الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    عيساوي: حركة الأفعى    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكرة في ملعب التفكُّك..حول سيناريوهات الدكتور الواثق كمير
نشر في حريات يوم 23 - 03 - 2013


[email protected]
قرأت مثل الكثيرين غيري مقال الدكتور الواثق كمير الموسوم “الكرة في ملعب الرئيس،” المنشور بجريدة الصحافة. أورَد الدكتور الواثق ذلك المقال/الاقتراح ضمن ثلاثة سيناريوهات بناها على تحليله للمشهد السياسي السوداني الراهن، وخلص منها إلى أن الأنسب من بين تلك السيناريوهات هو أن يقود الرئيس البشير مبادرة لجمع الشمل السياسي السوداني، في “مساومة تاريخية”، حسب قول الدكتور، وإلا فإن مصير البلاد سيكون الضياع والتفكُّك.
وأول ما لفت انتباهي هو أن المقالة نفسها تمثل “مساومة تاريخية” قام بها الدكتور، لا ينقص من قيمتها كونها أتت على شاكلة اجتهاد فردي، من قِبل هذا الرجل الوطني، المحسوب على الحركة الشعبية، تجاه خصومه الاسلاميين الحاكمين، في محاولة للاسهام في ايجاد مخرج للبلاد والعباد. فقدّرتُ للرجل ذلك، كونه قدّم لنا مثالاً عملياً على فضل قيمة التجاوز عن المرارات التاريخية. وقد أثار اقتراح الرجل حفيظة الكثيرين. فما أن جفت أقلام الدكتور حتى سرت بتخوينه كثير من ركبان الأسافير من إخوته بالأمس، يتهمونه ببيع روحه للشيطان والتنكر لماضيه.
وأود هنا أن أعلن تضامني مع دكتور الواثق، الذي لم التقيه من قبل، وأن أشكره على شجاعته ومجهوده الفكري هذا، في زمان قلّ فيه الباحثون عن حلولٍ عقلانية، وكثر فيه الاستقطاب والتشرذم الذي هو في الأصل نتاج طبيعي لعمق أزمتنا، لكنه تحول الآن إلى أزمة أخرى خطيرة قائمة بذاتها، تضاف إلى الجراح القاتلة التي نُكيلها كل يوم، منذ خمسة عقود ونيف، لهذا الوطن المفجوع بنا ومنا.
كما أود هنا أن أساهم في نقاش ما جاء في آراء الدكتور، بأن أختلف مع بعض مسلماتها الأساسية، ولكن من داخل منطقه الذي ارتكز عليه. لا أفعل ذلك رغبة في المناكفة، ولكن دفعاً لآراء الدكتور الشجاعة خطوة إلى الأمام.
بعد ذلك أود أن أقترح فرضية موازية لما رأى دكتور الواثق، في محاولة مني لتقديم حل.
وألخّص قولي هنا في محوريين أساسيين هما 1) أن الرئيس وحزبه ليسا مؤهلَين لقيادة مبادرة كهذه، وإن الوقت قد فات حتى لو كانا كما ظن الدكتور، و 2) أن طرح دكتور الواثق، في مجمله، يكتسب أهميته وقوته من نظرته العاقلة المتفائلة الساعية إلى الحلول، وليس من تحليل يستصحب الواقع والتاريخ السوداني المعاصر استصحاباً يتناسب مع ويرتكز على عمق الأزمة السياسية السودانية الراهنة، ودور الإسلاميين الأساسي فيها.
بنيتُ زعمي بعدم أهلية الرئيس وحزبه على نتاج تاريخهم في الحكم منذ انقلابهم غير القانوني في 1989، وعلى كيفية إدارة الدولة ومواردها ومقدراتها بعد وصولهم إلى السلطة، ثم سجلّهم في التعامل مع شعبهم ومعارضيهم وبقية العالم، وعلى دوافعهم الفكرية، وعواطف قادتهم، وغير ذلك مما يمكن أن يشكل المَشْرَب الفكري والأساطير المؤسِّسة لإخوان السودان عبر تقلباتهم الحركية المعروفة. نظرتُ باختصار إلى قول وعمل الإنقاذيين في خلال أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، وهي قد تكون أطول فترة حكم غير أجنبي مرّ بها السودان منذ عهد السلطنة الزرقاء. لكني لم أجد في ذلك التاريخ ما يشير إلى أن الإنقاذ تضع قيم الحرية والسلام والتنمية والحكم الرشيد ودولة القانون موضعاً يليق بهذه القيم، التي سنحتاجها في أي مساومة تاريخية.
