الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبل التغيير الثوري في السودان بين إستراتيجيتيْ النضال المدني والكفاح المسلّح
نشر في حريات يوم 07 - 11 - 2013


…….
خلفية:
في منتصف أكتوبر الماضي، لفت إنتباهي تصميم بسيط، يحمل شعار كل من "التغيير الآن" و "أبينا"، مثبت على صفحة الصديقة سارة حسبو في الفَيْسْبُكْ. كان التصميم يحتوي على صور سبعة من المعتقلين السياسيين (حتى ذلك الوقت على الأقل). كما ضم أبيات شعر منتقاة من قصيدة "رسالة إلى مريم محمود" لشاعرنا وصديقنا محجوب شريف. فقمت بإستعارة ذلك التصميم من صفحة سارة الى صفحتي بالفَيْسْبُكْ تضامناً مع هؤلاء المناضلين المعتقلين. ثم قام الصديق مسعود أحمد علي بكتابة تعليق مختصر – إتخذ هيئة رسالة مضغوطة موجهة إليّ – أسفل ذلك التصميم، في المساحة المخصّصة للتعليق. كان فحوى تعليق مسعود يشكّك في جدوى المساهمات الشعرية السابقة المرتبطة بثورة 21 أكتوبر 1964 و إنتفاضة مارس-أبريل 1985 في إحداث ثورة أو إنتفاضة شعبية تقوم بإسقاط هذا النظام على النحو الذي فعلته ثورة أكتوبر وانتفاضة مارس-أبريل. فعقبت أنا بكتابة رد مضغوط على تعليق مسعود، حيث إتفقت معه في أنَّ ثورة أكتوبر و إنتفاضة مارس-أبريل لن تُعَادَا، بيد أنني رأيت عكس رأيه فيما يتعلق بإمكانية ثورة أو إنتفاضة شعبية مدنية في جعل هذا النظام ينهار. إستدعى تعقيبي على مسعود تعليقان مؤيدان لوجهة نظري من كل من الصديقين، جلال حسين وآدم قلايدوس. على أن تعليق جلال تتضمن إقترحاً بأن أوسّع دائرة النقاط التي توخّيتها في مناقشتي المضغوطة لوجهة نظر مسعود. فقمت، إستجابة لإقتراح جلال، بكتابة مناقشة مفصّلة. ولم أكتف بنشر تلك المناقشة المفصّلة في ذلك البوست على صفحتي في الفَيْسْبُكْ فحسب، و إنما كنت أضيف اليها، بين حين وآخر، أفكاراً جديدة وأجري عليها بعض تعديلات إلى أن بلغت حدّاً يكاد يصيّرها مقالاً مستقلاً. ولما رأيت أن تلك المناقشة لم تحفّز تعقيباً أو نقاشاً، قمت بإرسالها – كنص منفصل – إلى بضعة أصدقاء بوسطة رسائل خاصة. إثنان من هؤلاء الأصدقاء حضّاني على أن أعيد نشرها، كمقال منفصل، عسى أن يستدعي إعادة النشر هذا النقاش المأمول. ها هو المقال-التعقيب مرة أخرى:
أشكركما أيها الصديقان، جلال وآدم، على فتح هذه المنافذ البصيرة. وأتفق معك، يا جلال، في أنَّ موضوع "التواصل والتجاوز التاريخي" – إنْ جاز هذا التعبير أو الإختزال التوصيفي – موضوع جدير بالبحث والقراءة وإعادة القراءة. وأنا أتفق (وأظن أنكما فاعلان كذلك) مع الصديق مسعود في أنَّ حَدَثَيْ أكتوبر 1964 وأبريل 1985 التاريخيين لن يتكرَّرَا. هذا مفهوم صَيَّرته بصيرة ماركس بداهةً. فله الشكر والإمتنان. على أنَّ ما حاولتُ قوله، من خلال تعليقي السابق، المضغوط، وأؤكِّد عليه هنا أيضاً، هو أنَّ ثَمَّة فارق بين تكرار وقوع أحداثٍ تاريخيةٍ مُدْبِرَةٍ بعينها (ونماذجنا هنا هما ثورة أكتوبر وإنتفاضة مارس-أبريل) وبين إعتماد خيار الفعل المدني الثوري كإستراتيجية للتغيير السياسي في مراحل تاريخية متباينة بشروط كل مرحلة على حدة. فإنتفاضة مارس-أبريل لم تنسخ – وما كان من الممكن لها أنْ تنسخ – ثورة أكتوبر. لكنَّ الأخيرة كانت جزءً فاعلاً من ذاكرة ومفاهيم الأولى، مثلما الأولى والأخيرة تشكّلان – بغض النظر عن درجة كثافة حضور كل منهما – بعضاً من التراث (الداخلي) الهام لإنتفاضة سبتمبر 2013 الأخيرة (فبعض تراثها الخارجي يمكن إرجاعه إلى ما سُمِّيَ ب"ثورات الربيع العربي". يُدَلِّل على هذا هجرة بعضٍ من تقاليد تلك الأفعال التاريخية (كتقليد-شعار "الشعب يريد سقاط النظام"، تقليد تعيين يوم الجمعة لتعبئة الجماهير للخروج إلى الشارع: "جمعة الشهداء"، على سبيل المثال).
