عندَما جَعلنَا الحَضَرِي (في عَدّاد المَجغُومِين)    حكومة أبو نوبة.. ولادة قاتلة ومسمار آخر في نعش "تأسيس"    نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    السفير عدوي يشيد بدراسة إنشاء منطقة لوجستية على الحدود السودانية    الاهلي المصري نمر من ورق    الجمعية العمومية الانتخابية لنادي الرابطة كوستي    السجن والغرامة على متعاون مع القوات المتمردة بالأبيض    ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    "حكومة الأمل المدنية" رئيس الوزراء يحدد ملامح حكومة الأمل المدنية المرتقبة    الفوز بهدفين.. ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو    "الأمة القومي": كامل ادريس امتداد لانقلاب 25 أكتوبر    لما سقطت طهران... صرخت بورسودان وأبواقها    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    هل سمعت عن مباراة كرة قدم انتهت نتيجتها ب 149 هدفاً مقابل لا شيء؟    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    ماذا قالت الصحف العالمية عن تعادل الهلال مع ريال مدريد؟    تقرير رسمي حديث للسودان بشأن الحرب    يوفنتوس يفوز على العين بخماسية في كأس العالم للأندية    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    السودان والحرب    عملية اختطاف خطيرة في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    9 دول نووية بالعالم.. من يملك السلاح الأقوى؟    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته (14)
نشر في حريات يوم 10 - 11 - 2013


[email protected]
…………
دستور السُّودان القادم (الدائم).. لكن أي دستور نريد؟
ثمَّ نجيء إلى مسودة الدستور، التي مهرها رئيس المجلس الوطني حينئذٍ الدكتور حسن عبد الله الترابي في 28 أذار (مارس) 1998م بعد إجازتها في جلسته الخامسة من دورة الانعقاد الطارئة، فقد باتت الوثيقة دستوراً للسودان العام 1998م. فما الجديد الذي جاء به هذا الدستور؟ لقد جاء هذا الدستور – في بابه الأول (الدولة والمبادئ العامة) – بعبارات دينيَّة ولغة عقديَّة، مما أحالت الدستور في جزء كبير منه إلى وثيقة دعويَّة تعبويَّة، فضلاً عن أنَّ الدستور ذاته قد انفرد بصوغه حزب إسلاموي حاكم ومتحكِّم. إذ اهتمَّ صوَّاغ هذا الدستور – فيما اهتموا – بألفاظ مجرَّدة وتعابير روحيَّة ليس لها مكاناً في الصيغ القانونيَّة والعمليَّة، وإلا ماذا تعني تعابير مثل: "تأميناً للمشاركة الشعبيَّة والشُّورى والتعبئة"، و"الحاكميَّة في الدولة لله خالق البشر"، و"الجهاد في سبيله (الوطن) واجب"، و"المكافلة الاجتماعيَّة"، و"ما يؤهله لمؤلاة من حوله للكسب الاجتماعي الرَّشيد وللموالاة والمؤاخاة بحبل الله المتقين"، و"اجتهاد الرأي وإبداء النُّصح العام والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر"، وهلمجرَّاً. حتى دستور دولة الكويت، التي فيها يبلغ تعداد المسلمين 85% (70% من السنة 30% من الشيعة) و15% آخرين (مسيحيين، هندوز، وأهل الأديان الفارسيَّة)، فلم يتناطح المشرِّعون فيها بهذا الغلو. إذ تُقرأ المادة 6 من دستورهم بأنَّ "نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطة جميعاً." مهما يكن من شأن، فعلام تجبر الدولة في السُّودان المسيحيين أو أهل الذمة أن يجاهدوا، وهم ليسوا بمسلمين، أو أن يمتثلوا بشرائع الإسلام الذي فرض عليهم دفع الجزية عن يد وهم صاغرين؟ فالجهاد للمسلمين فقط، كما أنَّ هناك آراءاً فقهيَّة مختلفة في أشدَّ ما يكون الاختلاف حول مفهوم ومشروعيَّة الجِّهاد، ولا نود أن نخوض فيها هناك حتى لا يُحال المقال إلى جدال فقهي.