نظرت كذلك لطبيعة صراع الإسلاميين على السلطة فيما بينهم، فوجدته قائماً على النفع والانتفاع الشخصي، وليس على الاختلاف الفكري. ولو كان الخلاف فكرياً، لأمكن القول أن طائفة الرئيس ستنحاز، بعد دفعها بمبادرة كهذه، إلى صف الحريات والمشاركة السياسية، مع بقية ديمقراطيي السودان، لأن ذلك كان سبب اختلافها مع إخوانها الشموليين. لكن ذلك لم يحدث حين دعا الداعي بذلك من قبل، إذ أن مفاصلة الإسلاميين السودانيين الشهيرة في 2000 لم تصب في مصلحة الديمقراطية والحريات والانفتاح السياسي، كذلك لم يكن هدفُ الانقلابات الموؤدة اللاحقة، التي حدثت منذ المفاصلة، الإتيانَ بدولة الحريات والقانون.
وكذلك يرى المتابع لصراعات إسلاميي السودان، أن تلك المفاصلات دائماً ما تنتهي بتهميش مفكريهم الأكثر استعدادا للحوار وقبولاً للديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. فإذا لم يشفع لهؤلاء تاريخهم الإسلامي الطويل، فكيف لنا أن نبني مبادرتنا على ظنٍ بالخير جُحِد به على رفقاء فكرٍ وسلاحٍ سابقين؟ ما هو الضمان لو قاد الرئيس أو أي قيادي إنقاذي آخر مبادرةً تتطلب بالضرورة إشراك الآخرين في ملكية بقرة السلطة والثروة الحلوب؟ ألا يشكل ذلك تهديداً سياسياً واقتصادياً مباشراً لأهم الركائز التي يقوم عليها النظام نفسه؟ ما هو الضمان ألا يُطاح بالرئيس إن قام بمبادرة كهذه، وألا يصبح ترابي آخر في لحظة من سخريات الأقدار؟
نظرتُ كذلك بحثاً عن أي دليل سطّره الإنقاذيون في كتاب تاريخهم في الحكم، دليلٍ يمثل انجازاً في لمّ الشمل يشار إليه ببنان الفعل لا القول، أو حتى رغبةً صادقةً أبدوها في الجنوح إلى التي هي أحسن. فعلتُ ذلك لأن قدرة أي حزب سياسي على أي مساومة تاريخية بهذا الوزن ترتبط بالضرورة بقِيَم لمّ الشمل والتسامح هذه. لكنني لم أجد دليلاً على ذلك، بل بالعكس، رأيت أدلةً ضد ذلك تماماً. أقول ذلك لا رغبة في المساهمة في قتل روح الأمل، التي يبدو أن الدكتور كان يتطلع لإيقاظها فينا، ولا بدافع الإساءة إلى الإسلاميين، ولكن نظراً إلى المعطيات التي أمامي من هذا الإرث الإنقاذي، الذي لا يمكن الإعتذار له بأنه لم يجد فرصة كافية للتجريب، مثلما هو حال ديمقراطياتنا قصيرة الأجل.
نظرتُ كذلك لمجمل المعضلات القانونية التي سيشكلها تولِّي رئيسٍ مطالَب دولياً لمبادرة مثل هذه، تحاول إنقاذنا، ثانيةً، وإعادة تقديمنا كدولة مختلفة إلى بقية العالم، كدولة تريد فتح صفحة جديدة. كيف يمكننا الحديث إلى العالم المؤثِّر في السياسة الدولية، بجدية وثقة، إذا كان رسولنا إليهم رجلٌ يرفضون استقباله وقد يعتقلونه؟
نظرتُ كذلك لما فعل الإنقاذيون بمعارضيهم، وإلى الحروب التي لا تعرف التوقف، الحروب التي شنوها على شعبهم تقتيلاً وتنكيلاً وتجويعاً وتشريداً، وإلى عجز الإنقاذيين عن التعلم من التاريخ، وإلى فقدان رغبة المعارضة المسلحة وغير المسلحة في التجاوز والغفران، فلم أجد ما يطمئن إليه قلبي.