وفي مقابل ذلك-هذا الرصيد المدني الثوري، نجد أنَّ النظام الإستبدادي الشمولي للفريق إبراهيم عَبُّود يُؤَلِّف جزءً مكيناً من ذاكرة ورؤى النظام الإستبدادي الشمولي للمشير جعفر نميري، مثلما يمَثل ذينك النظامان ركناً بارزاً من أركان ذاكرة ومفاهيم النظام الإستبدادي الشمولي الماثل.
أنا أميل إلى أنَّ صديقي مسعود (الذي عاصر ملحمتيْ أكتوبر ومارس-أبريل) يقول بإ ستحالة تغيير أو إسقاط النظام الراهن عبر الفعل المدني الثوري، على نحو ما فعلت ثورة أكتوبر وإنتفاضة مارس-أبريل. ورغم أنَّ العمل العسكري-الثوري-الشعبي، كإستراتيجية سبق أنْ سَعَتْ، وما تزال مُقْتَرَحَة، للتغيير السياسي في السودان المعاصر، الّا أنَّه لم تكن له اليد الطولي في التغيير السياسي الجذري، حتى الآن على الأقل. والنموذج الأسطع في تاريخنا السياسي، القريب، المعاصر، هو التجربة أو المسيرة النضالية النوعية، المسلحة الضخمة، للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان التي – وإنْ أحدثت تغييراً نوعياً إيجابياً في خريطة المفاهيم السياسية في السودان – بيد أنَّها لم تنتهِ إلى تحقيق هدفها الأسمى: إسقاط النظام في المركز وإقامة بديل ديموقراطي، علماني (الذي كان مطروحاً فيما مضى كنظام إشتراكي علماني) ناهض على التوزيع العادل للسلطة والثروة القومية. ومع ذلك، يظلُّ، كما أشرتُ للتوّ، أحد أبرز إنجازات التجربة-المسيرة النضالية النوعية للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان يَتَجَسَّد في النقلة المفهومية النوعية المؤثرة، التي أحدتثها في الفكر السياسي السوداني الحديث، أي النقلة الناجمة عن قراءة ثاقبة لأزمة الحكم في السودان وغياب العدالة الإجتماعية والثقافية، الناتجة، في أبعادها البنيوية التاريخية-الإجتماعية-الإقتصادية-السياسية-الثقافية-الآيديولوجية، عن العلاقة المختلّة بين المركز والهامش، في رؤيةٍ تضم وتتجاوز العنصر الجغرافي، لا تستبعد العامل الطبقي لكنها لا ترى إليه كمُحَدِّدٍ وحيدٍ للصراع. غير أنَّ التأثير الأضخم، في الذاكرة السياسية السودانية المعاصرة، ما يزال ذلك الذي أنجزته – حتى الآن على الأقل – تجارب الكفاح المدني، رغم الإنتكاسات البنيوية التي ما فتئتْ تَتَكَبَّدها تلك التجارب المدنية (الإستقلال، ثورة أكتوبر، إنتفاضة مارس-أبريل) عقب نجاحها (النسبي، بل والخِلَافي) في الإطاحة بالأنظمة التي نهضت ضدها. طبعاً هذا لا يعني أنَّ النضال الشعبي المسلّح الحالي، أو المستقبلي، مكتوب عليه المحدودية الأبدية في إسقاط هذا النظام. لكنني سأحاول أن أتلمّس هنا أيُّ الإستراتيجيتين النضاليتين يمكن أن يكون لها الدور الأكثر حسماً في التغيير الراديكالي المنشود على ضوء بعض أبرز الشروط التاريخية للحاضر.
