مجدي إبراهيم محجوب، قاض سابق. [email protected] في أوائل ثمانينات القرن الماضي شاء لي الحظُ أن أعمل كقاضٍ بمدينة الحصاحيصا ، والتي أحببتُ ، وأحببت أرضها ، ونهرها الأزرق المتمرد ، وزرعها الأخضر المحيطُ بها كما السوار حول المعصم وأهلها الميامين. وكان أول ما أسترعى الانتباه ، ومن خلال عملي ، الأساتذة الأجلاء المحامين وأساطين القانون ، وقد كنتُ أطلق عليهم مداعباً وصف " اللوردات الذين ضلوا طريقهم بدلاً من محكمة الأولد بيلي لمحكمة القاضي المقيم بالحصاحيصا " وقد تعلمت منهم شخصياً الكثير : الأستاذ أدم محمد أدم عليه رحمة الله ، والأستاذ بخيت عباس عجب أمد الله في أيامه ومتعه بالصحة والعافية ، والأستاذ أحمد سليمان أمد الله في أيامه ومتعه بالصحة والعافية ، وكان رابعهم هو الراحل المقيم الأستاذ مدني العرضي الحسين عليه رحمة الله ، فقد كان عالماً قائماً بذاته من العلم والتواضع ، وسعه الأفق ، وخفه الدم ، ورقه القلب ، وسمو الروح ، بجانب تخصصه ودفاعه المستميت مهنياً في قضايا ودعاوى وحقوق المزارعين. وجُلً اهتمامه المهني والاجتماعي والثقافي كان يدور حول مشروع الجزيرة والمناقل والمزارعين وحواشاتهم ونزاعاتهم حول الحيازات ، ومشاكلهم مع إدارة المشروع ، التقاوي ، والسماد و المبيدات وآثارهما الضارة على صحة المزارعين ومواشيهم ، والحاصدات والجرارات الزراعية الآلية وعيوب التصنيع الخفية التي أضاعت مال وجهد ووقت المزارعين ، ومزايا وعيوب ونواقص اتفاقيات قسمة الإنتاج والحساب المشترك أو الفردي مع إدارة المشروع . كنتُ دائماً ما ألجأ إليه ، عليه الرحمة ، وأنا القادم من مدينة شبه صناعية حتى النخاع ، وبحكم عشقه وتخصصه ، وذلك في كل ما استشكل على الفهم من مصطلحات وأعراف وتقاليد في كل ما يخصُ الحواشة : متى تصبح الحواشة مستريحة أو متى ُتمسي نائمة ؟ وكيف تشرب الحواشة بالناكوسي ؟ وما هو زمن الباجوري ؟ وما التقنتْ ؟ وما الضَرابة ؟ ومن هو أبو عشرين ؟ ومالفرق بينه وبين أبي ستة ؟ ومتى وكيف وبماذا تبدأ الدورات الزراعية المعروفة ؟ ولم يبخل بشيء من علمه ، بل على العكس تماماً ، يتهلل وجهه ، وتشعُ عيناه ذكاءً ومعرفةً. طوفانٌ من القضايا والدعاوى التي تبدأ وتنتهي بالمشروع، والقاسم المشترك بينها جميعاً: الأستاذ مدني العرضي المحامي. والهدف واحدٌ ، ولا يحيد عنه ، وهو الدفاع عن حقوق المزارع والحفاظ على المشروع. ولعله من المثقفين القلائل في هذه البلاد ممن يسبقُ عمله قوله ، وأن يفعل بما يؤمن به ، وجلً وقته وجهده ، وكل ماله ، في خدمة مزارعي مشروع الجزيرة والمناقل ، واتحاداتهم وتحالفاتهم ، وصراعاتهم الأبدية مع إدارة المشروع ، ومع السلطة السياسية القائمة . ومن نافلة القول أن نذكر هنا أنه وفي تلكُم الأيام كان مشروع الجزيرة والمناقل أكبر مزرعة في العالم يتم ريها بالري الانسيابي الطبيعي (ولم تك نظرية مشروع سندس الزراعي في الري عكس الانسيابي قد تم اكتشافها بعد والتي قلبت مفاهيم علم الطبوغرافيا رأساً على عقب) هذا بجانب الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية المرتبطة بالمشروع ، مضافاً إليها ، منظومة متكاملة من العمليات المساندة للإنتاج الزراعي الضخم والتي كانت في مجملها ُتشكل قيمةً مضافة كبرى للاقتصاد الكلي للدولة ، والتي كانت في حقيقة الأمر تعتاش من إيراداته العالية بالعملة الصعبة. وليس صحيحاً كما يُروج له في هذه الأيام من قبل جراد الإنقاذ بأن المشروع يمثل عبأُ على الدولة ، وذلك بغرض تدميره نهائياً ، وعلى ذات النسق ، وكما تم من قبل تدمير محالج الحصاحيصا و مصنع الصداقة للغزل والنسيج بالحصاحيصا وسكك حديد الجزيرة ومطاحن غلال قوز كبرو! فتأمل في القدرات الفذة لهؤلاء الناس في تحطيم التابوهات السبعة المستقرة في العقل الشعبي الجمعي السوداني : 1- مشروع الجزيرة. 2- الخدمة المدنية. 3- الجامعة الأم. 4- السلطة القضائية. 5- المؤسسة العسكرية. 6- سكك حديد السودان. 7- جنوب السودان ! ثمة موقف آخر لازلت أذكره حتى اللحظة ، وذلك ما أن اشتعلت انتفاضة مارس – أبريل المجيدة حتى كان الأستاذ مدني العرضي المحامي، عليه الرحمة والمغفرة ، أول من يتقدم الصفوف منبرياً لقيادة المظاهرات التي اشتعلت في المدينة ، وقد ظهر خطيباً مفوهاً وهو يدعو للإضراب السياسي والعصيان المدني ؛ فقد خرج المارد من القمقم كما أطلقت عليه أيامئذٍ. اللهمً أغفر للأستاذ مدني العرضي الحسين أحد النجوم السوامق التي رحلت بغتةً من سماواتنا مؤخراً ، وأرحمه وعافه و أكرم نزله وأعف عنه بقدر ما قدم لأهلنا المزارعين الطيبين على امتداد المشروع وبجميع أقسامه. وأتقدم بأحر التعازي لأسرته الكريمة ، الصغيرة والممتدة ، ولأهله ومعارفه ، ولزملائه الكرام ، وأخص تلامذته النجباء : الأستاذ محمد الطيب عبد النور المحامي (عاصم) ، والأستاذ د. قرشي كنون المحامي ، والأستاذ محمد الضو المحامي. إنًا لله و إنًا إليه راجعون.