نظرت كذلك إلى فرص السلام والتحول الديمقراطي التى وأدها الإنقاذيون عبر تاريخهم، حتى قبل الوصول إلى الحكم، فوجدتُ أنه من الصعب جداً تسويق أي مساومة معهم إلى السودانيين، بعد كل ما جرى لخصومهم السياسيين وللشعوب السودانية على أيدهم. ووجدتُ أن عنصر الثقة، الضروري للوصول إلى مساومة ومن ثمّ تنفيذها والحفاظ عليها، أصبح شبه معدوم بين الأطراف المعنية، وأن الزمن قد تجاوزه من فرط ما جرى بين هذه الأطراف من تباعد وتخاصُم نتيجة لذلك.
ثم نظرتُ أخيراً إلى تجربة الإنقاذيين خلال مساومة أخرى كبرى، كان يُفترض كذلك أن تكون تاريخية، هي اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية التي ينتمي إليها الدكتور، فوجدتُ أنها تجربة لا وحّدت وطناً ولا وطّنت حريةً. ووجدتُ أن الإنقاذيين فعلوا كل ما في وسعهم لاحتواء شريكهم في الحكم، الحركة الشعبية، بدلاً من المشاركة المخلصة معها من أجل السودان وشعوبه. فما هو الضمان ألا يتكرر ذلك في مساومة تاريخية جديدة؟
وبعد نظري إلى كل ذلك، اتضح لي أنه لا يستقيم فكرياً أن أصل إلى أي استنتاج مفاده أن الرئيس وحزبه مؤهلين لقيادة مبادرة كهذه، وإنني إن فعلت ذلك فسأبني استنتاجي على أملٍ لا يرتكز على الواقع والحقائق الماثلة.
بالطبع سأكون أسعد الناس لو خيّب الرئيس وحزبه ظني، وقادوا مبادرةً مثل هذه. وأنا نفسي كتبتُ قبل سنةٍ أو يزيد رسالةً أستحثّ فيها أهل الحكم باسم المسؤولية الوطنية أن يفتحوا نظامهم على هواء الحرية والسلام والمشاركة السياسية، وأن يدرسوا تجربتهم ويطوّروا فكرهم حتى لا يصبح الإقصاء السياسي وباءً تتناقله قوانا السياسية فيما بينها.
هذا هو رأيي في جزئية عدم تأهيل الانقاذيين لجمع شمل الأمة التي يحكمونها. وسأطرح، في الجزء الثاني من هذه الإضافة إلى أفكار دكتور الواثق، حلاً موازياً ينظر إلى الأزمة من زاوية ضرورة إحداث تغيير في بنية السياسة السودانية، وليس ظاهرها فقط، حتى يمكن للتغيير المنشود إن يجد تربةً ينبت عليها.
الكرة في ملعب التفكك ..حول سيناريوهات الدكتور الواثق كمير
الجزء 2-3
ذكرتُ في الجزء الأول من هذه المساهمة أن أقتراح الدكتور الواثق كمير بأن يقوم الرئيس السوداني وحزبه بقيادة “مساومة تاريخية” للمّ الشمل السوداني هو أقتراح شجاع، ولكن الرئيس وحزبه غير مؤهلين لقيادة مبادرة كهذه. بنيتُ دعواي تلك على سجلّ تاريخ وحاضر الإنقاذيين في الحكم وخارجه، واستخلصتُ من ذلك السجل أنه ليس من مصلحة الإنقاذيين السياسية والاقتصادية القبول بأعادة توزيع الثروة والسلطة، وأن ذلك سيكون منافياً لطبيعتهم السياسية والآيديولوجية، المبنية على الاحتكار والإقصاء.
وأعود هذه المرة لمناقشة فرضية أخري طرحها الدكتور، وهي أن تمزُّق البلاد وتفككها هو ضررٌ أكبر من مرارة التنازل عما حدث للبلاد تحت حكم الإنقاذيين والانخراط معهم في شراكة وطنية، وإنه من الأفضل للسودان أن يقبل السودانيون المساومة التي اقترحها الدكتور، وذلك من أجل درء الضرر الأكبر بالأصغر.
