بينما نحن ضمن نسوة (مبادرة لا لقهر النساء) نتوشح بالبياض أو السواد حزنا على مليون ميل لم تسع الجميع وقعت علينا فاجعة أخرى. إذ رحل الفارس جمال بشير النفيدي، وهو من أسرة خطت لنفسها اسما في الاقتصاد الوطني فصارت بذلك ضمن الشأن العام، وهو كذلك عضو قيادي بنادي الفروسية السوداني وبالفريق القومي للبولو، وهذا أيضا يضعه ضمن الدوائر العامة، ولكنه كذلك صديق لأخواني خاصة أخي عبد الرحمن ولوالدي، وضمن ذلك الإطار العام وهذه العلاقة الخاصة نداول أفكارا حول فاجعة الرحيل المر. جمال فارس ليس فقط لأنه يجيد ركوب الصافنات الجياد إجادة الفرسان، ولكن لبسالته وهو رجل أعمال والناس تقول إن رأس المال جبان، ولإقدامه حين يتراجع الخلان. وأقول: يناير شهر الاستقلال الأول بيدي المهدية والثاني بيدي أبطال الحركة الوطنية، ولكن منذ زمان اتخذ يناير لنفسه خاصية “رحيل النوارس” بتعبير البعض وطفق الناس يعددون القامات التي رحلت فيه من لدن الأستاذ (محمود محمد طه) (18/1/1985م) ومصطفى سيد أحمد (17/1/1996م) وحسين شريف (21/1/2005م)، وغيرهم، ولا ندري هل السودانيون مولعون بالتواريخ ومقارناتها أم أن بين تواريخهم صلات حقة؟ ففي يوم 30 يونيو توفي مغني الوطنية الأول خليل فرح، وفي 30 يونيو قام الانقلاب المشئوم الذي نحر الوطن، وفي 9 يناير وضع حجر الأساس للسد العالي الذي أغرق للنوبة أرضهم وضيع تراثهم وشردهم مثلما حقق مكاسب تنموية لمصر أولا ثم للسودان، وفي 9 يناير عقدت اتفاقية السلام التي حققت وقف الحرب ولكن بترت الجنوب، والبقية بالقدوة تأتي. كان رحيل جمال مرا على كل من عرفه مرارة تثقل القلوب، رجل كان كالنسمة، يشع منه شيءٌ ما يحدثك عنه بأكثر مما يحدث عنه الناس، الذين عملوا معه رووا كيف كان هاشا باشا جادا في ذات الآن، قالت إحداهن في سودانيز أون لاين إنه كان (طيب القلب حلو المعشر قليل الكلام لا تراه الا مبتسما وكان حييا وذو أخلاق و مروءة)، قالت: (عملت معهم زهاء العشر سنوات أذكر فيها لجمال النفيدي وقوفه معي في أحلك المواقف. كان جمال النفيدي يعيش بيننا كأنه يدرك أن أيام عمره في الحياة قليلة يعيش بيننا بأخلاق حميدة ومثل عليا لا يخلط الجد بالهزل كانت أياديه بيضاء وسخية)، وقال آخر إنه عايش فيه (مثابرة وإنسانية عالية)، وقال ثالث عمل معه أيضا إنه: (شاب كالنسمة، كان هاشا باشا رغم أنه كان جادا جدا فى عمله، كان سباقا لعمل الخير، فى العام 1993 م أحضرت له شابة من معارفنا أتتها منحة من ألمانيا ولم تكن تملك ثمن التذكرة، بعد بضع كلمات مني رفع سماعة التلفون وسأل عن سعر التذكرة وحرر لها فورا شيكا من حسابه الخاص لصالح الوكالة، لم يتساءل كثيرا ولم يتوقف)، وخاطبه رابع تربطه به صلة مصاهرة: (لقد عشت في هذه الدنيا بسيطا متواضعآ حلو المعشر واللسان كريما وشهما سنفتقدك جميعنا وكل الذين عرفوك وأحبوك، ولعل أبلغ وصف عند سماع الخبر سمعته هذه الليلة من خالته وأم زوجته السيدة إكرام إبراهيم مالك وهي تنوح باكية عليه: يالراسي خبرك قاسي .. ولقد كان كذلك). ونعاه ناع من طرف السيد محمد عثمان الميرغني يوم ختام أيام العزاء الرسمية (رفع الفراش في العرف السوداني) ذاكرا كيف انتقل لرحمة مولاه يوم الاثنين ببركته المعروفة وكيف دفن بمقابر السيد المحجوب قرب الصالحين، ثم أبنه الإمام الصادق المهدي تأبين العارف فضله وقال إنه في سن أولاده ولكنه يمحو فارق السن (إذ أصادقهم هم وأصدقاؤهم) مستشهدا ببيت الشعر: وقلت :أخ قالوا:أخ من قرابة فقلت لهم إن الشكول أقارب وقلنا في أنفسنا: ليت الحبيب الإمام أتم البيت بتاليه مع تحوير: قريبي في ودي وعزمي وهمتي وإن فرقتنا في الأصول المذاهب إذ برغم صلات أسرة جمال الاتحادية والختمية التي جعلت شباب الختمية يفردون لعزائه في منبرهم بالإنترنت صفحة أوردوا فيها مشاهد التشييع المؤلم بحضور عبد الله المحجوب بن السيد محمد عثمان الميرغني وفي مقابر المحجوب، إلا أن فاجعة السيد الصادق وأسرته لا شك كانت بفقد ذلك الصديق الحبيب لا تقارن إذ هب نفسه لبيت جمال وكل أسرته رجالا ونساء هبوا قبل التشييع ثم اتجه الذكور منهم مع جثمان حبيبهم لمقابر المحجوب والدمعة في العين والألم في القلب يؤكد أنه رغم أن الأصول فرقت إلا أن الشكول قربت. لقد ظل جمال صديقا حميما للإمام الصادق وأسرته وطيلة أزمان الكابوس الإنقاذي لم يبتعد وذلك كسرا للعادة إذ كما السيل حرب للمكان العالي، فإن أصحاب الأعمال حرب لمن هو للحاكم مبغوض أو قالي. وحينما كان الإمام الصادق المهدي بالمنفى كان يغشاه جمال كلما زار القاهرة بوصية أو بكتاب أو للتحية. شهد الإمام الصادق لجمال بالحلم والنضج والحكمة برغم حداثة سنه، وقال إنه تميز بسبع خصال هي أنه تقي، نقي، حيي، كريم، متواضع، مجتهد، وودود، وقال إنه كان تجسيدا لمكارم الأخلاق كما كان رياضيا مميزا ذا روح رياضية عالية يبذل كل جهده ولا يأبه بالنتيجة. وشهد له بالإحسان، وبالمحنَّة والتوادد مع أسرته وأبنائه وزوجه. كما شهد الناس له ولأخوانه البر البالغ بوالدهم المرحوم بشير النفيدي حتى صار برهم مضرب مثل، كما شهدوا لهم بالترابط الأسري والتراحم البالغ بينهم حتى كان مجمع سكنهم بسوبا تنزيلا ماديا لتلك الحقيقة المعنوية. أشياء مثلما هي مجلبة للرحمة والمغفرة الإلهية مجلبة للحسد: أردأ أنواع الآفات النفسية البشرية التي لها بيننا مضربٌ ضاربٌ. اللهم إنا نعوذ بك من الحسد ومن الحاسدين. حينما رحل جمال أيان مرسى ممات الوطن العريض فإن أسباب ذلك الرحيل مدت لفواجع الوطن، إذ أصابته علة الملاريا الخبيثة بسبب تلوث البيئة بسوبا حيث يقيم مع أسرته الممتدة، وبينما هو بأفضل المستشفيات الوطنية الخاصة يتلقى العلاج من فشل كلوي ثم رئوي بسبب المضاعفات التقطت رئتاه بكتيريا كانت علتها حاسمة. فكر أهله في نقله عبر طائرة خاصة للعلاج بالخارج ولكن حالته لم تكن تسمح بالطيران، وبينما أطباؤه -وكانت على رأسهم الدكتورة هالة أبو زيد – يتداولون حول أمر علاجه واحتياجه لجهاز مكلف جدا هو أساسي لكل بلد لأنه منقذ للحياة ومسئولية توفيره تقع على عاتق الدول، وعبره يمكن غسل الرئة الملوثة وإنقاذ صاحبها من موت محقق، بينما هم يتداولون في الأمر زار المستشفى اثنان من المسئولين الكبار الذين يملأون آذاننا بحديث الإنجاز الإنقاذي، ولما عرض عليهما الأمر ما كان من (أنكرهم طريقة) إلا أن قال على الفور: نعم نأتي به مهما كلف فسيغطي ثمنه! إشارة لأن الحكومة يمكن أن تأتي بالجهاز وتستغل حاجة الناس إليه باعتباره منقذا للحياة فيكون استخدامه لقاء أموال طائلة، صفع قوله الواقفين يومها بالمستشفى، وكانوا يتوقعون جملة من أمثال: طالما أنه ينقذ حياة المواطنين فلا بد من إحضاره، وهو على أية حال رد كان يتسق مع شعار توطين العلاج بالداخل الذي صرفت فيه الدولة المليارات ولم يتوطن إلا الممات بالداخل والممات للداخل! ويتسق مع مخاطبة أسرة مكلومة في فلذة كبدها، وبحسب أحد الحاضرين فإن الدكتورة هالة (مديرة قسم الحوادث بمستشفى الخرطوم) ردت بقولها: هذا الجهاز يجب أن يأتي لمستشفى الخرطوم، وحينما يُحضر الجهاز لمستشفى الخرطوم فإنه (لن يغطي ثمنه)! مسكينة الدكتورة هالة أبو زيد مع من تتحدث؟ وحول ماذا تتحدث؟ هي نفسها مات قريبها الصبي قبل أيام من جمال بسبب الحمى النزفية، وكل ذلك مربوط بالبيئة الصحية مثلما هو مربوط بتدهور العناية الطبية.. ولا ندري متى سترفع الراية البيضاء وتنضم إلى أخوانها الأطباء الذين حينما أضربوا –وعارضت إضرابهم- طعنوا في الفيل لا في ظله وقالوا إن المشكلة في كافة البيئة الصحية وفي أسلوب الإدارة المتخذ، وتحتاج لحلول جذرية وليست فقط حول جهاز غائب! وبينما وجع جمال لا زال في قلبنا ينبض اطلعنا على وثيقة قيل إنها وزعت قبل نحو أسبوعين في مسجد النور بكافوري (مسجد العارف بالله حسن أحمد البشير: كما قيل)، عنوانها (في خباء العامرية) وتحمل توقيع (كتائب الفتح) تفوح من صفحاتها الأربع رائحة صحافة الفتنة وأقلامها المعروفة ويعف قلمنا عن تسميتها. أدنى ما فيها من تهم، أو تلك التي يمكن مداولتها بيننا، ورود أسماء كل أشراف السودان على أنهم ماسونيون، ومن ضمنهم (النفيدية) وآل مالك أهل جمال وخؤولته، وغيرهم من مؤسسي اقتصاد السودان المثمر في وجه اقتصاديي الإنقاذ الطفيليين، والورقة تدعو عبر سياسة التقشف أن يضرب على الأوائل بينما تصمت عن الأواخر بعد أن فاحت روائحهم وأنتنت.. قال معلق على الورقة: عييييب! وأقول: بعد كل ما كنزوا من مال الشعب سحتا وفاقوكم ثراء يا جمال، لا زال في حلقهم غصة أنهم لم يبلغوا ولا معشار الاحترام الذي بلغتم في عين الشعب السوداني وقد كونتم ثرواتكم بالسعي الحلال والجهد العصامي والإنتاج الحقيقي، أسماء مثل البرير- النفيدي- المهدي- محمد عبد المنعم- مالك- داؤد عبد اللطيف- وغيرها مما ذكرت ورقة الحقد إياها تظل شوكة في حلوقهم ويظلون يودون ابتلاعها لتجد أسماءهم الشائهة الجديدة موقعا، فالبلد التي ليس بها تمساح يقدل فيها الورل! أو كما يقول المثل! إننا ندعو الله صادقين أن يرد كيدهم في نحرهم، وأن يبقى أبناؤك وبنتك حاملين لواء رفعة الوطن وإعماره بالمثابرة والإخلاص أسوة بأعمامهم وعمتيهم وأن تتسرب إليهم روحك الخيرة المعطاءة فتكون فيهم باقيا كما أنت باق في ذكراك العطرة. ونرسل عزاءنا لكافة أهلك المكلومين خاصة والدتك السيدة سعاد إبراهم مالك، وزوجتك المحبة السيدة أميمة سيد أحمد الريح وأبنائك الأربعة، ولأخوانك وأختيك خاصة الصديقة الحبيبة إخلاص التي خبرناها تشاطرك الخيرية والتقوى والنقاء والمودة حفظها الله وكافة أخوانك من كل مكروه، ولصهرك وصديقك أسامة سيد أحمد وللصديقة ندى حسن مالك، ولكافة أصدقائك وزملائك بنادي الفروسية وفريق البولو وشركة (أريبا) للنقل. أحسن اللهم عزاءهم جميعا ففي مثل جمال يصعب العزاء ولكنك يا رب على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. ولتحسن اللهم منزل جمال في الآخرة بين الصديقين والشهداء والصالحين، آمين. رحل الفارس جمال في يوم الاثنين 17 يناير هذا الجاري، وكانت منابر السودان المختلفة تبكي رحيلا لنورس مضى، وتتأهب لفاجعة رحيل الوطن! فحق لنا أن نقول إنه شهر رحيل النوارس، والفوارس، ووطنهم كذلك! ولا حول ولا قوة إلا بالله. وليبق ما بيننا