مثلما سبق أنْ أشرتَ أنت، ياجلال، هناك الكثيرون ممن يقاسمون الصديق مسعود إعتقاده هذا. بمعنى أنهم جميعا لا يُعَوِّلون على الفعل المدني الثوري – بعنصريه: الإنتفاضة الشعبية والعصيان المدني – في الإطاحة بهذا النظام لأسباب تبدو وجيهةً، متعلّقةً – في جزءٍ مُهمٍّ منها – بتصفية الخدمة المدنية من الكوادر غير المنتمية للنظام. بل – أعمق من هذا أيضاً – لأسباب ذات صلة بالمساعي المنهجية الشرسة لهذا النظام لإستئصال بعض – إن لم يكن معظم – "الرموز التاريخية الثورية السودانية" من الذاكرة العامة للشعب السوداني، بغرض الحيلولة، بالأخص، دون تلك الرموز وأفئدة ومخيِّلات الأجيال الجديدة، عبر إستراتيجيات متنوِّعة – التي تشكّل، في مجملها، ما أسماه الإستراتيجيون الآيديولوجيون للنظام الحاكم ب"مشروع إعادة صياغة الإنسان السوداني"، الذي هو العمود الفقري لما نعته هؤلاء الإستراتيجيون الآيديولوجيون ب "المشروع الحضاري" للنظام-الدولة. من هذه الإستراتيجيات تغيير المناهج الدراسية العامة، إتخام الأجهزة الآيديولوجية (لا سِيَّمَا الإعلامية) للدولة بالدعاية والتبشير لبرامجها الآيديولوجية متعدِّدة الأوجه، حشر كثير مما يرى آيديولوجو النظام أنه "قيم وممارسات إسلامية" في كثير من الأوجه الرسمية للخدمة المدنية وغير المدنية (مثل إقامة مسجد في كل مؤسسسة حكومية، فرض الصلاة أثناء العمل، فرض أساليب معيّنة في التخاطب أو التدبيج الشفاهي والكتابي الرسمي، فرض إرتداء أنواع محدّدة من الأزياء، بزعم أنها "أزياء إسلامية"، على النساء المرتبطات بالعمل في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية – متى ما إستطاعوا إلى الأخيرة سبيلا – كما فرض نفس الصنف من اللبس على الطالبات)، الحَجْر على حرية التعبير والإبداع وسدّ كل القنوات الإعلامية-الثقافية-الإبداعية الرسمية في وجه الرأي المختلف والإبداع الحر، علاوةً على عرقلة عمل المنافذ الديموقراطية، أي الغير رسمية، التي من شأن بعضها أنْ يساهم في إبقاء تلك الرموز الثورية متحركةً، فائحةً ومتلألأة.
هذا العمل المنهجي لم ينجح فيه نظام مايو نجاحاً فائقاً، أي ذلك الذي يماثل نجاح النظام الراهن، رغم أنَّ الأوَّل بذل محاولات شبيهة (لكن مرتبكة وأقل سُعَاراً بسبب طبيعة الأُسُسِ أو التَوَجُّهَات الآيديولوجية المتباينة والتوازنات أو التحالفات السياسية المختلفة للنظام خلال منعطفات حكمه). أضف إلى هذا أنَّ الذاكرة المدنية، الثقافية-السياسية-النقابية، كانت ماتزال مُتَشَبِّثَةً بآثار أكتوبر عبر إستراتيجيات وقنوات متباينة، ساهم فيها، من بين ما ساهم، القرب الزمني من فترة ثورة أكتوبر (بالمقارنة مع الحقبة الراهنة)، التواصل الجيلي المباشر، النشاط الطُّلَّابي المناهض في الجامعات، المعاهد العليا والمرحلة التعليمية الثانوية العليا، الممارسة السياسية السرّية للمعارضة، العمل النقابي المُقَاوِم، التَسَرُّب الثقافي-الإبداعي الحر من خلال القنوات الإعلامية والثقافية الرسمية، عمل بعض البؤر الثقافية-الإ بداعية الديموقراطية، أي الغير رسمية، التفاعل العام مع حركات التحرر الوطني والتغيير الثوري في الخارج لا سِيَّمَا في أفريقيا، أميركا اللاتينية وآسيا (من أمثلة ذلك: النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، الكفاح ضد الاستعمار البريطاني في زِمبابوي، كما كان للقضية الفلسطينية وعناصر أخرى – داخلية وخارجية – دوراً مهماً في المعاداة الشعبية للإمبريالية العالمية – والنيوكولونيالية طبعاً – بقيادة الولايات المتحدة التي كان نميري أحد وكلائها). ولهذا إحتوت شعارات إنتفاضة مارس-أبريل على شعارات من نوع: "يا أكتوبر جاك أبريل، أعظم شعب وأروع جيل" و "لن يحكمنا البنك الدولي". (وبالمناسبة، كان بعضنا يرى – قُبَيْل إنتفاضة مارس-أبريل 1985 – بأنَّ خصائص وطاقة العمل المدني المُقَاوِم – في ذلك الحين – لن تُوَفَّق في إسقاط نظام مايو، على النحو الذي أنجزته ثورة 21 أكتوبر 1964 ضد حكم المجلس العسكري لإبراهيم عَبُّود، وبالتالي فإنَّ الحل يكمن في المقاومة المسلَّحة، حيث كانت أتواق الكثيرين منّا مشرئبةً نحو النضال المسلَّح، الوليد وقتها، للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان. وأذكر أنَّ مُحَاجَّات ذلك البعض منّا كانت تقول بنجاح دِكتاتورية جعفر نميري في تفتيت عضد النقابات، وأن النشاط الحزبي والتنظيمي السياسي العام كان محاصراً وواهناً (وبعضه كان بليداً ومتثائباً طبعاً)، في حين أنَّ العمل السياسي اليساري، لا سِيَّمَا من قِبَل الحزب الشيوعي السوداني، كان ضعيفاً بعد الضربات القاصمة التي وجهها له النظام، كما أثبت إبتكار النظام لما نُعِتَ وقتها ب"الكتيبة الاستراتيجية" – التي أفشلت إضراب عُمَّال السكة الحديد – إستحالة نجاح الإضراب السياسي والعصيان المدني).
لا ريب في أنَّ الشُقَّة الزمنية بين أكتوبر 1964 وبين الآن قد إزدادت شساعةً. كان هذا – وما يزال – عاملاً ثقافياً-سياسياً في صالح الدِكتاتورية الحالية. وهو العامل الذي سَهَّلَ لها – بالإضافة إلى عناصر أخرى كالهجرات العريضة للسودانيين إلى الخارج وأساليب متنوِّعة للتصفية المدنية-الثقافية-الآيدولوجية-السياسية – مهمة التآمر على الذاكرة الشعبية العامة.
ومع ذلك، فأنا لست من أنصار التعويل الكامل على إستراتيجيات للتغيير الثوري غير مدنية. و إنتفاضتا العام الماضي وهذا العام تؤكدان – على سبيل المثال، ورغم عوامل الضعف والنكبة مُرَكَّبَة المصادر – على إعتقادي بأنَّه من المستحيل القضاء على الوجدان والخيال المدني الثوري في السودان. كما تثبتان بأنَّ المحو الكامل لذاكرة الشعب أمر غير ممكن، مهما كان حظّ المشاريع المنهجية-الرسمية من الظَّفَر. أضف إلى هذا أنَّه من المستحيل الحيلولة – في عالم اليوم الزاخر بتقنيات التواصل السريع – دون تفاعل المواطنين في الداخل مع أحداث ومنجزات العالم الخارجي. هذا من ناحية بعض مصادر أو شروط العمل السياسي المدني. أمَّا من جهة الخيار العسكري الشعبي، فأنني أرى أنَّ أُفُق عمل الكفاح المسلَّح السوداني الراهن محدود. فعلي عكس الأُفُق المفهومي- الآيديولوجي والطموح السياسي اللذين تمتّعت بهما الحركة الشعبية لتحرير السودان في السابق – وبسببهما إكتسبت ثقلاً سياسياً وتضامناً شعبياً في الشمال – أنتجته وساعدت على تطوُّره أسباب – داخلية وخارجية – لم يعد جُلُّهَا ماثلاً الآن. ولهذا فإنَّ أبعد مدىً يمكن أن يصبو إليه النضال المسلَّح الحالي هو أن يتوصّل إلى إتفاقية، تتم تحت رعاية (وضغوط) وضمانات دولية وإقليمية، مع النظام القائم الذي سيُؤْمَلُ أن يقدِّم من خلالها تنازلات (التي من المُرَجَّحِ أن تكون أقل من تنازلات إتفاقية السلام الشامل لعام 2005) تؤدي إلى مشاركةٍ – التي سيسعى مفاوضو المعارضة المسلَّحة إلى جعلها أوسع – في السلطة. بهذا