شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    قرارات وزارة الإعلام هوشة وستزول..!    شاهد بالفيديو.. طفلة سودانية تخطف الأضواء خلال مخاطبتها جمع من الحضور في حفل تخرجها من إحدى رياض الأطفال    شاهد بالفيديو.. الفنانة إنصاف مدني تنصح الفتيات وتصرح أثناء إحيائها حفل بالخليج: (أسمعوها مني عرس الحب ما موفق وكضب كضب)    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    إصابة مهاجم المريخ أسد والنادي ينتظر النتائج    السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    إبراهيم عثمان يكتب: عن الفراق الحميم أو كيف تخون بتحضر!    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    تعرف على مواعيد مباريات اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    الأهلي مدني يدشن مشواره الافريقي بمواجهة النجم الساحلي    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    إبراهيم جابر يطمئن على موقف الإمداد الدوائى بالبلاد    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التحرش المصري بجنوب الوادي
نشر في حريات يوم 01 - 03 - 2014


[email protected]
قرأت البارحة بالصحف الإسفيرية خبر اللواء المصري المدعو / عبد الرافع درويش / الذي تحدث عبر قناة "التحرير" يوم 27 الجاري قائلاً: ( لدي وثائق من عهد السلطان العثماني عبد الحميد تثبت أن مصر تمتلك ثلث الأراضي الإثيوبية وثلث الأراضي اليوغندية. ونحن نقترح مشروعات تكاملية لزراعة الموز وغيره بدول حوض النيل، وإذا لم يوافقوا، سنذهب لهم ونحاربهم حتي الموت علي "أرضنا" ببلادهم،)… وغير ذلك من خطرفات مصري من أصل تركي…ساذج وجاهل ومغرور ومليء بالشوفينية الكاذبة والاستعلاء العنصري الذي كان سائداً بالدول الغربية في القرن التاسع عشر، مع الفارق الشاسع جداً بين تلك الدول…..ومصر… التي كانت مستعمرة بواسطة تلك الدول منذ فجر التاريخ…حتي ثورة محمد نجيب / عبد الناصر التي حررتها وأجلت الجيوش البريطانية عنها عام 1954. وهذا اللواء يذكرنا بما قاله الشاعر الأندلسي:
وما أزهدني في أرض أندلس أسماء منتصر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فهو مجرد سنّور … يتطاول علي دول ذات سيادة وتاريخ عريق وأصدقاء وحلفاء وحضور محسوس بالقارة الإفريقية، وهي صاحبة اليد العليا فيما يختص بمياه النيل، شاء اللواء أم أبى؛… ولقد رد القراء السودانيون الفطنون علي هذا الرجل وأفحموه ومسحوا به الأرض، وجعلونا نحس بأن وراءنا رجالاً أصحاب "يد فراسة وفم"؛ ولكن، بكل أسف، تراهم يؤذنون في مالطا، فاللواء المذكور لن يسمع بما كتب المعلقون في صحيفة الراكوبة أو في غيرها، إذ أنه لا يقرأ أصلاً، وإلا لما قال ما قال. ومن ناحية أخري، قد يحاجج البعض بأن اللواء يمثل العقلية العسكرية العدوانية الكلاسيكية المنقرضة، وليست له علاقة بالروح المتوثبة الجديدة التي تفجرت بالشارع المصري منذ ثورته التي أطاحت بنظام حسني مبارك ومن بعده محمد مرسي وحكومة الإخوان المسلمين، …تلك الروح التي تبشر بقيم التحضر والديمقراطية والشفافية والعدل والبعد عن الجور والعدوانية والتحرش بالجار الجنب والجار بالجنب،… والنزوع نحو التعاون مع أولئك الجيران وحل المعضلات معهم بالحوار وبالتي هي أحسن، علي نسق ما يتم في أوروبا بين أعداء الأمس الذين التأموا داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو… وتركوا الحروب وراءهم إلي الأبد، فيما يسمي ب(نهاية التاريخ)؛ …أما عقلية اللواء ضئيل المعرفة ومنخفض الذكاء، فهي من بقايا الجيوش التي قطعت آلاف الأميال في الستينات واستقرت بسوريا….