حكومة أبو نوبة.. ولادة قاتلة ومسمار آخر في نعش "تأسيس"    نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    السفير عدوي يشيد بدراسة إنشاء منطقة لوجستية على الحدود السودانية    الاهلي المصري نمر من ورق    الجمعية العمومية الانتخابية لنادي الرابطة كوستي    السجن والغرامة على متعاون مع القوات المتمردة بالأبيض    ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    "حكومة الأمل المدنية" رئيس الوزراء يحدد ملامح حكومة الأمل المدنية المرتقبة    الفوز بهدفين.. ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو    الهلال السعودي يتعادل مع ريال مدريد في كأس العالم للأندية    "الأمة القومي": كامل ادريس امتداد لانقلاب 25 أكتوبر    لما سقطت طهران... صرخت بورسودان وأبواقها    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    الحكم بسجن مرتكبي جريمة شنق فينيسيوس    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    هل سمعت عن مباراة كرة قدم انتهت نتيجتها ب 149 هدفاً مقابل لا شيء؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    تقرير رسمي حديث للسودان بشأن الحرب    يوفنتوس يفوز على العين بخماسية في كأس العالم للأندية    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    السودان والحرب    عملية اختطاف خطيرة في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    9 دول نووية بالعالم.. من يملك السلاح الأقوى؟    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التحرش المصري بجنوب الوادي
نشر في حريات يوم 01 - 03 - 2014


[email protected]
قرأت البارحة بالصحف الإسفيرية خبر اللواء المصري المدعو / عبد الرافع درويش / الذي تحدث عبر قناة "التحرير" يوم 27 الجاري قائلاً: ( لدي وثائق من عهد السلطان العثماني عبد الحميد تثبت أن مصر تمتلك ثلث الأراضي الإثيوبية وثلث الأراضي اليوغندية. ونحن نقترح مشروعات تكاملية لزراعة الموز وغيره بدول حوض النيل، وإذا لم يوافقوا، سنذهب لهم ونحاربهم حتي الموت علي "أرضنا" ببلادهم،)… وغير ذلك من خطرفات مصري من أصل تركي…ساذج وجاهل ومغرور ومليء بالشوفينية الكاذبة والاستعلاء العنصري الذي كان سائداً بالدول الغربية في القرن التاسع عشر، مع الفارق الشاسع جداً بين تلك الدول…..ومصر… التي كانت مستعمرة بواسطة تلك الدول منذ فجر التاريخ…حتي ثورة محمد نجيب / عبد الناصر التي حررتها وأجلت الجيوش البريطانية عنها عام 1954. وهذا اللواء يذكرنا بما قاله الشاعر الأندلسي:
وما أزهدني في أرض أندلس أسماء منتصر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فهو مجرد سنّور … يتطاول علي دول ذات سيادة وتاريخ عريق وأصدقاء وحلفاء وحضور محسوس بالقارة الإفريقية، وهي صاحبة اليد العليا فيما يختص بمياه النيل، شاء اللواء أم أبى؛… ولقد رد القراء السودانيون الفطنون علي هذا الرجل وأفحموه ومسحوا به الأرض، وجعلونا نحس بأن وراءنا رجالاً أصحاب "يد فراسة وفم"؛ ولكن، بكل أسف، تراهم يؤذنون في مالطا، فاللواء المذكور لن يسمع بما كتب المعلقون في صحيفة الراكوبة أو في غيرها، إذ أنه لا يقرأ أصلاً، وإلا لما قال ما قال. ومن ناحية أخري، قد يحاجج البعض بأن اللواء يمثل العقلية العسكرية العدوانية