المعنى، لو كان شعار الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان – قبل إتفافية السلام الشامل – "تحرير الخرطوم"، فان واقع الحال (وآفاق مفاهيم وطموحات بعض المُتَنَفِّذِين) ستثبت أنَّ غاية النضال المسلَّح الماثل ستكون (إنْ لم تكن كائنةً أصلاً): "الوصول إلى الخرطوم". وشتَّان ما بين المفهومين. وفي هذا المنحى، فإنَّ العمل المدني الثوري سيقدم خدمةً جليلةً للمعارضة المسلَّحة. (ولهذا السبب فإنَّ الأخيرة سارعت إلى إعلان جاهزيّتها لوضع البنادق على الأرض حال إنتهاء الإنتفاضة أو الثورة الشعبية المدنية إلى إسقاط النظام). وأنا هنا لا أقلل من شأن مساهمة النضال المسلّح في مسيرة التغيير. فلقد كان للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان دوراً فاعلاً في إستنزاف وإضعاف نظام مايو (وإستنزاف وإضعاف هذا النظام أيضا، على الأقل حتى قبيل الدخول السلمي للحركة الشعبية إلى الخرطوم في أعقاب التوقيع النهائي على إتفاقية السلام في 2005)، كما أدّت الحركة الشعبية وجيشها الشعبي مهمة لا يُستهان بها في بث روح النضال، الأمل والجدوى في الشارع السوداني. وسيكون للكفاح المسلّح الحالي دوره الهام حتماً على هذه الجباه أيضاً. غير أنَّه من غير المُرَجَّحِ أنْ تكون يده، في تقديري، هي اليد الأعلى في إسقاط هذا النظام – ما لم يطرأ تَغَيُّرٌ أساسيٌّ، في جزء مؤثر وسائد على الأقل، من القوام الرأسي-البشري المُتَنَفِّذِ، على الصعيد السياسي، مما يُخَلِّف تحوُّلاً جذرياً في البنية الفكرية-السياسية للحركة المسلّحة، (أقول هذا وفي ذهني الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان – قطاع الشمال)، وما لم يحدث نُمُوٌّ هائلٌ في القوام الأفقي-البشري والجغرافي لها، وما لم يقع تَبَدُّلٌ جوهريٌّ – من الناحية الكيفيَّة والكميَّة – في المحيط الإقليمي (باتجاه خلق وتطوير دعم إقليمي سياسي ولوجستي للحركة المسلّحة). بيد أنَّ الآفاق لا تبدو – في المدي المنظور على الأقل – واعدةً بمثل هذا التَحَوُّل الراديكالي المُرَكَّب.
ولهذا – ولأبعد من هذا أيضاً – أعتقد أنَّ علينا ألّا نستهين بالخيار المدني أو نقوم بموضعته في مرتبة ثانية، برغم الصعوبات أو التحديات التي أقترح إختزالها، هنا، في عنصرين مُرَكَّبَين. أمَّا العنصر المُرَكَّبَ الأوّل فيضم "العراقيل الخارجية"، أي الإستراتيجيات والتكتيكات القمعية للنظام، بما في ذلك المجهودات ذات "التاريخ العريق" لشخصيات قيادية، كالصادق المهدي (وليس كل، والأرجح ليس جُلّ، قاعدة حزبه)، المتمثّلة في مساعي قطع الطريق أمام الغاية العليا للإنتفاضة الشعبية، أي تغيير السلطة على نحو جذري. وهدف المهدي، الذي بات واضحاً لكل ذي عينٍ واحدة، هو "إنقاذ" هذا النظام المأزوم، بما يضمن، بتوصيف المهدي نفسه، "تفكيك النظام". والمقصود، على نحو أكثر دقة، هو "تفكيك التنظيم السياسي" المُؤلِّف لهذا النظام، أي تحويله – في المستقبل القريب على أبعد تقدير – إلى تنظيم سياسي مؤثّر لكن ليس حاكماً (مثلما كان الحال في حقبة حُكْمٍ دَابِرةٍ التي كان المهدي رئيساً للوزراء خلالها) حيث يأمل – مرةً أخرى – عين رئيس الوزراء السابق في أنْ يصير هذا التنظيم المُحَوَّر حليفاً مستقبلياً له (عندما يصير رئيساً للوزراء، أو ما يماثل هذا، مرة أخرى) في مواجهة القوى الديموقراطية، المتنامية، الساعية نحو تغيير راديكالي ديموقراطي حديث.