ليس لديّ أي اعتراض مبدئي على فكرة التجاوز، بل أنا من مؤيديها المتحمسين، لأن تجارب الأمم المشابهة لنا تاريخياً، مثل جنوب أفريقيا وكينيا ودول أمريكا الجنوبية، أثبتت نجاح التجاوز عن الماضي من أجل المستقبل. ولكني أختلف مع الدكتور في قوله إن التفكك هو الضرر الأكبر، وأرجّح أن العكس هو الصحيح.
فقيادة الإنقاذيين لأية مبادرة كهذه ستؤدي على الأرجح إلى تأخير تأسيس الدولة السودانية على قواعد متينة جديدة، وبالتالي تعميق الأزمة وتطويل أمدها، نسبةً لما أوردناه من أسباب في الجزء الأول من هذا النقاش. وإنه على عكس ما هو سائد من تشبثٍ بالوحدة عند كثير من السودانيين، خاصة أهل الوسط، فإن القبول بتفكك السودان الشمالي إلى عناصره وشعوبه الأساسية قد يسهل عملية وحدته الطوعية في المستقبل، لأنها ستكون وقتها وحدة مبنية على الاختيار الطوعى والمصلحة المشتركة، بدلاً من عواطف التاريخ المشترك، الذي أصبح الآن عبئاً أكثر من كونه طاقة للبناء والتقدم.
كان الأفضل بالطبع أن يتطور السودان معاً بشعوبه على أساس المواطنة، في شكل كيان سياسي جامع. ولكن ذلك لم يحدث رغم مرور 57 عاماً على ما كان يفترض أن يكون ضربة البداية. الذي حدث هو العكس، وهو إننا اليوم أبعد ما نكون عن هدف الوحدة والبناء والسلام والحرية. وملخص قولي هنا أن السودان في حاجة الآن إلى التوقف لإضافة مرحلة ناقصة من نموه ككيان سياسي، مرحلةٍ تتطور فيها الأقاليم أولاً إلى كيانات سياسية، بِحُرية ومن غير عسف المركز وحروبه، ومن ثم تبدأ عملية الانضمام إلى دولة إتحادية ديمقراطية، حسب رغبة وإيقاع الأقليم أو الدولة الإقليمية المعينة. فإن رفضت دولة سودانية إقليمية الانضمام من ناحيةٍ مبدئية، فينبغي أن يكون لها الحق في ذلك، لأن الهدف النهائي ينبغي أن يكون إنسان السودان وليس خريطة السودان. بالطبع للانفصال ثمنه الاقتصادي والدبلوماسي، ولكن ذلك يجب أن يُترك لتقدير هذه الكيانات لظروفها وحاجاتها.
نعم، هذا يعني بالضرورة القبول بالأشواق الوطنية في الاستقلال على أساس تاريخي أو ثقافي أو غير ذلك، لأن من شأن ذلك أن يلبي تلك الأشواق أولاً، مما سينعكس نفسياً بالإيجاب على مجمل الممارسة السياسية في هذه الأقاليم، وبالتالي على علاقاتها بجيرانها. ثم إنه سيضع تلك الأشواق في محك الواقع، حتى تستطيع الشعوب السودانية التعرف علي تطلعاتها الوطنية عن قرب، وعلى ثمن تلك التطلعات، في ذلك السياق الحديد.
من شأن الاستقلال الإقليمي أن يخلق تنافساً حراً على التنمية وعلى تطوير إنسان هذه الأقاليم، مما سيستدعي بالضرورة الرغبة في التعاون البيني، خاصةً بعد انتفاء الوحدة التعسفية والنظام السياسي المفروض من علٍ بقوة الحديد والنار، وبعد أن تجد القيادات التي تقود النزاعات الآن نفسها وجهاً لوجه أمام شعوبها التي أرهقتها تلك النزاعات، أمام المسؤوليات اليومية لإدارة الحكم، حيث لا يمكن تعليق الفشل على شماعة سلطةٍ مركزية.
من شأن هذه المعادلة الجديدة أيضاً أن تخلق بيئة سياسية مختلفة تماماً، يصبح فيها التعاون بين شعوب السودان مرغوباً من أجل النجاح الذاتي الإقليمي، ويغيب فيها الغبن والتحجج به. ومن شأن الارتباط الحر للمصالح التجارية والاجتماعية والثقافية المشتركة بين هؤلاء الشركاء الجدد أن يجعل مستقبل الوحدة أفضل، لأن منظورهم لمصالحهم سيختلف بالضرورة نسبة لزاوية النظر الجديدة التي فرضها الواقع الجديد.
