الوطن بين احداثيات عركي (بخاف) و(اضحكي)    الهلال السوداني يواصل استعداده لموقعة كيجالي في الدوري الرواندي    شاهد بالفيديو.. (ما تمشي.. يشيلوا المدرسين كلهم ويخلوك انت بس) طلاب بمدرسة إبتدائية بالسودان يرفضون مغادرة معلمهم بعد أن قامت الوزارة بنقله ويتمسكون به في مشهد مؤثر    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    "صومالاند حضرموت الساحلية" ليست صدفة!    الخرطوم وأنقرة .. من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    السودان يعرب عن قلقه البالغ إزاء التطورات والإجراءات الاحادية التي قام بها المجلس الإنتقالي الجنوبي في محافظتي المهرة وحضرموت في اليمن    مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته (14)
نشر في حريات يوم 10 - 11 - 2013


[email protected]
…………
دستور السُّودان القادم (الدائم).. لكن أي دستور نريد؟
ثمَّ نجيء إلى مسودة الدستور، التي مهرها رئيس المجلس الوطني حينئذٍ الدكتور حسن عبد الله الترابي في 28 أذار (مارس) 1998م بعد إجازتها في جلسته الخامسة من دورة الانعقاد الطارئة، فقد باتت الوثيقة دستوراً للسودان العام 1998م. فما الجديد الذي جاء به هذا الدستور؟ لقد جاء هذا الدستور – في بابه الأول (الدولة والمبادئ العامة) – بعبارات دينيَّة ولغة عقديَّة، مما أحالت الدستور في جزء كبير منه إلى وثيقة دعويَّة تعبويَّة، فضلاً عن أنَّ الدستور ذاته قد انفرد بصوغه حزب إسلاموي حاكم ومتحكِّم. إذ اهتمَّ صوَّاغ هذا الدستور – فيما اهتموا – بألفاظ مجرَّدة وتعابير روحيَّة ليس لها مكاناً في الصيغ القانونيَّة والعمليَّة، وإلا ماذا تعني تعابير مثل: "تأميناً للمشاركة الشعبيَّة والشُّورى والتعبئة"، و"الحاكميَّة في الدولة لله خالق البشر"، و"الجهاد في سبيله (الوطن) واجب"، و"المكافلة الاجتماعيَّة"، و"ما يؤهله لمؤلاة من حوله للكسب الاجتماعي الرَّشيد وللموالاة والمؤاخاة بحبل الله المتقين"، و"اجتهاد الرأي وإبداء النُّصح العام والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر"، وهلمجرَّاً. حتى دستور دولة الكويت، التي فيها يبلغ تعداد المسلمين 85% (70% من السنة 30% من الشيعة) و15% آخرين (مسيحيين، هندوز، وأهل الأديان الفارسيَّة)، فلم يتناطح المشرِّعون فيها بهذا الغلو. إذ تُقرأ المادة 6 من دستورهم بأنَّ "نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطة جميعاً." مهما يكن من شأن، فعلام تجبر الدولة في السُّودان المسيحيين أو أهل الذمة أن يجاهدوا، وهم ليسوا بمسلمين، أو أن يمتثلوا بشرائع الإسلام الذي فرض عليهم دفع الجزية عن يد وهم صاغرين؟ فالجهاد للمسلمين فقط، كما أنَّ هناك آراءاً فقهيَّة مختلفة في أشدَّ ما يكون الاختلاف حول مفهوم ومشروعيَّة الجِّهاد، ولا نود أن نخوض فيها هناك حتى لا يُحال المقال إلى جدال فقهي.