ثم باليمن السعيد،… وظلت تفتك بالملايين من أهله لفرض وحدة مع مصر ليس لها مسوغ جيوسياسي أو تاريخي أو منطقي، ولا يرغب فيها الشعب اليمني….والجيوش المصرية التي اجتاحت ليبيا في يوليو 1977 وتوغلت بمسافة مائتي ميلاً بإقليمها الشرقي، بلا أي مبرر غير الطمع و"الهمبتة" والعدوانية الذئبية، حتي هبت الأسرة الدولية وزجرت السادات وجيشه الغازي، فانسحب وذيله بين فخذيه….والجيوش التي اجتاحت مثلث حلايب السوداني في يوليو 1992 لتعيد الكرّة لعدوانها علي هذه المنطقة عام 1958 الذي كان قد تكلل بالفشل والانسحاب لأن الحكومة السودانية آنئذ – حكومة عبد الله خليل – كانت عصية علي الانكسار، وجيشها كان مؤسسة يعرفها الضباط المصريون جيداً ويعملون لها ألف حساب؛ أما هذه المرة، فقد دخل الجيش المصري وطاب له المقام حتي اليوم، وحكومة الإخوان المسلمين بالخرطوم لم تحرك ساكناً، (سرّاق سرق سرّاق)، والجانب المصري رافض تماماً لأي لجوء للتحكيم الدولي لأنه يدرك أن الحق ليس في جانبه، وليس لديه منطق أو مبرر أو أداة يتكئ عليها غير "خفة اليد" و "قوة العين" و"الفهلوة"… وإمكانية الضغط والابتزاز ولي ذراع النظام السوداني الراهن بكافة الأساليب، مثل:
- تحريض الحليف الأمريكي والدول العربية النفطية علي السودان باعتباره دولة راعية وداعمة للإرهاب،… وهو فعلاً كذلك،…. ولكن عندما يتبني النظام المصري (السابق) نهجاً كهذا… فهو عبارة عن دعوة حق أريد بها باطل.
- الوقوف مع الدول التي ترغب في تحريك ملف الرئيس البشير أمام محكمة الجنايات الدولية، وهو سلاح كثيراً ما استخدمه نظام حسني مبارك عبر التسريبات القصدية للصحف، ثم تراه يضرب عنه صفحاً بعد أن يقضي حاجته لدي نظام الخرطوم، ذلك النظام الجاهز علي الدوام لتلقي… أو دفع الرشوة… وبيع وشراء الضمائر.
- المزايدة بالإدعاء والتهديد بدعم المعارضة السودانية، وكان النظام المصري ذا علاقة مع تلك المعارضة منذ بداية التسعينات، ولكنها كالعلاقة بين توم وجيري، إذ تجدهم يفسحون المجال للتجمع الوطني المعارض ولصحفه (كالاتحادي)، ولكن مع الكثير من التحفظات والسنسرة والخطوط الحمراء، حتي أصبحت المعارضة في حيرة من أمرها: هل الحكومة المصرية معها أم مع النظام الحاكم في الخرطوم؟ وتراهم في نهاية الأمر يسوقون التجمع الوطني الديمقراطي في يونيو 2005 لإبرام اتفاقية القاهرة مع النظام السوداني، ويغسلون يدهم من الشأن السوداني كلية، بينما وجدت المعارضة أنها قد تسلمت حبالاً بلا بقر (أو ضنب ككّو ممسّح بقطران).
بيد أني أزعم أن الجهل الذي عكسه اللواء المذكور ليس وقفاً عليه وحده، وأن الاتجاه العدواني العسكري ليس حكراً علي بقايا الجيش الامبراطوري المصري الذي كان يريد أن يتمدد ذات اليمين وذات اليسار…حتي أتته الطامة الكبري في يونيو 1967 علي يد الإسرائيليين الذين جعلوه كالعهن المنفوش – أو كعصف مأكول – في ستة أيام…ولولا مؤتمر اللاءات الثلاثة الذي عقد بالخرطوم في نفس ذلك العام…و لولا الجماهير السودانية التي خرجت بالملايين متضامنة مع عبد الناصر…وداعية الملك فيصل لنسيان الخلاف مع مصر الذي تجلي فوق الساحة اليمنية، وللوقوف إلي جانب عبد الناصر حتي يتم رد الاعتبار للأمة العربية التي مرغت الصهيونية المدعومة بالامبريالية الأمريكية أنفها علي رمال سيناء بذلك الصيف العاصف…ولولا ملايين الدولارات من الدعم السنوي لمصر ولدول المواجهة – الأردن وسوريا – التي استخلصها المؤتمر…لو لا كل ذلك، لذهب النظام المصري أدراج الرياح، ولكتبت الذلة والمسكنة علي مصر مجدداً…كما ظلت ماثلة عبر التاريخ…منذ الهكسوس والأشوريين والفرس والإغريق والرومان والعرب والفاطميين والأتراك العثمانيين…حتي الفرنسيين والانجليز…ثم اليهود.