وأمَّا العنصر المُرَكَّبَ الثاني فيحتوي على "عوامل الضعف الداخلي"، أي الأسباب التي تقعد بعمليتيْ الإنتفاضة الشعبية والعصيان المدني عن التَفَجُّر الذاتي، الأفقي والرأسي، بما يحقق الفَعَّالية القصوي لهاتين العمليتين. ولعل من أبرز عوامل الضعف الداخلي، كما أجمع على هذا أغلب المتابعين والمحلّلين، ما يتمثّل في الغياب النسبي لبعض الخبرات والمهارات التنظيمية، بما في ذلك بعض خبرات ومهارات القيادة والتنسيق، عن القوى الشَابَّة للإنتفاضة الشعبية. هنا أرغب في أنْ أدفع بملاحظةٍ وإقتراحٍ ذوي صلةٍ بأنَّ الكثيرين منَّا يربطون نجاح الإنتفاضة الشعبية في بلوغ مرامها الأعلى، أي إسقاط النظام، بتحقُّق العصيان المدني. هذا صائبٌ ونموذجيٌّ من الناحية النظرية والعملية أيضاً. كما هو مُبْتَغَىً عملياً كذلك. لكن، من جهة عملية أخرى، مُصَاحَبَةُ العصيانِ المدني – ذلك الذي يكون مُرَتَّباً أو مُنَظَّمَاً – للإنتفاضة الشعبية ليس هو الشرط الوحيد لنجاحها. الإنتفاضة الشعبية والعصيان المدني لم يبدآ، في أيَّمَا وقتٍ، عندنا على الأقل، في توقيتٍ واحد. ظلّت الإنتفاضة هي السبَّاقة دائماً. بهذا المغزى، فإنَّ العصيان المدني هو فِعْلٌ لاحِقٌ – لكن ليس بمعنى" فِعْلٌ ثانويٌّ" – لعملية الإنتفاضة الشعبية. إنَّه إستجابةٌ عضويٌّةٌ لتصاعدها. مُنْعَطَفٌ مَلْحَمِيٌّ لتَقَدُّمِهَا. غير أنَّ وقوعه يمكن أن تفرضه – في حالة تَعَذُّر تدبيره – الإنتفاضة في إحدى لحظات تأجُّجِهَا، كأنْ يصبح وصول المواطنين والموطنات، أو معظم قطاعاتهم على الأقل، إلى أماكن عملهم غير ممكنٍ عملياً، بسببٍ من إتساع خريطة الإنتفاضة. وبالفعل، لقد حال الإنتشار الجغرافي للإنتفاضة – خلال إنتفاضة سبتمبر الأخيرة داخل العاصمة – بين بعض المواطنين والمواطنات والوصول الى أماكن عملهم.