بيد أنَّ الأغرب والأدهي في الأمر هو ما ورد في المادة 18 من الدستور المذكور وتحت عنوان التديُّن، حيث تُقرأ: "يستصحب العاملون في الدولة والحياة العامة تسخيرها لعبادة الله، يلازم المسلمون فيها الكتاب والسنة، ويحفظ الجميع نيات التديُّن، ويراعون تلك الروح في الخطط والقوانين والسياسات والأعمال الرسميَّة، وذلك في المجالات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة لدفع الحياة العامة نحو أهدافها ولضبطها نحو العدل والاستقامة توجهاً نحو رضوان الله في الدار الآخرة." بحكم هذه المادة يمكن أن يتذرَّع العمَّال والزرَّاع في شهر رمضان، أو في أيَّة مناسبة دينيَّة أخرى، بأنَّهم نذروا الرَّحمن أن لا يعملوا في تلك الأيَّام إلا ابتغاء مرضات الله ورسوله، وإنَّهم انقطعوا للعبادة والاعتكاف، وليس على الإنس أو الجن أن يثنيهم عن ذلك. كيف لا وهم يعملون وفق ما جاء به الدستور الذي فصَّل التديُّن في العمل في أقسى ما يكون التفصيل!
هذا هو الدستور الذي أنجب ما أسماه المشرِّعون الإسلامويُّون "حريَّة التوالي والتنظيم" السياسي تنفيذاً لأحكام المادة 26 (2)، والتي تنص على أن "يكفل (الدستور) للمواطنين الحق لتنظيم التوالي السياسي، ولا يُقيَّد إلا بشرط الشورى والديمقراطيَّة في قيادة التنظيم واستعمال الدَّعوة لا القوة الماديَّة في المنافسة والالتزام بثوابت الدستور، كما ينظِّم ذلك القانون." والجدير بالذكر أنَّ "ثوابت الدستور هي محور الخلاف بين القوى السياسيَّة المعارضة الموقعة على مواثيق أسمرا (العام 1995م) والسلطة القائمة (وقتئذٍ)، وهي القضايا التي تدور حولها الحرب الأهليَّة."
وجاء في مصادر التشريع أنَّ "الشريعة الإسلاميَّة وإجماع الأمة استفتاءاً ودستوراً وعرفاً هي مصادر التشريع، ولا يجوز التشريع تجاوزاً لذلك الأصول، ولكنه يهتدي برأي الأمة العام وباجتهاد علمائها ومفكريها، ثمَّ بقرار ولاة أمرها." ولا شك في أنَّ لفظة "أمة" تعبِّر هنا عن أمة الإسلام (أو أمة محمد صلى الله عليه وسلَّم)، مما يعني أنَّ الإجماع المقصود في المادة إيَّاها هو إجماع المسلمين، وبالتالي ما يأتي به الدستور ينبغي هنا كذلك أن يكون إسلاميَّاً والأعراف المقصودة هنا كذلك هي الأعراف والتقاليد العربيَّة-الإسلاميَّة إذا جاز الكلام تعبيراً متصلاً. ولكن هل الشعب السُّوداني الكريم كله عربي ومسلم"؟ كلا!
بيد أنَّ البدعة المستحدثة، أو اللُعبة المستهجنة، التي جاء بها ذلكم الدستور هي "هيئة المظالم والحسبة العامة". فإنَّنا لا نرى سبباً واحداً لتشكيل هذه الهيئة أبداً في وجود ديوان المراجعة العامة والقضاء، بما فيه المحكمة الدستوريَّة، وديوان العدالة للعاملين المختص بالنَّظر والفصل في تظلُّمات العاملين، وبخاصة أنَّ الهيئة إيَّاها مهمتها فقط رفع التقارير والتوصيات لرئيس الجمهوريَّة أو المجلس الوطني أو أي جهاز عام. وبما أنَّه ليست للهيئة "أسنان قاطعة"، فلا نحسب أنَّها تستطيع "رفع الظلم، وتأمين الكفاءة والطُّهر في عمل الدولة والنُّظم، أو التصرُّفات النهائيَّة التنفيذيَّة أو الإداريَّة، أو بسط العدل من وراء القرارات النهائيَّة للأجهزة العدليَّة."