وأزعم أن الدول التي تجد نفسها غارقة في لجة الفقر والتخلف الاقتصادي وما يجلبه من عدم استقرار وصراعات داخلية وململة وحراك قاعدي وثورة مطلبية لا تتوقف….تتجه نحو الشوفينية والانغلاق علي الذات والارتماء في أحضان الدكتاتورية….والبحث عن كبش فداء أو عدو مشترك متوهم تتوحد ضده ولو لبعض حين. هذا ما حدث لإيطاليا وألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين، سنوات الكساد الاقتصادي العالمي السابق للحرب العالمية الثانية…وكان من آثار ذلك الانهيار الاقتصادي أن تفجرت الثورات والانقلابات هنا وهناك بأوروبا، وفي هذا الخضم قفز الفاشيون للسلطة بإيطاليا بقيادة الدوتشي موسليني….والنازيون لدولة الرايخ الثالث بألمانيا بزعامة أدولف هتلر. وعلي الرغم من أن دعوة النازيين كانت عنصرية لأبعد الحدود، وضعتهم كجنس آري مكتمل الطهر العرقي في الجانب الآخر من بني البشر الباقين، إلا أنها لاقت هويً في نفس الشعب الألماني المتعلم والمتحضر الذي وقف عن بكرة أبيه مصطفاً خلف الفوهرر، هاتفاً: "هايل هتلر!"…ومنفذاً لبرنامج النازي الاستعماري التوسعي الذي بدأ بتشيكوسلوفاكيا، ثم النمسا، ومن بعدها هولندا وبلجيكا وفرنسا، الخ…ثم بولندا وروسيا…حتي وضعت الحرب أوزارها عام 1945.
وأزعم أن الدعوة العسكرية المصرية للتعامل العدواني مع دول حوض النيل بقوة السلاح، خاصة السلاح الجوي، ليست من بنات أفكار اللواء المذكور وحده…ولكنه اتجاه عام يتأسس شيئاً فشيئاً علي أرضية اليأس من الوضع الاقتصادي الذي ظل متردياً بمصر منذ حوالي عشر سنوات، والذي تفاقم بعد انتفاضة يناير 2011…حتي الآن…حيث أن الأمور لم تتبلور بعد نحو وضع ديمقراطي سليم مستقر بديل عن الدكتاتورية السابقة…بل أخذ كثير من العامة يحنون لتلك الدكتاتورية…ويمنون أنفسهم بدكتاتور عادل…واليمين المصري الذي يفكر في الانقضاض علي السلطة ….ما انفك يدغدغ مشاعر الجماهير بافتعال عدو أجنبي يتوحدون ضده…ويمكن لهذا العدو أن يكون السودان أو إثيوبيا….ولكنه بالقطع لن يكون إسرائيل.
لقد حضرت ندوة قدمها أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصري الأسبق بأبوظبي في نوفمبر الماضي…عن حرب أكتوبر 1973…ولكنني توقفت كثيراً لدي سؤال تقدم به أحد الحضور من أبناء الجالية المصرية:
" هل لدي الجيش المصري إمكانية لضرب سد النهضة الإثيوبي بالطائرات؟"
وكانت الإجابة:
"هذا الموضوع صعب، إلا إذا وافق السودان علي التعاون معنا، فليس لدينا طائرات تستطيع أن تقطع هذه المسافة التي تبلغ أكثر من ألفي ميل."…أي أنه من حيث المبدأ لا يعترض علي مثل هذا العدوان.
