسلامة أراضيه؛ أي أن يشكل سلام الجِّبال نموذجاً يحتذى في مناطق النِّزاعات السُّودانيَّة الأخرى، خصوصاً دارفور. غير أن الآيديولوجيَّة التي تبنَّتها الحركة لم تكن لتساعد على ذلك، حيث سعت، في ما يتَّصل باللغة مثلاً، للترويج، على أوسع نطاق في أوساط النوبا، للفكرة الزائفة حول أن الإنجليزيَّة هي لغة “التَّحرير!”، بينما العربيَّة هي لغة “الطغيان!”، أو القاطرة التي نقلت إليهم الشَّريعة الإسلاميَّة وسلطة الخرطوم! ولم تصعب على مراسل إحدى المحطات الأجنبيَّة ملاحظة أن تلك المشاعر العدائيَّة تجاه اللغة العربيَّة إنما تلخِّص الكثير من العداوات الثقافيَّة، والدِّينيَّة، والعرقيَّة، والسِّياسيَّة (موقع “بي بي سي”؛ 21 يوليو 2004م).
ونسبة لندرة من تلقوا تعليماً يمكنهم من تدريس الإنجليزيَّة هناك، بسبب الحرب الأهليَّة التي دارت رحاها، في تلك المناطق، لعشرات السنين، فقد اضطرت الحركة لاستيراد مدرِّسين من كينيا ويوغندا! وروى المراسل، في بعض تقاريره، أن التلاميذ والمدرِّسين بمدرسة كاودا أبلغوه بأنهم، في منطقتهم تلك، يتحدثون الإنجليزيَّة فقط؛ كما أكد له مرافقه جوما إبراهيم، المفتِّش بمدارس الجَّيش الشَّعبي، قائلاً: “نحن هنا نتحدث بالإنجليزيَّة فقط. غير مسموح للأطفال التَّحدُّث بالعربيَّة في المدرسة”. ويستطرد المراسل في ملاحظته قائلاً إن تلك السِّياسة ليست، في حقيقتها، غير ردِّ فعل، أو تمظهر معكوس، لنظام آخر، حيث كان التَّحدُّث باللغات المحليَّة، على أيام هيمنة حكومات الخرطوم على الجنوب، ممنوعاً داخل المدارس؛ وكان المدرِّسون الشَّماليون يحضُّون التلاميذ على التَّحدُّث بالعربيَّة. لكنه ما يلبث أن يستدرك قائلاً إن ما يتمخض، مع ذلك، عن جهود تعميم الإنجليزيَّة مختلف، فعليَّاً، على أرض الواقع؛ ويدلل على ذلك بأنه، وهو يغادر المدرسة، مرَّ بفتيات يرددن أغنية، أثناء لعبهنَّ في الباحة، ولما سأل مرافقه جوما عن لغة تلك الأغنية أجابه الأخير بشيء من التَّردُّد: “نعم، كما ترى .. إنهنَّ ينشدن بالعربيَّة!” (المصدر).
هكذا تكذِّب معطيات الواقع ترويجات الآيديولوجيَّة! فالعربيَّة في جبال النوبا، كما في غيرها من المناطق، أوسع انتشاراً، وأعمق تأثيراً، من الدِّعاية الانفصاليَّة بالغاً ما بلغت من الكثافة والنشاط. وربَّما تكفي، على هذا الصعيد، ملاحظة المراسلين الأجانب أن الأوامر يجري تناقلها بين صفوف جيش الحركة باللغة .. العربيَّة! وأن عمال الإغاثة السُّودانيين الذين يديرون مشروعات للجمعيَّة الخيريَّة التَّابعة للكنيسة النرويجيَّة في كاودا يعقدون اجتماعاتهم المسائيَّة اليوميَّة بالإنجليزيَّة، بينما يتبادلون أحاديثهم خارج الاجتماعات .. بالعربيَّة! واعترف أحد ضبَّاط جيش الحركة بأنه يتحدَّث العربيَّة بطلاقة أكثر حتَّى من لغته الأصليَّة، وإن كان ذلك، كما قال، يشعره بالخزي (المصدر).