بيد أنَّ الأغرب والأدهي في الأمر هو ما ورد في المادة 18 من الدستور المذكور وتحت عنوان التديُّن، حيث تُقرأ: "يستصحب العاملون في الدولة والحياة العامة تسخيرها لعبادة الله، يلازم المسلمون فيها الكتاب والسنة، ويحفظ الجميع نيات التديُّن، ويراعون تلك الروح في الخطط والقوانين والسياسات والأعمال الرسميَّة، وذلك في المجالات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة لدفع الحياة العامة نحو أهدافها ولضبطها نحو العدل والاستقامة توجهاً نحو رضوان الله في الدار الآخرة." بحكم هذه المادة يمكن أن يتذرَّع العمَّال والزرَّاع في شهر رمضان، أو في أيَّة مناسبة دينيَّة أخرى، بأنَّهم نذروا الرَّحمن أن لا يعملوا في تلك الأيَّام إلا ابتغاء مرضات الله ورسوله، وإنَّهم انقطعوا للعبادة والاعتكاف، وليس على الإنس أو الجن أن يثنيهم عن ذلك. كيف لا وهم يعملون وفق ما جاء به الدستور الذي فصَّل التديُّن في العمل في أقسى ما يكون التفصيل!
هذا هو الدستور الذي أنجب ما أسماه المشرِّعون الإسلامويُّون "حريَّة التوالي والتنظيم" السياسي تنفيذاً لأحكام المادة 26 (2)، والتي تنص على أن "يكفل (الدستور) للمواطنين الحق لتنظيم التوالي السياسي، ولا يُقيَّد إلا بشرط الشورى والديمقراطيَّة في قيادة التنظيم واستعمال الدَّعوة لا القوة الماديَّة في المنافسة والالتزام بثوابت الدستور، كما ينظِّم ذلك القانون." والجدير بالذكر أنَّ "ثوابت الدستور هي محور الخلاف بين القوى السياسيَّة المعارضة الموقعة على مواثيق أسمرا (العام 1995م) والسلطة القائمة (وقتئذٍ)، وهي القضايا التي تدور حولها الحرب الأهليَّة."
وجاء في مصادر التشريع أنَّ "الشريعة الإسلاميَّة وإجماع الأمة استفتاءاً ودستوراً وعرفاً هي مصادر التشريع، ولا يجوز التشريع تجاوزاً لذلك الأصول، ولكنه يهتدي برأي الأمة العام وباجتهاد علمائها ومفكريها، ثمَّ بقرار ولاة أمرها." ولا شك في أنَّ لفظة "أمة" تعبِّر هنا عن أمة الإسلام (أو أمة محمد صلى الله عليه وسلَّم)، مما يعني أنَّ الإجماع المقصود في المادة إيَّاها هو إجماع المسلمين، وبالتالي ما يأتي به الدستور ينبغي هنا كذلك أن يكون إسلاميَّاً والأعراف المقصودة هنا كذلك هي الأعراف والتقاليد العربيَّة-الإسلاميَّة إذا جاز الكلام تعبيراً متصلاً. ولكن هل الشعب السُّوداني الكريم كله عربي ومسلم"؟ كلا!
بيد أنَّ البدعة المستحدثة، أو اللُعبة المستهجنة، التي جاء بها ذلكم الدستور هي "هيئة المظالم والحسبة العامة". فإنَّنا لا نرى سبباً واحداً لتشكيل هذه الهيئة أبداً في وجود ديوان المراجعة العامة والقضاء، بما فيه المحكمة الدستوريَّة، وديوان العدالة للعاملين المختص بالنَّظر والفصل في تظلُّمات العاملين، وبخاصة أنَّ الهيئة إيَّاها مهمتها فقط رفع التقارير والتوصيات لرئيس الجمهوريَّة أو المجلس الوطني أو أي جهاز عام. وبما أنَّه ليست للهيئة "أسنان قاطعة"، فلا نحسب أنَّها تستطيع "رفع الظلم، وتأمين الكفاءة والطُّهر في عمل الدولة والنُّظم، أو التصرُّفات النهائيَّة التنفيذيَّة أو الإداريَّة، أو بسط العدل من وراء القرارات النهائيَّة للأجهزة العدليَّة."