ففي خطابه لنائب رئيس المجلس الوطني ورئيس لجنة قانون التوالي السياسي – عبد العزيز عبد الله شدو – والسادة أعضاء اللجنة في يوم 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1998م رداً على دعوتهم له في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1998م "للمشاركة في الحوار حول التداول السلمي للسلطة السياسيَّة، الذي (اتَّخذوا) من مشروع قانون التوالي السياسي لسنة 1998م مدخلاً له،" قال الدكتور فاروق محمد إبراهيم إنَّه ليرحِّب بنمط الحوار "المرتبط بالبند الأول من المادة 26 في الدستور المتعلِّق بحق المواطنين في التوالي والتنظيم لأغراض ثقافيَّة أو اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة أو مهنيَّة أو نقابيَّة،" بل ويسعى إليه. غير أنَّه أكَّد أنَّ "أي حوار يهدف لوفاق حقيقي إذا لم ينتقل من الوفاق الدستوري إلى تفكيك جهاز الدولة الراهن، وإزالة هيمنة الطبقة الجديدة عليه، واستبداله بجهاز قومي في تركيبه وتوجهاته، فلم يكتب له النجاح، ولا يكون مجدياً." فكثيراً ما سمعنا بعبارات "الثوابت" في لغة أهل نظام "الإنقاذ" في السُّودان. ذلكم النِّظام السياسي الذي بلغ من الفساد أشدَّه، ومن الطغيان أعتاه. ومن هنا يبدر إلى الذهن التساؤل التالي: من ذا الذي يحدِّد هذه الثوابت؟ فاستقدام الأشراط كهذه يقفل باب أي حوار إيجابي مطلقاً. فما يُعتبر ثوابت عندهم هو المسبِّب الفعلي للمشكل الذي حوله يتشاجر السُّودانيُّون. إذ أنَّ هناك بعض المؤسسات الاجتماعيَّة التي قد تضع قيوداً على السلوك الإنساني، ولكن حتى في الأوضاع التي فيها تسود الضوابط الصارمة، نجد أنَّ هناك دوماً فرصاً للمبادرات والابتكارات الإنسانيَّة، والمناورات والاستفسارات، والموازنات المشتركة، التي تفضي إلى حلول مرضيَّة للأطراف المصطرعة في نهاية الأمر. على أيَّة حال، هذا هو دستور "الذين استغلوا هشاشة بنية الديمقراطيَّة الثالثة الخارجة من سني القهر "المايوي" الستة عشر، لينقضوا عليها في الوقت الذي فيه تحدَّد موعد المؤتمر (القومي) الدستوري، والحل السلمي لقضايا الحرب الأهليَّة المعقَّدة، واستأثروا بالسلطة السياسيَّة، وفرضوا أحاديتهم الأيديولوجيَّة والسياسيَّة على (الشَّعب السُّوداني) (…)، وما دعاوي الحاكميَّة الإلهيَّة إلا ذريعة وغطاءاً لمصالحهم." "وهم – مع ذلك – أشخاص عاديين تقمَّصتهم الذهنيَّة التي تدَّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ودفعتهم إلى نفي الآخر، واستباحة دمه وماله وعرضه، فتحوَّلوا إلى مجرمين."(93)
فأما فيما دون ذلك، فالدكتور إبراهيم – ذلكم الرَّجل الوقور – قد تحمَّل عذاب الحبس، وإنَّ في نفسه لحسرات، والأغرب في الأمر أنَّه كان من بين من أشرفوا على إساءته، وأسرفوا في إهانته، كانوا يُعدون في مصاف طلابه بالجامعة، والذين خاسوا بالعهد، وأولغوا باضطهاد العلم والعلماء، ولهجوا بهجومهم عليهم على ممر الزَّمان وتعاقب الأيَّام. فلم يقوموا للمعلِّم ويوفوه التبجيل، لأنَّه كاد أن يكون رسولاً، بل نكلوا به تنكيلاً. وكان إبراهيم لا يحفل بما يلقي من الأمر في سبيل ترخص حياة المرء، لأنَّه إن مات أغلاه الموت الذي يطمح أن ينال من قدر الناس، فالثوب الجديد أبعد من أن يُبتذل، وكان لسان حاله يردِّد ما جادت به قريحة ابن المعتز في شعره الحكمي:
رأيت حياةَ المرء تُرْخَصُ قدْرَهُ
وإن مات أغْلتْه المنايا الطَّوامحُ
