[email protected] هناك نكات وطرائف كثيرة عن الطريقة التي يصف بها الناس ويلخصون مشكلة البلد الكبرى من وجهة نظرهم، فكل شخص ينظر من المنظار الذي يعرفه ويفهمه ويراه، إسكافيا كان أم نجارا، بناء، طبيبا أو فيلسوفا. وعندما تأملت في أحداث الأمس مع مقارنتها بأحداث كبيرة أخرى أيقنت أن مشكلة هذه البلد هي مشكلة إخراج. وقبل أن “ينط” في حلقي زميلنا الدرامي والمسرحي خليفة حسن بلة، فإني أؤكد له أني أعني فعلا الإخراج “الواحد.. دة” والذي درسوه في معهد الموسيقى والمسرح زمان، ثم رموه وراء ظهرهم، لم يستفيدوا منه ولم يفيدوا به البلد. لو نظرنا للدراما السودانية، المسرح والبرامج الإذاعية والتليفزيونية فإن فقر الإخراج فيها ظاهر وبائن لا يحتاج لجدال. كثير من الأفكار البرامجية والدرامية والإعلانية يفسدها الإخراج السئ الذي يفتقد الرؤية والحساسية الفنية. والحمد لله أن الدراما السودانية ، عندما تعرض، فإنها تعرض داخل البيت ولا “تنكشف على رجالة” من الخارج، وإلا كانت فضيحتنا بجلاجل. ثم انتقل للدراما السياسية في بلادنا، لترى غياب وفشل وسوء الإخراج عموما. صحيح أن مشكلة الدراما السياسية ليست في الإخراج فقط، بل في الفكرة الفطيرة ، والأحداث البايخة المكررة، والأبطال الأبديين، لكن حتى عندما تحين لحظة تهدئة يمكن أن تريح الأعصاب قليلا، يفسدها سوء الإخراج. كانت أحداث الأمس مناسبة سعيدة، بغض النظر عن الرأي في مردودها السياسي النهائي أو عدم اكتمالها، ولكن خروج أي مجموعة من الاعتقال هي حدث سعيد، نرتاح عنده قليلا، ثم نناقش توابعه ونتائجه، لكنها تحولت في بعض اللحظات لكابوس فظيع. أعلن رئيس الجمهورية اطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، وقفزت للأذهان مباشرة تساؤلات كثيرة عن ماهية هؤلاء المعتقلين وتعريفهم. خرج علينا المكتب الصحفي لرئاسة الجمهورية بتوضيح يقول إن القرار يشمل كل معتقلي المحاولة الانقلابية الأخيرة، ومجموعة الفجر الجديد، وبعض معتقلي حركات دارفور وقطاع الشمال. ثم تبين الخيط الأبيض من الاسود ،فإذا بالقرار يتضاءل ليقفز فوق كثير من هؤلاء المعتقلين. وظل الناس من الصباح وحتى انتصف الليل بلا أية معلومات ولا توضيحات، وعاشت الأسر حالة من القلق والتوتر حولت القرار لكابوس فظيع، حتى بلغ سوء الظن بالناس أن ربطوا ذلك بأول أبريل. والبيوت تمتلئ وتفيض والهواتف ترن بلا جدوى، حتى أبلغهم الصحفيون ومراسلي الفضائيات أنه تم استدعاؤهم إلى سجن كوبر ليشهدوا لحظة إطلاق السراح.. في منزل المعتقلة انتصار العقلي تقاطر الناس من الحادية عشر صباحا، وظلوا حتى الثانية صباجا بلا أية معلومات، خرج المعتقلون الرجال، وأسرتها تنتظر بلا جدوى. يمتلء البيت ويفيض بالناس، يذهب بعضهم ويأتي آخرون، والهواتف تتلاحق بالإتصالات، والقلق يأكلهم على ابنتهم التي خرجت مساء يوم السابع من يناير ولم تعد للمنزل حتى الآن، الثاني من أبريل. عند الثانية صباحا ذهب أفراد الأسرة لمكتب استعلامات جهاز الأمن يتساءلون: أعلن الرئيس في الصباح إطلاق سراح المعتقلين، فأين ابنتنا ؟ كانت الإجابة: ليست لدينا معلومات ولا نعرف شيئا عن إطلاق سراح المعتقلين، تعالوا غدا صباحا؟! في الثالثة صباحا جاء أول هاتف من انتصار العقلي لأختها، أنها في طريقها للخروج من سجن أمدرمان وستصل بعد قليل للمنزل. تنفس الناس الصعداء بعد أن كاد يدفع بهم القلق لاتخاذ أي موقف متهور في فجر ذلك اليوم. أليست هذه مشكلة إخراج؟ أن يتحول قرار مبهج وسعيد لكابوس من القلق والتوتر والانفعال. هاتوا لنا سبيلبيرج أو إنعام محمد علي أو خالد يوسف سريعا ليخرجوا لنا السيناريو الذي سأقدمه لكم غدا، لحل مشكلة البلد.