ففي خطابه لنائب رئيس المجلس الوطني ورئيس لجنة قانون التوالي السياسي – عبد العزيز عبد الله شدو – والسادة أعضاء اللجنة في يوم 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1998م رداً على دعوتهم له في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1998م "للمشاركة في الحوار حول التداول السلمي للسلطة السياسيَّة، الذي (اتَّخذوا) من مشروع قانون التوالي السياسي لسنة 1998م مدخلاً له،" قال الدكتور فاروق محمد إبراهيم إنَّه ليرحِّب بنمط الحوار "المرتبط بالبند الأول من المادة 26 في الدستور المتعلِّق بحق المواطنين في التوالي والتنظيم لأغراض ثقافيَّة أو اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة أو مهنيَّة أو نقابيَّة،" بل ويسعى إليه. غير أنَّه أكَّد أنَّ "أي حوار يهدف لوفاق حقيقي إذا لم ينتقل من الوفاق الدستوري إلى تفكيك جهاز الدولة الراهن، وإزالة هيمنة الطبقة الجديدة عليه، واستبداله بجهاز قومي في تركيبه وتوجهاته، فلم يكتب له النجاح، ولا يكون مجدياً." فكثيراً ما سمعنا بعبارات "الثوابت" في لغة أهل نظام "الإنقاذ" في السُّودان. ذلكم النِّظام السياسي الذي بلغ من الفساد أشدَّه، ومن الطغيان أعتاه. ومن هنا يبدر إلى الذهن التساؤل التالي: من ذا الذي يحدِّد هذه الثوابت؟ فاستقدام الأشراط كهذه يقفل باب أي حوار إيجابي مطلقاً. فما يُعتبر ثوابت عندهم هو المسبِّب الفعلي للمشكل الذي حوله يتشاجر السُّودانيُّون. إذ أنَّ هناك بعض المؤسسات الاجتماعيَّة التي قد تضع قيوداً على السلوك الإنساني، ولكن حتى في الأوضاع التي فيها تسود الضوابط الصارمة، نجد أنَّ هناك دوماً فرصاً للمبادرات والابتكارات الإنسانيَّة، والمناورات والاستفسارات، والموازنات المشتركة، التي تفضي إلى حلول مرضيَّة للأطراف المصطرعة في نهاية الأمر. على أيَّة حال، هذا هو دستور "الذين استغلوا هشاشة بنية الديمقراطيَّة الثالثة الخارجة من سني القهر "المايوي" الستة عشر، لينقضوا عليها في الوقت الذي فيه تحدَّد موعد المؤتمر (القومي) الدستوري، والحل السلمي لقضايا الحرب الأهليَّة المعقَّدة، واستأثروا بالسلطة السياسيَّة، وفرضوا أحاديتهم الأيديولوجيَّة والسياسيَّة على (الشَّعب السُّوداني) (…)، وما دعاوي الحاكميَّة الإلهيَّة إلا ذريعة وغطاءاً لمصالحهم." "وهم – مع ذلك – أشخاص عاديين تقمَّصتهم الذهنيَّة التي تدَّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ودفعتهم إلى نفي الآخر، واستباحة دمه وماله وعرضه، فتحوَّلوا إلى مجرمين."(93)
فأما فيما دون ذلك، فالدكتور إبراهيم – ذلكم الرَّجل الوقور – قد تحمَّل عذاب الحبس، وإنَّ في نفسه لحسرات، والأغرب في الأمر أنَّه كان من بين من أشرفوا على إساءته، وأسرفوا في إهانته، كانوا يُعدون في مصاف طلابه بالجامعة، والذين خاسوا بالعهد، وأولغوا باضطهاد العلم والعلماء، ولهجوا بهجومهم عليهم على ممر الزَّمان وتعاقب الأيَّام. فلم يقوموا للمعلِّم ويوفوه التبجيل، لأنَّه كاد أن يكون رسولاً، بل نكلوا به تنكيلاً. وكان إبراهيم لا يحفل بما يلقي من الأمر في سبيل ترخص حياة المرء، لأنَّه إن مات أغلاه الموت الذي يطمح أن ينال من قدر الناس، فالثوب الجديد أبعد من أن يُبتذل، وكان لسان حاله يردِّد ما جادت به قريحة ابن المعتز في شعره الحكمي:
رأيت حياةَ المرء تُرْخَصُ قدْرَهُ
وإن مات أغْلتْه المنايا الطَّوامحُ