ولم تكن الإجابة، كما توقعت من رجل عاقل ومعقول كهذا، شيئاً مثل الآتي:
( هذا ليس زمان العدوان علي الجيران…وإذا كانت إسرائيل تفعل ذلك…كما فعلت مع السودان عدة مرات…فنحن نسعي لتوحيد القارة وليس لتفتيتها وتفجير الصراعات في وسطها…ونحن نسعي لدرء ما بها من فتن وحروب… وليس لتعميق جراحاتها وجرها لعدائيات لا يعلم إلا الله مآلاتها.)
وبدا لي أن هنالك وحدة فكرية لدي النخبة المصرية الحاكمة مفادها الآتي:
ماء "مية" النيل خط أحمر، ونحن نتمسك بالإتفاقيات التي تمت إبان العهود الاستعمارية، ولن نتنازل عنها قيد أنملة، حتي لويقود ذلك للمواجهة العسكرية مع الدول الواقعة علي شواطئ هذا النهر.
بيد أن هذا الموقف يغفل الحقائق الموضوعية التالية:
هنالك أكثر من أحد عشر دولة تطل علي نهر النيل وروافده، وكلها الآن تيقظت لحقها في ماء النيل الذي تكفله المواثيق الدولية، ولديها حاجة ماسة لري المشاريع الزراعية بالري الانسيابي من لدن السدود التي بنيت وستبني علي النهر، ولقد شرعت يوغندا مثلاً في بناء أربعة سدود من هذا القبيل، دع عنك سد النهضة الإثيوبي.
كل هذه الدول، باستثناء السودان ومصر، وقعت وأقرت إتفاقية للتعاون المائي والاستثماري بغرض الاستفادة المتكافئة والعادلة والرشيدة من مياه النيل، وتطوير هذا المورد وإثرائه، وفي نفس الوقت تطوير الموارد المائية البديلة الأخري.
هذه الدول بينها من الأحلام والآفاق المشتركة ما يجعلها تتقارب أكثر وأكثر، وهنالك الآن خطوات وحدوية تم اتخاذها بالفعل، مثل التأشيرة السياحية المشتركة، وثمة حديث نشط عن سوق شرق إفريقية، وربما نوع من الوحدة الإقليمية علي غرار مجلس التعاون الخليجي.
إن اعتداء مصر علي أي من هذه الدول يعتبر اعتداءاً عليها جميعها، إذ أنها لن تنتظر أن تؤكل كما أكل الثور الأبيض، وستجد مصر المحروسة أنها في مواجهة ربع القارة الإفريقية تقريباً.
ولقد كان ملفتاً للنظر بعض الشيء أن أول زيارة للمشير السيسي خارج مصر كانت لروسيا، مذكراً برحلات الراحل عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر، لا لطلب قمح أو مساعدات لوجستية أو تكنولوجية خاصة بانتشال الاقتصاد المصري من الوهدة التي يمر بها….إنما لشراء سلاح من روسيا. وضد من ياتري تريد مصر أن تستخدم ذلك السلاح؟ ضد إسرائل؟ لو كان الأمر كذلك لسمعت به السي آي إي قبل أن يتحرك السيسي من مطار القاهرة صوب موسكو، ولتم إجهاض الزيارة قبل أن تبدأ. ضد الإرهابيين والإخوان المسلمين؟ تلك حمي خفيفة، والشعب المصري كفيل بعلاجها…و لا تحتاج لزيارة بهذا الزخم والضوضاء الإعلامية… لجلب الأسلحة الثقيلة خاصة الطائرات العسكرية.
ربما يبحث الجيش المصري عن طائرات تستطيع أن تقطع مسافة الألفي ميل من أسوان لسد النهضة….أو علي الأقل لطائرات إمداد وقود في الجو، كما فعلت الطائرات الإسرائيلية التي ضربت مصنع اليرموك الإيراني بالخرطوم. ولربما يريد الرئيس القادم لمصر أن يبدو حريصاً علي أمن مصر وعلي "الخطوط الحمراء"…أي، مية النيل…وأن يبدو كجمال عبد الناصر، متحدياً لهذا وذاك من أعداء الأمة…وهذا ما نرحب به، إذا لم نكن نحن أنفسنا الأعداء المتوهمين لهذه الأمة….ففي كلام اللواء أعلاه إشارات خفية للسودان باعتباره ايضاً ضمن الممتلكات المزعومة التي ينوي أجناد آخر الزمن استرجاعها.
