[email protected] افتتنت كثيرا – وما زلت – بأمريكا اللاتنية.كنت أرى فيها – على اختلاف التاريخ والجغرافيا والثقافة والتجارب والمزاج - مستقبل أفريقيا. يبدو لي أن أفريقيا وبلدانها، عموما، تقتفي آثار أمريكا اللاتنية، تعيد تجاربها، وتكرر فشلها، وترتكب أخطاءها بعد سنوات عديدة من حدوثها، دون أن تتعلم أو تتعظ، وكأنما كُتب علينا أن نسقط على وجوهنا في نفس الحُفر والمزالق التي وقع فيها الغير. سارت على نفس خطاها في تكرار الانقلابات العسكرية والحكم الدكتاتوري وعنف الدولة المُفرط وأجهزتها. غير أن أكثر ما يلفت نظري في أوجه الشبه بين المنطقتين هو الفوارق الاجتماعية والاقتصادية المتسعة بين قلة تملك كل شئ وأغلبية مسحوقة تأكل الفتات، وهو ما أدى طوال القرن العشرين إلى الحروب الأهلية وحروب العصابات وتدخلات الجيوش في السياسة، وإلى العنف الذي هو موضوع مقالنا. ويبدو أن أمريكا اللاتنية بدأت ما يمكن أن يُسمى فترة تعافيها و"نضوجها" رغم ما تواجهه العديد ن بلدانها من مشاكل اجتماعية واقتصادية، بينما لا تزال أفريقيا في بداية المخاض. الشئ بالشئ يُذكر. تذكرت افتتاني بأمريكا اللاتنية حين تذكرت كتابا قرأته قبل سنوات طويلة كتبته باحثة أمريكية بعنوان "العنف في أمريكا اللاتينية"، يُركز بصفة خاصة على "الحرب القذرة" في الأرجنتين. و"الحرب القذرة" ترجع لفترة آخر دكتاتورية عسكرية (1976 – 83) في تاريخ الأرجنتين المضطرب الدامي حين قتل ما بين 10,000 إلى 30,000 مواطن، معظمهم ممن أسموهم المفقودين أو"المَخْفِيِين"، أي الذين اختطفتهم قوات الجيش والأمن والقوات الخاصة و"فرق الموت" من بين المعارضين من اليساريين والعمال والطلاب والمثقفين والمناوئين للحكم العسكري، واختفوا إلى الأبد بعد أن تعرضوا لتعذيب بشع في معتقلات سرية (بيوت أشباح)، انتهى بإلقاء بعضهم من الطائرات الحربية في منتصف فم نهر البلاتا أو في عرض المحيط الأطلسي. تسلم جنرالات الجيش في الأرجنتين الحكم في عام 1976 حين عجزت حكومة إفيتا "الثانية" بيرون المُنتخبة مواجهة مشاكل الأرجنتين من "حرب أهلية" في الأحراش والجبال، وحرب عصابات في المُدن، وأزمات اقتصادية حادة، واضرابات عمالية. وفور تسلمها للحكم، عطلت الحكومة العسكرية الدستور والبرلمان، وفرضت رقابة صارمة على وسائل الإعلام، وحظرت النشاط النقابي، وأخضعت أجهزة الدولة والحكم المحلي للحكم العسكري. ثم تبعت ذلك بشن حملة ضارية ضد المعارضين على اختلاف توجهاتهم، وأقامت في أنحاء البلاد المئات من مراكز الاعتقال السرية، زجّت فيها الألاف من المعتقلين دون محاكمات. ونسبة لاستمرار حرب العصابات ضد الحكومات المتعاقبة في الأرجنتين منذ الستينيات، لم تُواجه حملة الجنرالات بمعارضة تُذكر في بدايتها. ولكن حين تكشفت انتهاكاتها الصارخة ضد الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، تصاعدت المعارضة لتجاوزات الحكومة العسكرية في الداخل والخارج. ولعل أهم مظاهر تلك المعارضة والانتقادات هي "أمهات ميدان مايو"، وهنّ أمهات المختطفين و"المخفيين"، اللائي يأتين كل يوم خميس إلى ميدان مايو في قلب العاصمة بيونس أيريس لسنوات وسنوات، يحملن صور أعزائهم المفقودين، حتى سقطت حكومة الجنرالات بعد إقدامها على احتلال جُزر الفولكلاند/مالفيناس والدخول في حرب مع بريطانيا انتهت بهزيمة مُذلة عجّلت برحيلهم وعودة الحكم المدني. أكثر ما علق بذهني من كتاب "العنف في أمريكا الاتنية" هو تساؤل الكاتبة عن كيف يمكن للضباط الأرجنتينيين، وهم رجال متدينين يغشون الكنيسة كل أحد، بارّين بأسرهم، وآباء عطوفين، ومتعلمين يتذوقون الموسيقى الكلاسيكية، أن يُقدموا على مثل هذا العنف الأعمى الذي لم يشمل فقط التعذيب الوحشي لمعارضين معظمهم من المسالمين العُزل من مواطنيهم، ورمي بعضهم من حالق في عرض المحيط، بل "الاستيلاء" على أطفال المحتجزات وتزوير أوراقهم الثبوتية، و"إهدائهم" لزملائهم ممن حُرموا نعمة الإنجاب! في تجربة الأرجنتين المأساوية عظات وعبر لأفريقيا، ولنا في السودان على وجه الخصوص. جزء من أهمية التجربة هو مسار القصاصهناك على ما ارتكب من جرائم وانتهاكات صارخة رغم مضي أكثر من ثلاثين سنة على سقوط دكتاتورية الجنرالات، ورسوخ مبدأ المساءلة وعدم الإفلات من العقاب رغم دعاوى "عفا الله عما سلف" التي جعلت حكومة كارلوس منعم تلغي الأحكام ضد المُدانين من العسكريين في الثمانينيات والتسعينيات. بيد أن أكثر ما يلفت نظري في تجربة الأرجنتين، ( وفي كتاب "العنف في أمريكا اللاتنية") هو التساؤل الذي طرحته الكاتبة،(والذي شغل معظمنا في السودان)، وهو كيف يُقدم شخص سَوِيْ (مسلم أم غير مسلم) على مثل العنف الأعمى الذي خبرناه طوال أكثر من عقدين من الزمان، ثم يمضي ليحيا حياته وسط أسرته، وفي مجتمعه،دون أن يطرف له جفن؟