الكلاسيكية المنقرضة، وليست له علاقة بالروح المتوثبة الجديدة التي تفجرت بالشارع المصري منذ ثورته التي أطاحت بنظام حسني مبارك ومن بعده محمد مرسي وحكومة الإخوان المسلمين، …تلك الروح التي تبشر بقيم التحضر والديمقراطية والشفافية والعدل والبعد عن الجور والعدوانية والتحرش بالجار الجنب والجار بالجنب،… والنزوع نحو التعاون مع أولئك الجيران وحل المعضلات معهم بالحوار وبالتي هي أحسن، علي نسق ما يتم في أوروبا بين أعداء الأمس الذين التأموا داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو… وتركوا الحروب وراءهم إلي الأبد، فيما يسمي ب(نهاية التاريخ)؛ …أما عقلية اللواء ضئيل المعرفة ومنخفض الذكاء، فهي من بقايا الجيوش التي قطعت آلاف الأميال في الستينات واستقرت بسوريا….ثم باليمن السعيد،… وظلت تفتك بالملايين من أهله لفرض وحدة مع مصر ليس لها مسوغ جيوسياسي أو تاريخي أو منطقي، ولا يرغب فيها الشعب اليمني….والجيوش المصرية التي اجتاحت ليبيا في يوليو 1977 وتوغلت بمسافة مائتي ميلاً بإقليمها الشرقي، بلا أي مبرر غير الطمع و"الهمبتة" والعدوانية الذئبية، حتي هبت الأسرة الدولية وزجرت السادات وجيشه الغازي، فانسحب وذيله بين فخذيه….والجيوش التي اجتاحت مثلث حلايب السوداني في يوليو 1992 لتعيد الكرّة لعدوانها علي هذه المنطقة عام 1958 الذي كان قد تكلل بالفشل والانسحاب لأن الحكومة السودانية آنئذ – حكومة عبد الله خليل – كانت عصية علي الانكسار، وجيشها كان مؤسسة يعرفها الضباط المصريون جيداً ويعملون لها ألف حساب؛ أما هذه المرة، فقد دخل الجيش المصري وطاب له المقام حتي اليوم، وحكومة الإخوان المسلمين بالخرطوم لم تحرك ساكناً، (سرّاق سرق سرّاق)، والجانب المصري رافض تماماً لأي لجوء للتحكيم الدولي لأنه يدرك أن الحق ليس في جانبه، وليس لديه منطق أو مبرر أو أداة يتكئ عليها غير "خفة اليد" و "قوة العين" و"الفهلوة"… وإمكانية الضغط والابتزاز ولي ذراع النظام السوداني الراهن بكافة الأساليب، مثل:
- تحريض الحليف الأمريكي والدول العربية النفطية علي السودان باعتباره دولة راعية وداعمة للإرهاب،… وهو فعلاً كذلك،…. ولكن عندما يتبني النظام المصري (السابق) نهجاً كهذا… فهو عبارة عن دعوة حق أريد بها باطل.
- الوقوف مع الدول التي ترغب في تحريك ملف الرئيس البشير أمام محكمة الجنايات الدولية، وهو سلاح كثيراً ما استخدمه نظام حسني مبارك عبر التسريبات القصدية للصحف، ثم تراه يضرب عنه صفحاً بعد أن يقضي حاجته لدي نظام الخرطوم، ذلك النظام الجاهز علي الدوام لتلقي… أو دفع الرشوة… وبيع وشراء الضمائر.
- المزايدة بالإدعاء والتهديد بدعم المعارضة السودانية، وكان النظام المصري ذا علاقة مع تلك المعارضة منذ بداية التسعينات، ولكنها كالعلاقة بين توم وجيري، إذ تجدهم يفسحون المجال للتجمع الوطني المعارض ولصحفه (كالاتحادي)، ولكن مع الكثير من التحفظات والسنسرة والخطوط الحمراء، حتي أصبحت المعارضة في حيرة من أمرها: هل الحكومة المصرية معها أم مع النظام الحاكم في الخرطوم؟ وتراهم في نهاية الأمر يسوقون التجمع الوطني الديمقراطي في يونيو 2005 لإبرام اتفاقية القاهرة مع النظام السوداني، ويغسلون يدهم من الشأن السوداني كلية، بينما وجدت المعارضة أنها قد تسلمت حبالاً بلا بقر (أو ضنب ككّو ممسّح بقطران).