وإذا أرادت أقاليم الوسط أن تقود هذا الاتحاد، فعليها أولاً أن تجعل من نفسها نموذجاً يُحتذي، وأن تُثبت لأقاليم الهامش أن من مصلحة الأخيرة الانضمام إلى الاتحاد. ولكن يمكن لأقاليم الهامش أن تقود كذلك، إذا استطاعت تقديم تجربة سياسية جاذبة. الهدف من ذلك كله أن يتم تحويل طاقة التنافس بين السودانيين من طاقة هدامة هي الحرب، إلى طاقة بناءة هي التنمية.
لقد أثبت تاريخنا الحديث أن القفز فوق مرحلة الأشواق الإقليمية قد أضر بالمحصلة النهائية لتطلعاتنا كأمة، وها هو السودان قد قُدّر له أن يُولد خديجاً نتيجة لذلك، وألا يجد العناية في طفولته، فأعاقه ذلك وهو في كبره أيما إعاقة.
ولكن المهم الأن ألا نتباكى على الماضي، وإنما أن نفعل كل ما نستطيعه لكسب المستقبل. ولا يبدو لي أن هذا الكسب سيكون مواتياً تحت قيادة البلاد الراهنة، أو تحت مفاهيم الوحدة القديمة. فالإشكال الأساسي للأزمة السودانية، من وجهة نظري، هو إشكال في المفاهيم، مكانه رؤوسنا وثقافتنا الاجتماعية وطريقة حياتنا. وما ساستنا، على اختلاف مشاربهم السياسية، إلا أنعكاس لنا كمجتمع. ولكن ذلك أمر آخر سنعود إليه في الجزء الثالث والأخير من هذه المساهمة.
الكرة في ملعب التفكُّك حول سيناريوهات الدكتور الواثق كمير
الجزء 3-3
أكتب هذه المقالات للمساهمة في نقاش ابتدره الدكتور الواثق كمير، واقترح فيه أن يقود الرئيس السوداني وحزبه الحاكم مبادرة للمّ الشمل السوداني، وإلا تفككت البلاد. ذكرتُ في الجزء الأول من مساهمتي أن الرئيس وحزبه غير مؤهلين لدور كهذا، بحكم سجلهم في الممارسة السياسية الذي بين أيدينا. وذكرت في الجزء الثاني أن تفكك السودان إلى قومياته التاريخية والثقافية سيكون خياراً أفضل، على عكس ما حذرنا الدكتور الواثق.
وأختتم اليوم هذه المقالات بالحديث عن نواة الأزمة السياسية السودانية، التي أرى إنها في منظومة المفاهيم الاجتماعية والثقافية التي هي جزء من حياتنا اليومية، وإننا سنواصل إعادة إنتاج أزمتنا وصب الزيت عليها ما لم تقوم أحزابنا السياسية وتحالفاتنا على تفكير استراتيجي جديد يستبدل هذه المفاهيم.
أحد النتاجات الجانبية لحكم الإنقاذيين أنهم ساعدوا في توحيد الرؤية السياسية لغالبية أحزاب السودان حول ضرورة الحكم الديمقراطي الليبرالي. نعم، هناك خلافات فلسفية مهمة متبقية بين القوى السياسية المعارضة، مثل هل تكون الدولة مدنية أم علمانية، وأي الأنظمة الديمقراطية أنسب لإدارة الدولة، وغير ذلك من تفاصيل النظام الديمقراطي. لكن لا يبدو لي أن أحداً ذا ثقلٍ في معارضة اليوم يغني للديمقراطية من جهةٍ ويتربص بها ليلاً بجيشه السِّري من جهة أخرى. لا يوجد كذلك أي حديث من قوة سياسية معارِضة يعتدّ بها تفضِّل فيه ما يُسمّى بالشورى على الديمقراطية بمعناها الغربي. كل ذلك لا يعني بالطبع أن الديمقراطية قد تمددت جذورها في السودان، ولكن يعني أن هناك تراضٍ عام حولها، لا يشذ منه من الأحزاب المؤثرة سوى الإنقاذيين.