ثمّ ماذا لو إنخرط عاملو وموظفو، عاملات وموظفات الخدمة المدنية العامة، في الخرطوم، في فعل العصيان المدني، ثمّ قام النظام بإستدعاء وتوسيع نموذج-تجربة "الكتيبة الإستراتيجية"، أي صَيَّرَهَا "كتائب إستراتيجية"؟ أولم يكن الهدف الإستراتيجي لهذا النظام من وراء ما أطلقنا عليه نحن "الفصل التَعَسُّفِي" (من الخدمة المدنية والعسكرية) وأسماه النظام "الإحالة للمعاش" و "الفصل للصالح العام" هو إحلال "كتائبه الإستراتيجية" محل "غير كتائبه الإستراتيجية"؟ لو قام النظام بمزيد من الفصل – وهذا أمر غير مُسْتَبْعَد – فأنَّ هؤلاء المفصولين والمفصولات سيغدون – كما يمكن للمرء أن يأمل – رصيداً شعبياً للإنتفاضة. لذلك فأنَّ الحل يكمن، في تقديري، في إستمرار، تصاعد الإنتفاضة وإتساع مداها الجغرافي إلى أنْ يستحيل وصول المواطنين والمواطنات – أكانوا أعضاء كتائب النظام الإستراتيجية أم لم يكونوا – الى أماكن عملهم أمراً غير ممكن. قد يقول قائل، ليس كل منخرط ومنخرطة في الخدمة المدنية العامة عضو وعضوة في كتائب النظام الإستراتيجية. هذا صحيح طبعاً، خصوصاً بعد أنْ مضت سنوات عديدة في عمر هذا النظام وبات مسترخياً ومطمئناً الى أسباب إستقرار أو ولاء الخدمة العامة (المدنية والعسكرية) له، ومن ثم أخذ يعيِّن "مواطنين عاديين" (بمعنى سَوِيِّيْن طبعاً) في الخدمة المدنية العامة، دون الحاجة الى التثبّت من ولاء كل فرد منهم له، مما يجعل منهم – كما يمكن للمرء أن يأمل – إعتماداً لعمليةٍ شعبيةٍ مناهضةٍ كالعصيان المدني. هذه ليست نظرة سديدة فحسب، وإنَّمَا هي واقعية أيضاً. لكن هل يُشَكِّلُ هؤلاء أغلب القوام البشري للخدمة العامة، لاسِيَّمَا في العاصمة القومية، أم أنَّ نسبتهم قليلة بحيث يمكن الإستغناء عنهم، أي فصلهم عند الشعور بِ، أو لدى، تجربةٍ ذات خطر على أمنه وإستقراره؟ مهما كان عدد هولاء المفصوليين المحتملين والمفصولات المحتملات، فانهم سيصبحون – كما يمكن للمرء أنْ يأمل – رصيداً شعبياً لصالح الإنتفاضة. إذن فأنَّ الحل يكمن، مرةً أخرى، في إستمرار، تصاعد الإنتفاضة وإتساع بعدها الجغرافي.
لقد سبق أن قلت، في تعقيب على بوستٍ لصديقي محمد عبد الخالق، «لقد ظنّت السلطة الإستبدادية الحالية في السودان أن بوسعها إجتثاث ثقافة العصيان المدني بمجرد حلّ والغاء النقابات، الجمعيات والإتحادات ذات التكوين الديموقراطي المستقل، تصفية الخدمة المدنية، إعتقال وتشريد الرموز الفاعلة في العمل النقابي، الجمعياتي والإتحادي. غير أنَّها – السلطة الاستبدادية – لم تدرك – وأنَّى لها أن تدرك – أنَّ حَلَّ إتحادٍ أو نقابةٍ أو جمعيةٍ أو إلغائها كوعاء أو قناة لثقافة العصيان المدني لا يحل أو يلغي أو يستئصل ثقافة العصيان المدني». أجل، لن يحل أو يلغي أو يجتثّ ثقافة العصيان المدني. بيد أنَّه يضعفها كثيراً دون ريب. كما لا شكّ في أَّنَّ النقابات، الجمعيات والإتحادات هي الأوعية والقنوات البديهية، الأكثر فاعلية، والأسرع حسماً، فيما يتصل بالمُبْتَغَى الأسمى لمجمل العملية المدنية الثورية المتمثّل في إسقاط النظام (طبعاً لو لم يتم بَتْر هذه العملية بما يُسَمَّى "إنحياز القوات المسلحة إلى جانب الشعب"). ولكن ما العمل إذا كان الواقع الإتحادي، النقابي والجمعياتي العام الراهن، أو أغلبه على الأقل، تحت قبضة رموز الظلام؟ هل ننتظر بضعة عقود أخرى عسى أن تُبَدِّل القواعد العاملة في الخدمة المدنية العامة رموز الظلام برموز الصباح؟
لا قيمة تعادل قيمة الذَهَاب إلى الأمام، رغم العراقيل الخارجية والتحديات الداخلية. ففيما أقترح العمل على نشر ثقافة الإنتفاضة الشعبية والعصيان المدني – عبر وسائل أضعف الإيمان كالمنشور، الموبايل، الإيميل (رغم حصرية مستخدمي ومستخدمات الوسيلتين الأخيرتين في الداخل) في أوساط قواعد الخدمة العامة، أرى أنْ نعمل، مرةً أخرى أيضاً، بإتجاه تصعيد الإنتفاضة الشعبية بتوسيع خريطتها الجغرافية إلى أنْ يتزايد عدد المنحازين والمنحازات إليها من قطاعاتٍ وفئاتٍ وأفرادٍ من قواعد الخدمة العامة فيصبحون جزءً عضوياً منها بإتخاذهم موقف العصيان، أو، إلى أنْ يُشَلَّ من هم-هنَّ ضدها وضد الوجه الآخر للقمر: العصيان المدني.