(4)
يجدر بالحركة الشَّعبيَّة، من موقعها في ريادة حركة الهامش، أن تعيد النظر في سياستها اللغويَّة بوجه عام، وفي سياستها إزاء العربيَّة على نحو خاص، فهي تتنكب الجَّادة بشأنها مرَّتين: مرَّة حين تتعاطى معها كجزء من مكونات البنية الفوقيَّة superstructure، كالأعراف، والتَّقاليد، والمعتقدات، والأمزجة، فتستهدفها بالكراهة والرَّفض، بينما هي ليست كذلك، ومرَّة أخرى حين تسعى، حتَّى وفق الافتراض، جدلاً، بأنها كذلك، إلى محوها وهدمها بالقرارات، والتَّعليمات، والأوامر!
العربيَّة هي اللغة الأفريقيَّة الوحيدة الأكثر تأهيلاً لأن تكون أداة تواصل بين مفردات أمَّة، كأمِّتنا، لم تعبُر طور التَّكوين، بعد، ولأن تضحى حامل ثقافة المشروع الدِّيموقراطي للوحدة المتنوِّعة في بلادنا، إذا تمَّ تخليصها مما شابها، تاريخيَّاً، وعلق بها، من عيوب الاستعلاء والتَّعصُّب البغيضين. وربَّما كان من دلائل تمام هذا التأهُّل أن العربيَّة ظلت تتفاعل، بتلقائيَّة وسلاسة، مع غيرها من اللغات الوطنيَّة في بلادنا، برغم أدواء السِّياسات الرَّسميَّة، فما انفكت تتشقق، شعبيَّاً، إلى لهجات عربيَّات كثر، كعربي أم درمان، وعربي جوبا، وغيرهما شرقاً وغرباً.
ولعل المفارقة تبدو جليَّة، هنا، حين نذكر كيف أن مانفستو الحركة الأوَّل (1983م) حمَّل الاستعمار وحده وزر “التَّفريق” بين أبناء الوطن الواحد “ليسود”! والمقصود من ذلك، بالطبع، ما سمى ب (السِّياسة الجَّنوبيَّة) التى استنَّتها الإدارة البريطانيَّة خلال الثلث الأوَّل من القرن العشرين، وأقامت هيكلها الأساسي على ترسانة من القوانين والإجراءات الرَّامية لاستبعاد المؤثِّرات الشَّماليَّة، وإعاقة التَّقارب بين شطري الوطن الواحد، آنذاك، كقانون الجَّوازات والتَّراخيص لسنة 1922م، وقانون المناطق المقفولة لسنة 1929م، واللذين قُصد منهما أن يصبح الجَّنوب، فضلاً عن جبال النوبا الشَّرقيَّة والغربيَّة، أرضاً أجنبيَّة بالنِّسبة للسُّوداني الشَّمالي، وإلى ذلك قانون محاكم زعماء القبائل لسنة 1931م، وفرْض الإنجليزيَّة لغة رسميَّة للجَّنوب، وتحديد عطلة نهاية الأسبوع فيه بيوم الأحد، وتحريم ارتداء الأزياء الشَّماليَّة على أهله، وابتعاث طلابه لإكمال تعليمهم في يوغندا، وما إلى ذلك.
على أن المفارقة ما تلبث أن تزداد جلاءً حين نذكر، أيضاً، أن الأمر لم يحتج، برغم كلِّ تلك السِّياسات وتطبيقاتها، طوال ما يقارب نصف القرن، إلى أكثر من إبداء حسن النيَّة، عن طريق الوعد بتلبية أشواق الجَّنوبيين للحكم الفيدرالي، كي يصوِّت نوَّابهم، في أوَّل برلمان، مع إعلان استقلال السُّودان .. الموحَّد!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.