فما يُخْلقُ الثَّوبَ الجديد ابتذالُهُ
كما تُخْلِقُ المرء العيون اللَّوَامِحُ
أما دستور السُّودان الانتقالي لسنة ؟199م (وعلامة الاستفهام هنا تدل على عدم معرفة تأريخ سقوط الحكومة وبدء العمل بهذا الدستور)، الذي أصدرته أمانة الشؤون الدستوريَّة والقانونيَّة في التجمع الوطني الديمقراطي، فقد هدف صُوَّاغه في أن "يتشايل" مواثيق التجمع، ويعالج دوافع الحرب الأهليَّة، ويرمِّم إفرازاتها الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والتنمويَّة، ويحقِّق العدالة بواسطة إنشاء محاكمات عادلة ضد الذين قوَّضوا المسيرة الديمقراطيَّة مهما كان من أمرها، وينصف الذين تضرَّروا من النظام الانقلابي. إذ جاء مشروع هذا الدستور محتوياً على 16 باباً: الدولة والسيادة، نظام الحكم، الأهداف والمبادئ الموجِّهة للدولة، الحقوق والحريَّات الأساسيَّة والواجبات، سيادة حكم القانون، التزامات الدولة في تنفيذ ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي ومقرراته، سلطة السيادة (مجلس السيادة)، المجلس الوطني، السلطة التشريعيَّة، تعريف أعمال الحكومة، السلطة القضائيَّة، ديوان النائب العام، الخدمة العامة ولجنة الخدمة العامة، ديوان المراجع العام، وأحكام متنوعة.
حاملون دواعي الحرب الأهليَّة وتداعياتها نصب أعينهم، أقرَّ المشرِّعون في المادة 14 من هذا الدستور على أن "تعمل الدولة على إزالة آثار التنمية غير المتوازنة بين الأقاليم (المقاطعات أو الولايات)، وتسعى للاهتمام بالرِّيف وتطويره اقتصاديَّاً واجتماعيَّاً وثقافيَّاً." بيد أنَّ أهم ما ورد في الدستور إيَّاه هو ما جاء في الباب الرابع وتحت عنوان "الحقوق والحريَّات الأسياسيَّة والواجبات"، حيث شملت حقوق الإنسان والأفراد والجماعات والكيانات، وتضمَّنت إعلان نيروبي في نيسان (أبريل) 1992م، ومواثيق أسمرا للقضايا المصيريَّة في حزيران (يونيو) 1995م.
أما مشروع دستور السُّودان الانتقالي للعام 2005م فقد كان الهدف الرئيس منه هو دفع البلاد "نحو تعزيز النمو الاقتصادي، وتوطيد التوافق الاجتماعي، وتعميق التسامح الدِّيني، وبناء الثقة بين أهل السُّودان جميعاً." لذلك نجد أنَّ هذا الدستور قد التزم باتفاقيَّة السلام الشامل الموقعة بين الحركة الشعبيَّة من جهة، وحكومة السُّودان من جهة أخرى في كانون الثاني (يناير) 2005م، واستهدى بدستور السُّودان للعام 1998م، والتجارب الدستوريَّة السابقة منذ الاستقلال العام 1956م، والتجارب الأخرى ذات الصلة. هكذا جاء هذا الدستور مدركاً للتنوُّع الدِّيني والعرقي والأثني والثقافي في السُّودان، والتزم بإقامة نظام لا مركزي وديمقراطي للحكم يتم فيه تداول السلطة سلميَّاً، بحيث يعلو العدل، ويحفظ كرامة الإنسان، ويصون المساواة بين الرِّجال والنِّساء في الحقوق والواجبات. تحقيقاً لهذه الأهداف، جاء هذا الدستور في 17 باباً: الدولة والدستور والمبادئ الموجِّهة، وثيقة الحقوق، السلطة التنفيذيَّة القوميَّة، الهيئة التشريعيَّة القوميَّة، أجهزة القضاء القومي، النِّيابة العامة والمحاماة، الخدمة المدنيَّة القوميَّة، المؤسسات والمفوَّضيَّات المستقلة، القوات المسلَّحة، أجهزة تنفيذ القانون والأمن الوطني، العاصمة القوميَّة، حكومة جنوب السُّودان، الولايات ومنطقة أبيي، المسائل الماليَّة والاقتصاديَّة، حالة الطوارئ وإعلان الحرب، الإحصاء والانتخابات، حق تقرير المصير لجنوب السُّودان، وأحكام متنوِّعة.