فما يُخْلقُ الثَّوبَ الجديد ابتذالُهُ
كما تُخْلِقُ المرء العيون اللَّوَامِحُ
أما دستور السُّودان الانتقالي لسنة ؟199م (وعلامة الاستفهام هنا تدل على عدم معرفة تأريخ سقوط الحكومة وبدء العمل بهذا الدستور)، الذي أصدرته أمانة الشؤون الدستوريَّة والقانونيَّة في التجمع الوطني الديمقراطي، فقد هدف صُوَّاغه في أن "يتشايل" مواثيق التجمع، ويعالج دوافع الحرب الأهليَّة، ويرمِّم إفرازاتها الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والتنمويَّة، ويحقِّق العدالة بواسطة إنشاء محاكمات عادلة ضد الذين قوَّضوا المسيرة الديمقراطيَّة مهما كان من أمرها، وينصف الذين تضرَّروا من النظام الانقلابي. إذ جاء مشروع هذا الدستور محتوياً على 16 باباً: الدولة والسيادة، نظام الحكم، الأهداف والمبادئ الموجِّهة للدولة، الحقوق والحريَّات الأساسيَّة والواجبات، سيادة حكم القانون، التزامات الدولة في تنفيذ ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي ومقرراته، سلطة السيادة (مجلس السيادة)، المجلس الوطني، السلطة التشريعيَّة، تعريف أعمال الحكومة، السلطة القضائيَّة، ديوان النائب العام، الخدمة العامة ولجنة الخدمة العامة، ديوان المراجع العام، وأحكام متنوعة.
حاملون دواعي الحرب الأهليَّة وتداعياتها نصب أعينهم، أقرَّ المشرِّعون في المادة 14 من هذا الدستور على أن "تعمل الدولة على إزالة آثار التنمية غير المتوازنة بين الأقاليم (المقاطعات أو الولايات)، وتسعى للاهتمام بالرِّيف وتطويره اقتصاديَّاً واجتماعيَّاً وثقافيَّاً." بيد أنَّ أهم ما ورد في الدستور إيَّاه هو ما جاء في الباب الرابع وتحت عنوان "الحقوق والحريَّات الأسياسيَّة والواجبات"، حيث شملت حقوق الإنسان والأفراد والجماعات والكيانات، وتضمَّنت إعلان نيروبي في نيسان (أبريل) 1992م، ومواثيق أسمرا للقضايا المصيريَّة في حزيران (يونيو) 1995م.
أما مشروع دستور السُّودان الانتقالي للعام 2005م فقد كان الهدف الرئيس منه هو دفع البلاد "نحو تعزيز النمو الاقتصادي، وتوطيد التوافق الاجتماعي، وتعميق التسامح الدِّيني، وبناء الثقة بين أهل السُّودان جميعاً." لذلك نجد أنَّ هذا الدستور قد التزم باتفاقيَّة السلام الشامل الموقعة بين الحركة الشعبيَّة من جهة، وحكومة السُّودان من جهة أخرى في كانون الثاني (يناير) 2005م، واستهدى بدستور السُّودان للعام 1998م، والتجارب الدستوريَّة السابقة منذ الاستقلال العام 1956م، والتجارب الأخرى ذات الصلة. هكذا جاء هذا الدستور مدركاً للتنوُّع الدِّيني والعرقي والأثني والثقافي في السُّودان، والتزم بإقامة نظام لا مركزي وديمقراطي للحكم يتم فيه تداول السلطة سلميَّاً، بحيث يعلو العدل، ويحفظ كرامة الإنسان، ويصون المساواة بين الرِّجال والنِّساء في الحقوق والواجبات. تحقيقاً لهذه الأهداف، جاء هذا الدستور في 17 باباً: الدولة والدستور والمبادئ الموجِّهة، وثيقة الحقوق، السلطة التنفيذيَّة القوميَّة، الهيئة التشريعيَّة القوميَّة، أجهزة القضاء القومي، النِّيابة العامة والمحاماة، الخدمة المدنيَّة القوميَّة، المؤسسات والمفوَّضيَّات المستقلة، القوات المسلَّحة، أجهزة تنفيذ القانون والأمن الوطني، العاصمة القوميَّة، حكومة جنوب السُّودان، الولايات ومنطقة أبيي، المسائل الماليَّة والاقتصاديَّة، حالة الطوارئ وإعلان الحرب، الإحصاء والانتخابات، حق تقرير المصير لجنوب السُّودان، وأحكام متنوِّعة.
