(ترددت كثيرا قبل ان اهاتفك اليوم ) .. قالها بصوت مبحوح وانا اسمع حشرجته ونحنحته على الطرف الاخر من خط الهاتف،، قلت له (لاداعي للتردد ،، قل ماعندك ،،فأنا اسمعك ) قال (احتاج ان تأتيني .. اريد ان اتحدث معك ) ، كنت اعرف انه يريد الحديث في امر ما .. بل كنت انتظر ان يقول ذلك ،، فلم ازد عن القول ( سأتيك اليوم مساءا ان شاء الله )، وودعته ووضعت السماعه .. كان صديقي الاثير ،، لم اكن لأبدله بأحد مهما كان ،، وعلى قدر ما كنا نحب بعضنا ،، على قدر ما كانت تفترق اراءنا،، إلا ان علاقتنا ظلت كجزير ة نائيه وسط محيط صاخب لاتستطيع امواجه اعتلاءها ابدا،، كان ذكيا، شهما، جريئا..ذو مباديء لايسرج شيئا فوقها ابدا ، وكنت تحت كل هذا بخط كبير ،، الا انه كان اقل حظا مني في كل شيء ، تم توظيفنا سويا في مكان واحد وفي وقت واحد ،، في عام واحد صعد الى منصب مدير ادارة وكنت احد مرؤسيه،، في العام الذي يليه عزلوه ،، بعد اعوام قليله نقلوه ،، ثم فصلوه ،، واخيرا اعتقلوه . عام كامل غاب عن ناظري وراء القضبان ،، لم انقطع عن زيارته ،، ولم يكن يسمح لأهله بزيارته ،فيما كنت انا اراه بين ان واخر ،، فمبادئي كانت- ولازالت- مرنه بحيث يسرج عليها ماتستطيع احتماله مقابل العيش الكريم في هذا الزمن الاغبر، بعدما وضعت السماعه نظرت الى نفسي وانا الان ارأس زملائي في هذه المصلحه العامه هذه بعد خمس سنوات في مكان كان هو قد اعتلاه في سنة واحده فقط ، تلفت حولي وانا احاول البحث عن وجه صاف نقي باسط يوحي بالثقه كما وجهه فلم اجد الا جنادل مثلي يعملون بلا همه ، يتهربون من مسؤولياتهم ، يبتسمون في وجوه رؤساءهم ويلعنونهم من خلف ظهورهم ،يحبسون مصالح الناس في ادراجهم لأيام واسابيع يستدرجون اموال حللت حرمتها بسكوت (من هم مثلي) لينجزون معامله لاتحتاج لاكثر من دقائق معدوده،، تلفت وانا ارى تلك المتدربه الجديده بالقسم تراقبني بطرف خفي وهي تغنج الى مكتب المدير حامله ثلة من الاوراق،، ابتسمت عندما تذكرت الرقم الذي وضع امام اسمها في كشف الحوافز الشهر الفائت بعدما تطوعت بمراجعة بعض الاوراق خلف باب مغلق ذات مساء هاديء مع المدير العام والمبنى كان خاليا الا من مدير مكتبه وكاتم اسراره البغيض، تنهدت في ألم وانا اتذكر ماذا فعل (احمد) مع هذا المدير عندما اشتكت له احدى الزميلات من تصرفاته معها،، نزلت دموعي في صمت ،، وتساءلت ترى هل يغفر الله لي وانا ارى ما ارى واصمت كل هذا القدر! وسرعان ما تراجعت عن صحوة الضمير الزائفه هذه، اين احمد الان ،، ابوه توفى حزنا عليه بعدما اعتقلوه، أخوه هاجر الى كندا ، وانقطعت اخباره ،، هجرته خطيبته لتتزوج من أحد خصومه الذين طالما فضحهم واعترض مصالحهم،، امه تبيع الكسره في السوق واخته منعت من الجلوس لامتحانات السنه الثاله في كلية الطب بعدما اصرت على تصعيد قضية اخيها عبر منابر الاعلام ،ثم فصلت منها بعدما رفضت الزواج( بالمتراس) العتيد عضو المجلس الوطني صاحب الذراع الطويله. قابلته ذلك المساء،، بكيت بين يديه طويلا ، لم يكن احمد الذي عرفته ،، كان شاحبا منكسرا ذليلا ، حتى عندما خرج من وراء القضبان لم يكن كذلك ،، قال في صوت خفيض ( ناديتك لاشكرك على كل شيء ،، كنت خير خلف لي في اهلي عندما كنت مسجونا،، امي حكت لي كل شيء،، قلت له : تمنيت لو استطعت ان اعيد (منى ) الى كلية الطب، وحاولت ان اقنع الخاله بالجلوس في البيت وانا اتكفل ب …قاطعني قائلا: اعرف ماتستطيع فعله ياصاحبي ومالا تستطيعه ،واعرف كذلك انك قد ضحيت بالترقيه