هذا تطور مهم في الفكر السياسي السوداني لأنه يُنهي، نظرياً على الأقل، الجدال العقيم حول أهليتنا كمجتمع يغلب فيه الإسلام، للحكم الديمقراطي ذي المنشأ الغربي. لكنه تطور بطيئ وغير كاف بالطبع. لذلك يجب تسريعه بتطبيق فكرة التفكك هذه على أحزابنا المتفككة أصلاً.
هذا يعني أن نتوقف عن محاولاتنا، التي أثبتت فشلها مراراً، لإعادة توحيد هذه الأحزاب، وأن نسمح لهذا التفكك أن يأخذ مجراه الطبيعي. فليظل سادتنا الثلاثة رؤساء أحزابهم للأبد، لا يُسألون عما يفعلون، وليورثوها لبنيهم من بعدهم. وليظل اليساريون يتشبهون باليمينيين في حجرهم على ترقي قيادات جديدة. وليخرج من تلك الأحزاب كل من يريد ديمقراطيةً حقيقية خروجاً سلمياً نهائياً مانعاً جامعاً حتي تتمايز الصفوف، لا استعداداً لحروب وإقصاءات جديدة، ولكن لنعرف رأسنا من قدمينا في هذا الدوار الذي دوّخ عقولنا وأرواحنا، من قِبل سياسيين لا تقام حكومة على جماجم الديمقراطية وإلا ضربوا إليها أكباد الإبل. ولتظل حبال الود موصولة بكل تأكيد، لأن هذا الخروج أسبابه معرفية وتنظيمية وليس شخصية. وليقيم التحالف الجديد علاقاته مع بقية القوى السياسية المهجورة على هذا الأساس، وبشروط جديدة ليس من بينها الرغبة في لم الشمل بأي ثمن كان، لأن ذلك سيعيد إنتاج الأزمة. التفكير العلمي يقتضي أن نعزل الشخص المريض عن الأصحاء، لا استهدافاً له ولكن منعاً لانتشار العدوى، وعنايةً به.
وليشكل هؤلاء الثوار المعرفيون محبو الحرية بعد خروجهم تحالفاً استراتيجياً يقوم على القدرة على الإبداع السياسي والقدرة على التخطيط والإنجاز، ولتقوم فلسفة التحالف الجديد على ما ينفع الناس: الديمقراطية والتنمية والسلام، ولا شيئ غير ذلك من اللت والعجن الطائفي والأيديولوجي الذي أضعنا سنوات طويلة فيه.
تَبقّى أن يأتِ هذ التحالف بنموذج لتوزيع السلطة والقيادة بداخله لأن الرغبة في التسلط والتزعم من غير مؤهلات هي جزء من الحمض النووي لثقافتنا العامة. لكن ذلك يمكن حله بأن تُربط الزعامة في التحالف الجديد بالقدرة على خدمة الناس وعلى التطوع غير مدفوع الأجر، وغير ذلك من أوجه التقرب إلى أهلنا وحلّ مشاكلهم. ومن حسن حظ محبي الزعامة في التحالف الجديد إنه لا يوجد شُح في هذه المشاكل الملحّة، وإن هناك هامش داخل نظام الإنقاذ يمكن استغلاله لخدمة أهلنا وتحسين أوضاعهم، وبالتالي إكساب هذا التحالف خبرة عملية في الإدارة والتنظيم والتفكير العملي الرامي إلى اجتراح الحلول وتنفيذها، وكل هذه خبرات تصب في خانة الاستثمار في المستقبل. نعم سيحاول الإنقاذيون التشكك في ذلك والتربص به ومحاولة أخذ “شَكرته”، ولكن لا بأس، فهم يتربصون ويتشككون على أية حال، وذلك ثمن مقبول، لأن العائد منه سينعكس على حياة أهلنا، فإن أصاب الإنقاذيون منه خير فهو دليل على الفرق بين من يُصْلِح في الأرض ومن يُفسد فيها، وسيرى الله والناس عمل العاملين.
الهدف من خلق تحالف استراتيجي مثل هذا هو إعادة رسم معادلة السياسة السودانية بحيث تخلِق هذه المعادلة ساسةً يخدمون شعبهم بدلاً من شعب يخدم ساسته، وبحيث يُعاد تعريف كُنه الممارسة السياسية: من قفاطين ومؤتمرات إلى مشاريع وإنجازات.