وأيا كان المبرر لهذه الصفقة بالغة الكلفة التي عقدها المشير السيسي بموسكو، فإن طريق الحرب طريق مسدود.
وإذا شاء الرئيس المصري القادم أن يسلك طريق العدائيات والتحرش بالجيران، فليعلم أن الغرب لا يمانع في ذلك، بل ربما يشجعه كما فعل مع صدام حسين قبيل غزوه للكويت في أغسطس 1990 ،… وما أن يتورط في حرب من هذا النوع… حتي ينقلب عليه الغرب ومعه ما يسمي ب"الأسرة الدولية"، ويجبروه علي الانسحاب مذموماً مدحورا….ومكسوفاً أمام العالم كله…ومتراجعاً نحو دولة من الدرجة العاشرة.
إن الطريق الأفضل هو طريق التعاون الإقليمي، بدءاً باتفاقية تطوير الموارد المائية التي وقعت عليها كل الدول ما عدا مصر والسودان….وتشير الدلائل إلي أن السودان علي وشك أن يغير موقفه ويلحق بتلك الدول الموقعة… لا لأنه حريص علي المصالح السودانية، ولكن لأنه أحس بعزلة خانقة بعد زوال دولة الإخوان المسلمين عن مصر… ، وربما كذلك لأنه اكتشف أن السودان هو المستفيد الأول من مشروع سد النهضة…ربما أكثر من إثيوبيا نفسها…فلقد عرضت عليه كهرباء من هذا السد بأقل من تكلفة الكهرباء المولدة بالسودان ومصر…وإذا صدقت نوايا الحكومة السودانية، تستطيع أن تمد قناةً من هذا السد الذي يبعد عن الحدود السودانية بعشرين ميلاً فقط…وتستطيع أن تروي السهول التي يعيش فوقها أعراب كنانة ورفاعة والعقليين…بدواً متنقلين منذ مئات السنين….كأنما الله عز وجل قد أتاهم بالماء من حيث لا يحتسبون… لزوم الاستقرار… كما فعل أعراب الجزيرة بعد قيام مشروع الجزيرة عام 1925. ولكن مثل هذا التفكير التنموي يحتاج لنظام وطني ديمقراطي جديد، ولس نظام الإخوان المسلمين الفاسد الراهن الذي ظل يفتك بشعوب السودان وظل يستحلب وينهب موارد البلاد بلا رأفة أو تريث وبدون أي اعتبار لمستقبلها أو للأجيال القادمة…ولم يفكر يوماً في استقرار الأعراب المتنقلين أو في تنفيذ مشروع تكاملي كهذا مع جارة شقيقة كإثيوبيا…لأنه مهموم بشيء واحد فقط: الاستمرار في السلطة.
وكل ما يقوله أدعياء المعرفة عن سلبيات سد النهضة هراء في هراء…وعن عمد لا يسألون الاختصاصيين المهنيين المحايدين، كأنهم يريدون لطبول الحرب أن تستمر في إرزامها، لأنها، كما فعلت مع الفاشيين والنازيين، تستقطب الدهماء وتشغلهم عن المطالبة بتحسين أوضاعهم الاقتصادية، ولو ماتوا في الحرب فذلك خير…لأنه سيحد من النمو السكاني المتفاقم…إذ أن الحرب، شِأنها شأن الأوبئة والكوارث الطبيعية، كما قال مالتوس، تضع حداً لذلك التكاثر السكاني غير المنضبط …وتخلق التوازن الصحيح مع الموارد الطبيعية المتناقصة علي الدوام geometrically.
إن سد النهضة لن يسبب أذي للإقتصاد المصري… ولن يؤثر علي الكوتة المصرية من مياه النيل. ولكن هذه المعلومة البسيطة تضيع وسط أرجل الصعاليك الذين يرقصون رقصة الحرب ويحرضون النخبة الحاكمة علي ارتكاب حماقات في حق الجيران ستكون عواقبها وخيمة للغاية.
والسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.