التاليه عندما رفضت الضغط على اختي للزواج بهذا (السفيه)،، تنهد طويلا عندما وصل الى هذه النقطه واستطرد ( حتى الجلادين ياصاحبي لهم قلوب ،، بعضهم كان يفعل مايفعل ولايجرؤ على النظر في عينيك ،، بعضهم كان يخجل مما يفعل ويداري على خجله بالامعان في الاساءه اليك حتى لاتكتشف ذلك ،، وبعضهم كان مرضه مزمنا بحيث ظن ان الاخبار السيئه تزداد سؤا عندما تنقل بصوت يقطر حقدا وتقال مع وقع اللطمات وهوي السياط ، ومادروا ان بعضها يذهب كل الألم في تلك اللحظات، عندما وصلني ذلك ازددت حبا لك ياصاحبي واشفقت عليك ،، فانا اعرفك اكثر مما تعرف نفسك ، انت تتراجع الى الوراء بسببي وانا ماض في وراءك لامد طويل،، لذلك قررت ان اهاجر ، انا وأمي وأختي.. لم يكن ماجرى من نقاش بيني وبينه بعد ذلك بذي قيمة ،، فالقرار كان ملكه وهو نهائيا كالعاده ، وتفاصيل وتوقيت الهجرة ماكنت اعرف عنها شيء وذلك لمصلحتي ومصلحة اسرتي ، كل ماكان مطلوبا مني ان اكذب بالقول انه مسافر (للبلد) في اجازة طويله بدون سقف زمني ، وفعلتها باحتراف .. كيف لا اكذب من اجل الشخص الوحيد الذي ابقى في داخلي ركنا خفيا مضيئا يذكرني بجبروت الضمير وسطوته،، كيف لا وانا اكذب كل يوم دون ان اتذكر ذلك حتى. سافر صديقي الى (البلد) وغاب فيها شهر كامل ثم انقطعت اخباره .. بعد عامين كاملين ، اتصل على من كندا ،، قال ، طلبت رقمك من ابن الوزير (…) واتاني به بعد عدة اتصالات ،، أمي وصلت كندا بخير لكنها توفت بعد سته أشهر فالرحله الى هنا كانت مليئه بالألم و المخاطر والإهانات ياصديقي، ولم يكن سهلا عليها تحمل كل ذلك، زد على ذلك وجع فراق الارض والاهل ، عزيته فيها (كانت خير ام لخير الرجال) قال ما اخبارك ،، قلت اعيش جيدا ،لدي وظيفه واحده واربعه رواتب وسبعه حوافز في الشهر وامتلك سيارتان، أبنائي يدرسون في مدارس خاصه وزوجتي متفرغه للعمل في اتحاد المراه والمنظمات التطوعيه مع زوجات المسؤولين الكبار و(عضوات) الحزب الحاكم ، جميع من حولنا الان يحاول ان يخطب ودنا ويتملقنا ، اساعد بعضهم بالتوسط لوظيفه واقدم اعانات ماليه لبعضهم من حين لاخر، صلواتي معظمها في الجامع ،ووقتي جله مشغول بالترتيب لمواعيد الوزير ورفع التقارير لامانة الحزب ، سكت برهه ، كان هو صامتا كأنه ليس موجودا على الطرف الاخر ، تابعت في مراره ( الحقيقه اني ابقي نفسي مشغولا حتى لا افكر كيف اعيش يومي العادي وانا انافق واتملق واغض الطرف لبعضهم ، واصرخ وأتهكم واستمتع باذلال البعض الاخر، ولولا انك من اعرف لما سمعت مني هذا، والان ماذا تفعل انت!)، قال بهدوء: اعرف ياصديقي ، ويكفي انك مازلت تصدقني القول دونا عن سواي ، واعرف كذلك كم ينكأ جراحك اتصالي هذا ، اما انا فأعمل الان سائق سيارة اجره في الشركة التي يعمل بها أخي وتعمل اختي ممرضه في مستشفى صغير بالمدينه ، ونكسب مايعيننا على العيش الكريم ونرسل مايفيض الى اهلنا في بلدكم الذي يموت فيه الناس بكل الطرق الان،، قلت لماذا تقول بلدكم، قال : ياصديقي قررنا نحن ثلاثتنا انتظار الجواز الكندي بجنسيه (بدون) فقد صادفنا ولادتنا الحقيقيه هنا في هذا البلد (الكافر) وما الفائدة من انتماءك لبلد نبذتك كالجيفة انت واسرتك ، ثم انك لاتستطيع ان تقدم لها شيئا وانت تملك جنسيتها غيرالصمت والنفاق واللامبالاة او الفرار والخواء والبكاء ، سكت هو فقلت انا: وانا هو الاول اليس كذلك،فأجاب : وانا هو الثاني اليس كذلك .. سكتنا سويا،، وودع بعضنا الاخر بدفء ،، لم نتحدث ولم نلتق منذ ذاك الحين..