كما أن الهدف العملياتي من هذا هو خلق قوة سياسية سلمية فعالة تُشعل روح التنافس بين جميع القوى السياسية الموجودة، لأن غياب البديل الإستراتيجي لكلٍ من الإسلاميين والأحزاب التقليدية، وغياب التنافس، أضرّ بالإسلاميين وبهذه الأحزاب، وأخّر التغيير المنشود، ووضَعَ السودانيين في حالة من الانتظار الأبدي لمُنقذٍ لن يأت أبداً، إلا إذا تغيرت معادلة السياسة السودانية نفسها.
والسؤال المنطقي بعد هذا التحليل هو ما مدى فُرص قيام تحالف كهذا، بالنظر إلى الواقع الذي أمامنا؟ والإجابة غير معروفة. ولكن لا شيئ يولد بأسنانه. ويمكننا أن نبدأ من نقطتين:
1- على السودانيين الذين يحاربون الحكومة المركزية الآن أن يتخلوا عن أي تفكير في تحرير السودان بأكمله وإسقاط الحكومة، وأن يحصروا مجهوداتهم العسكرية فقط في الدفاع والبناء وإقامة كيان ديمقراطي في المناطق التي يسيطرون عليها، حتى يقدموا للسودان نموذجاً عملياً لرؤيتهم للحكم، وحتى يكتسبوا الخبرة اللازمة لإدارة هذه الأقاليم في المستقبل إن اختارهم الناس هناك لتلك المهمة. إن نموذج النضال الذي اختارته هذه القوى السودانية يعطى الأفضلية الاستراتيجية لحكومة الإنقاذيين، فهو سهل الاستغلال من قبل الحكومة تحت ححج العنصرية والدين، وهو غير مبني على قراءة سليمة وواقعية للقدرات الذاتية لهذه القوى، كما إنه يُفقدها عطف الكثيرين في شمال السودان وفي المجتمع الدولي، لأنه يساعد في تصويرها إعلامياً كقوة معتدية تريد أن تستبدل ديكتاتورية بأخرى. وعلى عكس ذلك، فإن اكتفاء هذه القوى باستراتيجية دفاع وبناء وتنمية سيقلب هذه المعادلة، وقد يساعد في أن تأتي لها الخرطوم سلمياً وفي مكانها.
2- على مجموعات الشباب التي قادت الانتفاضات الأخيرة أن ترجع إلى بسطام، بأن تتخلى عن محاولة كسب وُد الأحزاب التقليدية، وأن تركّز بدلاً من ذلك على بناء تحالف استراتيجي شبابي يقود التغيير المنشود عبر محو الأمية وعبر التثقيف السياسي والتطوع وتقديم ما يستطيعونه من خدمات طبية وغذائية وبيئية وزراعية وبيطرية وغير ذلك من عونٍ لأهلهم المحتاجين، بدلاً من محاولة مجابهة نظام بوسائل لا يملكونها، وفي ميدان معركةٍ من اختيار النظام. عليهم أن يعيدوا كلمة “عمل” إلى تعبير “العمل السلمي”، الذى يدعو إليه كبار قادتنا الآن من أرائكهم الوثيرة، وإلاّ فليستعدوا لنا نحن أهل الخارج لننفض الغبار عن قفاطيننا ونأتي لحكمهم بعد سقوط الإنقاذيين مثلما حدث في 1985.
وملخص القول في كل هذا النقاش هو أن الأمراض والإصابات المعقدة تتطلب بالضرورة عملياتٍ جراحية معقدة. هذه هي طبيعة الأشياء. فإذا كنا نؤمن بأن السودان مصاب بمرضٍ معقد، كما شرح لنا دكتور الواثق، فالاستنتاج العلمي المقبول هو أن المسكنات والأطباء المزيفيين لن ينقذوه، بل قد تسوء حالته أكثر، وقد نفقده نهائياً. الاستنتاج المقبول عقلياً هو وجوب إدخاله العناية المركزة فوراً لإجراء عمليات جراحية حرجة عليه، والاستعداد لتقديم كل ما نستطيع لمساعدته، بما في ذلك الدعاء، ثم التهيّؤ من بعد ذلك لما يمكن أن يكون وقتاً طويلاً للنقاهة والشفاء، حتى لو صحّ الدواء. لا توجد في التاريخ الإنساني إنجازات بلا عملٍ شاق. ولا توجد أمة واحدةٌ تقدّمت من خلال انتظارها المعجزات من النبي الخطأ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.