بيد أني أزعم أن الجهل الذي عكسه اللواء المذكور ليس وقفاً عليه وحده، وأن الاتجاه العدواني العسكري ليس حكراً علي بقايا الجيش الامبراطوري المصري الذي كان يريد أن يتمدد ذات اليمين وذات اليسار…حتي أتته الطامة الكبري في يونيو 1967 علي يد الإسرائيليين الذين جعلوه كالعهن المنفوش – أو كعصف مأكول – في ستة أيام…ولولا مؤتمر اللاءات الثلاثة الذي عقد بالخرطوم في نفس ذلك العام…و لولا الجماهير السودانية التي خرجت بالملايين متضامنة مع عبد الناصر…وداعية الملك فيصل لنسيان الخلاف مع مصر الذي تجلي فوق الساحة اليمنية، وللوقوف إلي جانب عبد الناصر حتي يتم رد الاعتبار للأمة العربية التي مرغت الصهيونية المدعومة بالامبريالية الأمريكية أنفها علي رمال سيناء بذلك الصيف العاصف…ولولا ملايين الدولارات من الدعم السنوي لمصر ولدول المواجهة – الأردن وسوريا – التي استخلصها المؤتمر…لو لا كل ذلك، لذهب النظام المصري أدراج الرياح، ولكتبت الذلة والمسكنة علي مصر مجدداً…كما ظلت ماثلة عبر التاريخ…منذ الهكسوس والأشوريين والفرس والإغريق والرومان والعرب والفاطميين والأتراك العثمانيين…حتي الفرنسيين والانجليز…ثم اليهود.
وأزعم أن الدول التي تجد نفسها غارقة في لجة الفقر والتخلف الاقتصادي وما يجلبه من عدم استقرار وصراعات داخلية وململة وحراك قاعدي وثورة مطلبية لا تتوقف….تتجه نحو الشوفينية والانغلاق علي الذات والارتماء في أحضان الدكتاتورية….والبحث عن كبش فداء أو عدو مشترك متوهم تتوحد ضده ولو لبعض حين. هذا ما حدث لإيطاليا وألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين، سنوات الكساد الاقتصادي العالمي السابق للحرب العالمية الثانية…وكان من آثار ذلك الانهيار الاقتصادي أن تفجرت الثورات والانقلابات هنا وهناك بأوروبا، وفي هذا الخضم قفز الفاشيون للسلطة بإيطاليا بقيادة الدوتشي موسليني….والنازيون لدولة الرايخ الثالث بألمانيا بزعامة أدولف هتلر. وعلي الرغم من أن دعوة النازيين كانت عنصرية لأبعد الحدود، وضعتهم كجنس آري مكتمل الطهر العرقي في الجانب الآخر من بني البشر الباقين، إلا أنها لاقت هويً في نفس الشعب الألماني المتعلم والمتحضر الذي وقف عن بكرة أبيه مصطفاً خلف الفوهرر، هاتفاً: "هايل هتلر!"…ومنفذاً لبرنامج النازي الاستعماري التوسعي الذي بدأ بتشيكوسلوفاكيا، ثم النمسا، ومن بعدها هولندا وبلجيكا وفرنسا، الخ…ثم بولندا وروسيا…حتي وضعت الحرب أوزارها عام 1945.
وأزعم أن الدعوة العسكرية المصرية للتعامل العدواني مع دول حوض النيل بقوة السلاح، خاصة السلاح الجوي، ليست من بنات أفكار اللواء المذكور وحده…ولكنه اتجاه عام يتأسس شيئاً فشيئاً علي أرضية اليأس من الوضع الاقتصادي الذي ظل متردياً بمصر منذ حوالي عشر سنوات، والذي تفاقم بعد انتفاضة يناير 2011…حتي الآن…حيث أن الأمور لم تتبلور بعد نحو وضع ديمقراطي سليم مستقر بديل عن الدكتاتورية السابقة…بل أخذ كثير من العامة يحنون لتلك الدكتاتورية…ويمنون أنفسهم بدكتاتور عادل…واليمين المصري الذي يفكر في الانقضاض علي السلطة ….ما انفك يدغدغ مشاعر الجماهير بافتعال عدو أجنبي يتوحدون ضده…ويمكن لهذا العدو أن يكون السودان أو إثيوبيا….ولكنه بالقطع لن يكون إسرائيل.
لقد حضرت ندوة قدمها أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصري الأسبق بأبوظبي في نوفمبر الماضي…عن حرب أكتوبر 1973…ولكنني توقفت كثيراً لدي سؤال تقدم به أحد الحضور من أبناء الجالية المصرية:
" هل لدي الجيش المصري إمكانية لضرب سد النهضة الإثيوبي بالطائرات؟"
وكانت الإجابة:
"هذا الموضوع صعب، إلا إذا وافق السودان علي التعاون معنا، فليس لدينا طائرات تستطيع أن تقطع هذه المسافة التي تبلغ أكثر من ألفي ميل."…أي أنه من حيث المبدأ لا يعترض علي مثل هذا العدوان.