ونسبة لأهميتها القصوى، جاءت وثيقة الحقوق في الباب الثاني من الدستور. فقد اهتمَّت الوثيقة – فيما اهتمَّت – بالحياة والكرامة الإنسانيَّة، الحريَّة الشخصيَّة، الحرمة من الرِّق والسُّخرة، المساواة أمام القانون، حقوق المرأة والطفل، الحرمة من التعذيب، المحاكمة العادلة، الحق في التقاضي، تقييد عقوبة الإعدام، الخصوصيَّة، حريَّة العقيدة والعبادة، حريَّة التعبير والإعلام، حريَّة التجمع والتنظيم، حق الاقتراع، حريَّة التنقل والإقامة، حق التملك، الحق في التعليم، حقوق الأشخاص ذوي الحاجات الخاصة والمسنين، الرعاية الصحيَّة العامة، المجموعات العرقيَّة والثقافيَّة، وحرمة الحقوق والحريَّات. وكذلك خاطب الدستور المبادئ الهادية للتوزيع العادل للثروة العامة، وقضيَّة الأراضي، وحثَّ الدستور على تشكيل 12 مفوضيَّة متخصصة في عدَّة قضايا بما فيها القضايا الجوهريَّة التي كانت من أسباب اشتعال الحرب الأهليَّة العام 1983م.
تلكم هي الملامح العامة للدستور الذي احتكم إليه السُّودانيُّون عشيَّة توقيع اتفاقيَّة السلام الشامل في كانون الثاني (يناير) 2005م، وباتت أحكامه سائدة سائرة مهما يكن من الأمر حتى لحظة انفصال الجنوب في تموز (يوليو) 2011م، ومن ثمَّ أخذ السُّودانيُّون يلتفتون يمنة ويسرة بحثاً عن دستور جديد. ومن هنا بدأ كل إناء بما فيه يندح. فقد ظللنا نداوم عى اطِّلاع الحلقات المسلسلة التي يحبِّرها قلم الأستاذ محمد عثمان رزق في موقع صحيفة "سودانايل" الإلكترونيَّة كمساهمة منه في البديل الدستوري القادم. بيد أنَّ الذي جاء به الأستاذ رزق بعنوان "مقترح دستور السُّودان القادم" يمثِّل صورة كربونيَّة لدستور حكومة "الإنقاذ الوطني" للعام 1998م. وكان أكثر ما استرعى انتباهنا، وأثار دهشتنا الإسلامويَّة الصارخة في موادها، حتى ظننا أنَّ بعضاً منها قد نُقلت حرفيَّاً من ذلكم الدستور "الإنقاذي"، وقدَّمه لنا الأستاذ رزق في ثوب قديم جديد. أما الأستاذ ماجد القوني فيرى في صحيفة "الحوار المتمدِّن" الإلكترونيَّة أن يكون الدستور الجديد "مختلفاً عن التجارب الدستوريَّة السابقة، وأن تُراعي من خلاله مسألة الحريَّات والحقوق المدنيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وأن لا تصبح مواد الدستور جزراً معزولة عن الواقع السياسي."
للحديث بقيَّة،،،،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.