لا قيمة تعادل قيمة الذهاب إلى الأمام. على أنَّ الذَهَاب إلى الأمام يحتاج إلى خصيصتين: وجدان عامر بالتراث النوعي وعينا زرقاء اليمامة. في التاريخ، تاريخنا، تلبد نماذج من ثقافة وأفعال الإنتفاضة الشعبية والعصيان المدني. لنْ أتحدث هنا عن إستنساخٍ. أقترحُ المعرفةَ والحُبَّ. هنا أرى أنَّ مما سيضيف وسامةً ونبضاً إلى ما حدث وما هو حادثٌ، في سياق عملية نُمُوِّ نُسْغ روح الفعل المدني الثوري، ما يتصل بالذاكرة المدنية الثورية لدينا، التي ستظلُّ – مثلها مثل شروط الحاضر ونداءات الأفق – من الضرورات لتعزيز هذا الخيار المدني الثوري، شحذه وتطويره…كما لأجل مسيرة ملامحه المُتَميِّزَة أيضاً.
وبما أنَّ تاريخنا حافل بأفعالٍ سامقةٍ، مضيئةٍ وذات طاقة مُدَجِّجَةٍ ومُلْهِمَةٍ، وبما أنَّ حجم المؤامرة المنهجية، الثقافية-السياسية-الآيديولوجية، المدعومة بقوَّةِ الدولة، على بعضها بالغ الكبر، أفقياً ورأسياً، فإنَّ السبيل شبه الوحيد (الآن على الأقل) للمساهمة في مقاومة هذه المؤامرة يقع على عاتق بعضنا، من الأجيال الأقدم، ممن عايشوا بعض تلك الملاحم التاريخية، كثورة 21 أكتوبر 1964 وإنتفاضة مارس-أبريل 1985، وذلك بالإضطلاع بأشكال مختلفة من المجهودات ذات الأبعاد التوثيقية، التواصلية والإبداعية التي من شأنها أنْ تساهم في مناولة تلك الإنجازات-الخبرات التاريخية للأجيال الجديدة. لو فعلنا هذا بعزيمةٍ، أفقيةٍ ورأسيةٍ، مُحِبَّةٍ ودَائِبَةٍ، سيأتي حينٌ يقول فيه لسان حال الأجيال الجديدة قولاً مماثلاً لقول المُؤَلِف-المُصَنِف المُعْجَمي اليوناني، أدمانتيوس كورايس، واصفاً – أمام حضورٍ نخبويٍّ فرنسيٍّ في باريس عام 1803 – المشاعر القومية المُمْتَنَّة لأجيالٍ من اليونانيين، من المنتمين لحِقَبٍ من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ممن كانوا يشعرون بالعرفان نحو عملياتٍ ومجهوداتٍ ذات أبعاد توثيقية، تواصلية وإبداعية، حيوية تاريخية مُرَكَّبَة، ساهمت مساهمةً فعليةً وفَعَالة في ربطهم بالتراث اليوناني لأجدادهم (الإغريق) الذي كان الإستعمار التركي-العثماني يسعى إلى فصلهم عنه:
«للمرة الأولى تستعرض الأُمَّةُ المشهد البشع للجهل وترتعش من قياس العين للمسافة التي تفصلها عن مجد أجدادها. هذا "الاكتشاف" المؤلم، مع ذلك، لا يُعَجِّلُ بدفع اليونانيين نحو اليأس: نحن أحفاد الإغريق، قالوها بوضوح لأنفسهم، يَتَعَيَّنُ علينا إمَّا أنْ نغدو جديرين بهذا الإسم مرةً أخرى أو أنْ لا نحمله».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.