ولم تكن الإجابة، كما توقعت من رجل عاقل ومعقول كهذا، شيئاً مثل الآتي:
( هذا ليس زمان العدوان علي الجيران…وإذا كانت إسرائيل تفعل ذلك…كما فعلت مع السودان عدة مرات…فنحن نسعي لتوحيد القارة وليس لتفتيتها وتفجير الصراعات في وسطها…ونحن نسعي لدرء ما بها من فتن وحروب… وليس لتعميق جراحاتها وجرها لعدائيات لا يعلم إلا الله مآلاتها.)
وبدا لي أن هنالك وحدة فكرية لدي النخبة المصرية الحاكمة مفادها الآتي:
ماء "مية" النيل خط أحمر، ونحن نتمسك بالإتفاقيات التي تمت إبان العهود الاستعمارية، ولن نتنازل عنها قيد أنملة، حتي لويقود ذلك للمواجهة العسكرية مع الدول الواقعة علي شواطئ هذا النهر.
بيد أن هذا الموقف يغفل الحقائق الموضوعية التالية:
هنالك أكثر من أحد عشر دولة تطل علي نهر النيل وروافده، وكلها الآن تيقظت لحقها في ماء النيل الذي تكفله المواثيق الدولية، ولديها حاجة ماسة لري المشاريع الزراعية بالري الانسيابي من لدن السدود التي بنيت وستبني علي النهر، ولقد شرعت يوغندا مثلاً في بناء أربعة سدود من هذا القبيل، دع عنك سد النهضة الإثيوبي.
كل هذه الدول، باستثناء السودان ومصر، وقعت وأقرت إتفاقية للتعاون المائي والاستثماري بغرض الاستفادة المتكافئة والعادلة والرشيدة من مياه النيل، وتطوير هذا المورد وإثرائه، وفي نفس الوقت تطوير الموارد المائية البديلة الأخري.
هذه الدول بينها من الأحلام والآفاق المشتركة ما يجعلها تتقارب أكثر وأكثر، وهنالك الآن خطوات وحدوية تم اتخاذها بالفعل، مثل التأشيرة السياحية المشتركة، وثمة حديث نشط عن سوق شرق إفريقية، وربما نوع من الوحدة الإقليمية علي غرار مجلس التعاون الخليجي.
إن اعتداء مصر علي أي من هذه الدول يعتبر اعتداءاً عليها جميعها، إذ أنها لن تنتظر أن تؤكل كما أكل الثور الأبيض، وستجد مصر المحروسة أنها في مواجهة ربع القارة الإفريقية تقريباً.
ولقد كان ملفتاً للنظر بعض الشيء أن أول زيارة للمشير السيسي خارج مصر كانت لروسيا، مذكراً برحلات الراحل عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر، لا لطلب قمح أو مساعدات لوجستية أو تكنولوجية خاصة بانتشال الاقتصاد المصري من الوهدة التي يمر بها….إنما لشراء سلاح من روسيا. وضد من ياتري تريد مصر أن تستخدم ذلك السلاح؟ ضد إسرائل؟ لو كان الأمر كذلك لسمعت به السي آي إي قبل أن يتحرك السيسي من مطار القاهرة صوب موسكو، ولتم إجهاض الزيارة قبل أن تبدأ. ضد الإرهابيين والإخوان المسلمين؟ تلك حمي خفيفة، والشعب المصري كفيل بعلاجها…و لا تحتاج لزيارة بهذا الزخم والضوضاء الإعلامية… لجلب الأسلحة الثقيلة خاصة الطائرات العسكرية.
ربما يبحث الجيش المصري عن طائرات تستطيع أن تقطع مسافة الألفي ميل من أسوان لسد النهضة….أو علي الأقل لطائرات إمداد وقود في الجو، كما فعلت الطائرات الإسرائيلية التي ضربت مصنع اليرموك الإيراني بالخرطوم. ولربما يريد الرئيس القادم لمصر أن يبدو حريصاً علي أمن مصر وعلي "الخطوط الحمراء"…أي، مية النيل…وأن يبدو كجمال عبد الناصر، متحدياً لهذا وذاك من أعداء الأمة…وهذا ما نرحب به، إذا لم نكن نحن أنفسنا الأعداء المتوهمين لهذه الأمة….ففي كلام اللواء أعلاه إشارات خفية للسودان باعتباره ايضاً ضمن الممتلكات المزعومة التي ينوي أجناد آخر الزمن استرجاعها.