ونسبة لأهميتها القصوى، جاءت وثيقة الحقوق في الباب الثاني من الدستور. فقد اهتمَّت الوثيقة – فيما اهتمَّت – بالحياة والكرامة الإنسانيَّة، الحريَّة الشخصيَّة، الحرمة من الرِّق والسُّخرة، المساواة أمام القانون، حقوق المرأة والطفل، الحرمة من التعذيب، المحاكمة العادلة، الحق في التقاضي، تقييد عقوبة الإعدام، الخصوصيَّة، حريَّة العقيدة والعبادة، حريَّة التعبير والإعلام، حريَّة التجمع والتنظيم، حق الاقتراع، حريَّة التنقل والإقامة، حق التملك، الحق في التعليم، حقوق الأشخاص ذوي الحاجات الخاصة والمسنين، الرعاية الصحيَّة العامة، المجموعات العرقيَّة والثقافيَّة، وحرمة الحقوق والحريَّات. وكذلك خاطب الدستور المبادئ الهادية للتوزيع العادل للثروة العامة، وقضيَّة الأراضي، وحثَّ الدستور على تشكيل 12 مفوضيَّة متخصصة في عدَّة قضايا بما فيها القضايا الجوهريَّة التي كانت من أسباب اشتعال الحرب الأهليَّة العام 1983م.
تلكم هي الملامح العامة للدستور الذي احتكم إليه السُّودانيُّون عشيَّة توقيع اتفاقيَّة السلام الشامل في كانون الثاني (يناير) 2005م، وباتت أحكامه سائدة سائرة مهما يكن من الأمر حتى لحظة انفصال الجنوب في تموز (يوليو) 2011م، ومن ثمَّ أخذ السُّودانيُّون يلتفتون يمنة ويسرة بحثاً عن دستور جديد. ومن هنا بدأ كل إناء بما فيه يندح. فقد ظللنا نداوم عى اطِّلاع الحلقات المسلسلة التي يحبِّرها قلم الأستاذ محمد عثمان رزق في موقع صحيفة "سودانايل" الإلكترونيَّة كمساهمة منه في البديل الدستوري القادم. بيد أنَّ الذي جاء به الأستاذ رزق بعنوان "مقترح دستور السُّودان القادم" يمثِّل صورة كربونيَّة لدستور حكومة "الإنقاذ الوطني" للعام 1998م. وكان أكثر ما استرعى انتباهنا، وأثار دهشتنا الإسلامويَّة الصارخة في موادها، حتى ظننا أنَّ بعضاً منها قد نُقلت حرفيَّاً من ذلكم الدستور "الإنقاذي"، وقدَّمه لنا الأستاذ رزق في ثوب قديم جديد. أما الأستاذ ماجد القوني فيرى في صحيفة "الحوار المتمدِّن" الإلكترونيَّة أن يكون الدستور الجديد "مختلفاً عن التجارب الدستوريَّة السابقة، وأن تُراعي من خلاله مسألة الحريَّات والحقوق المدنيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وأن لا تصبح مواد الدستور جزراً معزولة عن الواقع السياسي."
للحديث بقيَّة،،،،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.