أعلنت هيئة الصحة العالمية عن انتشار وباء غامض في السودان ينحصر في عواصم الأقاليم، وعلى وجه الخصوص في العاصمة القومية الخرطوم. وتُشير تقارير الخبراء إلى أن الوباء يصيب فقط المسؤولين على المستوى الولائي والإتحادي، وتشتد حدة الحمى المُصاحبة له بارتفاع درجة المسؤول في سلم المناصب. وتشمل أعراض هذا الوباء حمّى ونوبات من الصراحة تجعل المسؤول يعترف، دون سبب قاهر، بالتقصير والفشل والأخطاء، ويٌقر بانتشار الفساد والظلم، تتلوها نوبات من الإنكار التام بحدوث التقصير والفشل والأخطاء، أو وجود أي فساد أو ظلم. وقد رجّح بعض خبراء البيئة والصحة العامة ارتباط هذا الوباء (والذي أسموه وباء الإعتراف المتقطع) بكارثة الأمطار والسيول التي تعرضت لها مساحات كبيرة من الخرطوم ومناطق السودان المختلفة، وما صاحب ذلك من برك للمياه الآسنة، وانهيار للمنازل ولدورات المياه مما يجعل مياه الأمطار تختلط بمياه الصرف الصحي، ومن شح في مياه الشرب النقية، وانقطاع للتيار الكهربائي، وتوالد للذباب والبعوض. غير أن خبراء آخرين شككوا في وجود أي صلة مباشرة بين كارثة الأمطار والسيول ووباء الإعترافات التي أصاب حكام السودان بدليل حدوث حالات متفرقة منه خلال السنوات الماضية حتى في فصول الجفاف. وقد أشار الخبراء إلى أن أبرز حالات هذا الوباء تشمل اعتراف والي الخرطوم في مؤتمر صحفي عقده (بمبادرة منه) في بداية هذا الأسبوع بأن معظم شوارع الأسفلت في الخرطوم (التي شيدتها الولاية فيما يبدو) ليست مطابقة للمواصفات العالمية (أو أي مواصفات أخرى في رأيي المتواضع). وقد جاء هذا الإعتراف الصريح (والإعتراف سيد الأدلة) في أعقاب إنكار الوالي في برنامج تلفزيوني لكارثة الأمطار والسيول والتي ذكر أنها لا ترقى لمستوى الكارثة وإنما هي مجرد أزمة. تجدر الإشارة إلى أن من أول علامات وباء الإعترافات تصريح وزير البنى التحتية لولاية الخرطوم قبل عامين عقب أول أمطار في خريف ذلك العام شلّت المدينة وشرّدت مواطنيها (كما يحدث كل مرة)، بأن 25 فقط من بين أكثر من 260 مهندسا في ولاية الخرطوم مؤهلون! ولم نسمع من ذلك الوزير، أو عنه، بعد نوبة الإعتراف تلك، ونسأل الله ألّا يكون ضمن أول ضحايا وباء الإعترافات الذي استشرى هذا العام، كما لم نسمع بما فعله الوزير، إن كان لا يزال في موقعه، أو حكومة الولاية لتصحيح ذلك الخلل. كذلك حملت أنباء الصحف على صدر الصفحات الأولى اعتراف أحد المسؤولين بفشل الجهاز التنفيذي للدولة، وقبل ذلك اعترف النائب الأول لرئيس الجمهورية في لقائه بالصحفيين أن حكومته فشلت في بناء صحافة جيدة (وإن لم يستطرد ليعترف بفشل الحكومة في مجالات الحرب والسلام، ووحدة البلاد، وفي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكافة المجالات الأخرى). وقد سبقه رئيس الجمهورية باعترافه أثناء حفل الإفطار الرمضاني للسلطة الانتقالية لدارفور أن شح الأمطار هذا العام ناتج عن "الظُلم"، وعن أن "الأيدي مُلطّخة بالدماء". ورغم تواتر هذه الإعترافات، وصدورها العلني من بعض أقطاب النظام، ورغم ما يروج عن أن الإعترافات بالفشل والتقصير والمظالم أكثر شيوعا في المجالس الخاصة للمسؤولين، إلا أن البعض يعترض على إطلاق صفة "الوباء" على ما يحدث، ويعتقد أن كل ذلك سينحسر ويزول، بإذن الله، فور انتهاء فصل الخريف وجفاف البرك التي خلفها، واقتراب عيد الأضحى المبارك، وانشغال الناس بأسعار الخراف التي لا شك ستُنسيهم ما حلّ بهم من مُصاب في ختام شهر الصيام وأثناء عيد الفطر المبارك! بيد أن خبراء سيكولوجية السُلطة أنكروا تماما وجود أي وباء أو مرض من هذا القبيل، بل وأشاروا إلى أن الإعترافات سياسة حكيمة مقصودة تتبعها الحكومات الراشدة لتبرهن لشعوبها أن حكامهم بشر يُصيبون ويخطئون، ويُقرِّون بالأخطاء حين حدوثها، مما يُحبِّبهم لهذه الشعوب، ويُديم حكمهم إلى ما شاء الله! وحين سألت بصير حيَنا عن رأيه في وباء الإعترافات، تمتم بكلمات لم أسمع منها غير "حليمة" و "عادتها القديمة"، ثم أضاف في كلمات واضحة لم أفهم مغزاها : "الإضينة دُقُّو وأتْعذّر ليهو!" [email protected]