وأيا كان المبرر لهذه الصفقة بالغة الكلفة التي عقدها المشير السيسي بموسكو، فإن طريق الحرب طريق مسدود.
وإذا شاء الرئيس المصري القادم أن يسلك طريق العدائيات والتحرش بالجيران، فليعلم أن الغرب لا يمانع في ذلك، بل ربما يشجعه كما فعل مع صدام حسين قبيل غزوه للكويت في أغسطس 1990 ،… وما أن يتورط في حرب من هذا النوع… حتي ينقلب عليه الغرب ومعه ما يسمي ب"الأسرة الدولية"، ويجبروه علي الانسحاب مذموماً مدحورا….ومكسوفاً أمام العالم كله…ومتراجعاً نحو دولة من الدرجة العاشرة.
إن الطريق الأفضل هو طريق التعاون الإقليمي، بدءاً باتفاقية تطوير الموارد المائية التي وقعت عليها كل الدول ما عدا مصر والسودان….وتشير الدلائل إلي أن السودان علي وشك أن يغير موقفه ويلحق بتلك الدول الموقعة… لا لأنه حريص علي المصالح السودانية، ولكن لأنه أحس بعزلة خانقة بعد زوال دولة الإخوان المسلمين عن مصر… ، وربما كذلك لأنه اكتشف أن السودان هو المستفيد الأول من مشروع سد النهضة…ربما أكثر من إثيوبيا نفسها…فلقد عرضت عليه كهرباء من هذا السد بأقل من تكلفة الكهرباء المولدة بالسودان ومصر…وإذا صدقت نوايا الحكومة السودانية، تستطيع أن تمد قناةً من هذا السد الذي يبعد عن الحدود السودانية بعشرين ميلاً فقط…وتستطيع أن تروي السهول التي يعيش فوقها أعراب كنانة ورفاعة والعقليين…بدواً متنقلين منذ مئات السنين….كأنما الله عز وجل قد أتاهم بالماء من حيث لا يحتسبون… لزوم الاستقرار… كما فعل أعراب الجزيرة بعد قيام مشروع الجزيرة عام 1925. ولكن مثل هذا التفكير التنموي يحتاج لنظام وطني ديمقراطي جديد، ولس نظام الإخوان المسلمين الفاسد الراهن الذي ظل يفتك بشعوب السودان وظل يستحلب وينهب موارد البلاد بلا رأفة أو تريث وبدون أي اعتبار لمستقبلها أو للأجيال القادمة…ولم يفكر يوماً في استقرار الأعراب المتنقلين أو في تنفيذ مشروع تكاملي كهذا مع جارة شقيقة كإثيوبيا…لأنه مهموم بشيء واحد فقط: الاستمرار في السلطة.
وكل ما يقوله أدعياء المعرفة عن سلبيات سد النهضة هراء في هراء…وعن عمد لا يسألون الاختصاصيين المهنيين المحايدين، كأنهم يريدون لطبول الحرب أن تستمر في إرزامها، لأنها، كما فعلت مع الفاشيين والنازيين، تستقطب الدهماء وتشغلهم عن المطالبة بتحسين أوضاعهم الاقتصادية، ولو ماتوا في الحرب فذلك خير…لأنه سيحد من النمو السكاني المتفاقم…إذ أن الحرب، شِأنها شأن الأوبئة والكوارث الطبيعية، كما قال مالتوس، تضع حداً لذلك التكاثر السكاني غير المنضبط …وتخلق التوازن الصحيح مع الموارد الطبيعية المتناقصة علي الدوام geometrically.
إن سد النهضة لن يسبب أذي للإقتصاد المصري… ولن يؤثر علي الكوتة المصرية من مياه النيل. ولكن هذه المعلومة البسيطة تضيع وسط أرجل الصعاليك الذين يرقصون رقصة الحرب ويحرضون النخبة الحاكمة علي ارتكاب حماقات في حق الجيران ستكون عواقبها وخيمة للغاية.
والسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.