……… في ربى الشرق هناك هام بعشقها.. هناك في أرض البجا في أقصى وأقسى بقاع الأرض.. في صحن واد جفت عيدانه ونحلت ثقبانه, يمتشق الحر فيه أجردا كما عماليق الجحيم.. كانت أذا أشرقت وهي ذاهبة لورود الماء .. تتقطر اللهفة من كل حناياه الذائبة, إنها اللهفة لخيالها الذي ألفه دهرا مسامرا رقيقا وضجيعا لا يمل.. لا إلى هذه الأسمال التي تهفهف أمامه ولا تكاد تغطي إلا مهاوي حنينه الأول.. أول سانحة غاص فيها في هلام من الوجد ما زال يتحسسه في كهوف كيانه الأسير.. ولا يكاد ادكار تلك اللحظة السريقة يحمله .. خلسة.. على التبسم غافلا عن اثنين يقبعان دائما قربه.. لا يكادان يبرحانه, شيخ هرم هو والده وناقة جرباء أحالتها العناصر إلي كائن أشبه بالحمار, فكانت وهي تلاعب الدلو بيدها.. و بيدها اليسرى على تميمة جيدها..كانت تعصر من رحيق خلجاته كل فتوة الرجل العالق بها و العاشق لخيالها, ولم يكن هو يجد من الكون كله ..في ناظريه.. إلا عناقا يدوم ويدوم محلقا بهم إلى غرة الشفق عند خط التلاشي .. ثم لا ينتهي أبدا, كان يدري إنهما لن يجدا مكانا يختبئان فيه من حنق الزمان, فكان لا يبرح مكانه و كانت خطاه تتلعثم نحوها و ملامحه تتخبط رعونة .. ليست أي رعونة.. إنما هي كل إسراف الفطرة التي لا يحدها حد ولا يقمعها ريب ولا تفسرها إلا ثورة الرغبة.. رغبة متنمرة في أن ينتزعها من كل هذا الجفاف و ينمحي بداخلها خيالا من الوجد يتمطى بكل أوصالها البكر.. ليبثها مصابه .. ويذيقها لثغات الرحمة, ذلك العشق الذي أراق كل شكيمته ببيداء ما وعتها ولا شربتها .. ولا ارتوت من سيلها قيعان الصخور المتشققة من الظلم و الحزن والجفاف, كان لا يحزنه إلا هذا الجفاف.. الذي لا يغطي من الأرض إلا جمالها ليقتل فيها كل احتمالات الروعة والخصوبة .. لا خصوبة هنالك البتة .. فلا السماء تأتي ولا الأرض بكل عطشها تحبل.. تماما كما كان يحزنه أن الكبار لم يعودوا يفارقون خيام (الرقراق) كعادتهم القديمة أبدا, ولا يذهبون وراء الكلأ .. فلا كلأ ولا ماء ولا حيوان. و بكبرياء مجهدة و قليلة الأنفة .. وبكل ما يضج في جسدها الذي يتواثب من بين اهتراءات تلك الأسمال .. وهو ساكن يمشي إليها بعينيه.. (تقبلي) ذات السبعة عشر ربيعا وهي تتمرن الدلال والغنج .. وبكل ما في عينيها المسبلتان من توسل ومن عرفان لما يعتري كيانه لما يخترقها كلما أشرق خصرها العاري.. قتلت ما بقي في خوفه من صبر, و نظرت إليه مرة أخرى أخيرة وهو يزيل بعض القش من أنية كان يمدها إلي أباه المريض الأحدب ليسقيه منها بعض الماء.. ربما ماء ولكنه لم يكن كالماء أبدا.. والشيخ الأحدب يدفعها إليه برفق (دع الباقي لك بني).. وما كان ذلك الماء الاثن ليروي ظمأه, فخار صبره وانتفض كالشهاب يكاد يصرعها حبا.. وألقي بالدلو من يدها.. وعانقها بكل القهر في حياته.. ولما أن تمكن منها.. قال الشيخ (أهي تعجبك يا أوهاج) فقال بلا تردد أي والله إنها تقتلني فهي سلبت مني نعيمي وسربلتني بعناء و رهق مهيب يدفعني دفعا لأكسوها جسدي عوضا عن هذه الأسمال المهترئة.. سنجعل يا والدي أنا وهي معا من هذا (الرقراق) ظلا ظليلا و نعيم.. سوف نتلاشى يا أبي, لن ترانا إلا وبين يدينا من يرد الماء عنك وعني وعنها .. ويسقيك الدواء, سننجب ديسما يقود المراح إلي السفوح والوديان النائية ويعطينا الحليب .. آه كم أشتاق لرشفة حليب دافئة الرغوة يا أبي فأنت تعلم ان عظاما أدمنت ذلك الشراب الأبيض.. نعم فهي ابنة عمي الذي أخذته من الملاريا هو وولديه قبل عامين.. أتذكر يا أبي ؟ انه كان يخشي أن يشتري دواء لأبنه الملقي على الأرض حتى يوفر قيمة (رطل الحليب) لابنه الثاني.. أذكر يا والدي إنني لما عاتبته (لماذا لا يداوي ابنه بهذا الجنيه) انه قال لي وهو نصف منتبه (أتريدني أن أطعم به الحي أم أحيي به الميت).. فأسقط في يدي.. وكان أول مره بكيت فيها في حياتي.. فقد علمتموني إن الرجال لا تبكي.. ولكن عمي هدأ روعي وقال البكاء ليس عيبا يا ولدي فقد بكيت أنا من قبلك لما رأيت الرعاة يشترون الحليب.. أتذكر يا أبي ؟, قال الوالد كيف أنساه وهو أخي الوحيد يا بني.. خذ حبيبتك (أوهاج) خذها يا بني فهي لك .. اظفر بها قبل أن يقتاتها الزمن ويغتصبها الجفاف. تزوج أوهاج حبيبته (قبليت).. ورغم كل ذلك الوهج الخفاف وكل ذلك الحب .. لم ينجبا أبدا..فقد جف الضرع ضرعها.. وضرع البهائم .. وضرع الأرض, ونفد من ظهر أوهاج الحليب, كان يعشقها جدا وكانت تهيم به غراما وكان كيانيهما قد امتزجا كعصارة إلهية لم يفك سمكها إلا الأسقام.. قالت وهي تخفي الأنين.. كنت في الماضي أفتقدك كلما ذهبت تعين والدك علي النهوض.. رحمه الله من شيخ صابر.. و إنني لا محالة ذاهبة إلي حيث ذهب الجميع يا (وهاجي) ولا أخاف إلا من أن أتركك وحيدا تقاوم العناصر والفقر والجفاف.. تبسم رغم الهزال و الحزن المهول الجاثم على كل حياته وقال لا تحزني (قبليتاي) ولا تخافي.. فانه سيبقي حبك في قلبي يسقي ظمأى رغم كل هذا الجفاف,, وافترقا إلي الأبد .. حتى الناقة الجرباء نفقت. ولم يبق هناك إلا الظلم والجفاف.