حازم الأمين واجهت إسرائيل هذه المرة صعوبات حقيقية في سعيها الى تسويق حربها على غزة لدى الرأي العام العالمي. صحيح أن تخبطاً أصاب مؤسسات الرأي العام، الغربي والأميركي تحديداً، عندما سحبت مؤسسات مثل «سي أن أن» و «نيويورك تايمز» مراسليها من غزة بسبب ضغوط تعرضت لها على شكل تغطيتهم مجزرة شاطئ غزة، إلا أن هذا التخبط عاد واستقام عندما أعيد بعض المراسلين، وبررت مؤسسات أخرى خطواتها بأسباب تقنية. وفي هذا السياق، شهدت مدن في الغرب تظاهرات تضامن غير مسبوق مع أهل غزة. مدن وأحياء مثل هوليوود ونيويورك ولندن، تُمثل في الغرب وجدانه وعمقه، خرج فيها متظاهرون يعلنون إدانتهم استهداف الأطفال الفلسطينيين، ويشيرون علانية إلى مسؤولية اسرائيل عن المجزرة. هذا بالإضافة إلى فنانين عالميين مثل مادونا وريهانا وجون ستيوارت وغيرهم، غردوا على «تويتر» وعلى غيره من وسائل التواصل الاجتماعي مدينين إسرائيل ومطالبين بوقف العدوان. وفي مقابل 10 ملايين «هاشتاغ» غربية داعمة لأهل غزة، غرد نصف مليون في الغرب لمصلحة الحرب الاسرائيلية عليها. لم يجر ذلك في سياق جهود عربية لتسويق المأساة، ولم توازِه حركة تضامن عربية أو اسلامية. كما أن ماكينة النفوذ الفلسطيني في مؤسسات الرأي العام العالمي لم تشتغل هذه المرة كما كانت تشتغل في المرات السابقة. وعلى مستوى محور الممانعة أيضاً، لوحظ أن بروداً شاب الرغبات التضامنية، فلم تشهد عاصمة ممانعة واحدة (طهران وبغداد ودمشق و… بيروت) تظاهرة تضامن، أو جهوداً كتلك التي بذلتها الآلة الإعلامية والترويجية الممانعة خلال حرب تموز 2006 في لبنان. ثمة متغير إذاً من خارج هذه الحسابات انتزع للفلسطينيين تضامناً غربياً لم يسبق أن شهدوه في الحروب السابقة. وهو متغير له علاقة بنظرة الرأي العام الغربي ل «اسرائيل الجديدة»، اسرائيل غير الأوروبية وغير الغربية، التي انتهت إليها الدولة العبرية. ذاك أن اسرائيل «الآباء المؤسسين» انتهت على ما يحسم بذلك معظم مؤرخي ومثقفي الحركة الصهيونية، ونحن اليوم أمام اسرائيل «الأحفاد» غير الأوروبيين وغير «الصابرا»، اسرائيل السفارديم والأحزاب الدينية. وما تبقى من الصهيونية (الغربية) هو يمينها الساعي الى أن يحكم باسم الأحزاب الدينية، وكامتداد علماني لها. هذه الصورة ل «اسرائيل الجديدة» ليست صورة لاسرائيل التي اشتهاها الغرب، والتي خاطب فيها «الآباء المؤسسون» الوعي الغربي، والأوروبي منه تحديداً. وهي لا تمت إلى الغرب بصلة شبَه اجتماعي أو ثقافي. في السابق قتلت اسرائيل الأوروبية أطفالاً ومدنيين في غزة وفي غير غزة لكنها نجحت في تسويق اعتداءاتها بصفتها دفاعاً ضرورياً عن النفس. يبدو أن هذا الأمر صار صعباً في ظل ضعف الايمان الغربي بالنموذج الاسرائيلي. «الآباء المؤسسون» نجحوا في تسويق المستوطنة بصفتها كيبوتزاً اشتراكياً أذهل الوعي الغربي ب «نموذجيته». لكن الوعي الاستيطاني اليوم غير معني بهذا، ولا يطمح الى تقديم صورة غير صورة المستوطن المحتل. لم تعد المستوطنات كيبوتزات. ثم إن اسرائيل الأوروبية والأشكنازية انكفأت إلى نُخب مدينية عديمة التأثير وتملك طاقات سلبية حيال التجربة الجديدة. «نتانياهو يخوض حرباً من أجل المستوطنين الجدد وليس من أجل اسرائيلنا»، قالها أحد كتاب «هآرتس»، وهذا الحد الذي رسمه الكاتب، بين المستوطنين الجدد وبين «اسرائيلنا» هو تماماً الحد بين اسرائيل الأوروبية الأشكنازية، وبين اسرائيل المستوطنين الجدد والروس والمتدينين. ولعل الانشقاق في صحيفة «هآرتس»، وخوضها معركة لافتة ضد العدوان على غزة هو أحد صور الفصام الاسرائيلي المستجد، ف «هآرتس» صحيفة النخبة اليسارية والليبرالية المدينية، وهي أيضاً صحيفة الطبقة المتوسطة العليا في تل أبيب، وهي في تمثيلها الانكفاء الأشكنازي عن المهمات الجديدة المنوطة بدولة الآباء، شرعت في تصديها للعدوان على المدنيين في القطاع تسأل عن «الثمن الذي ندفعه لقتلنا أطفالاً!؟». والجواب كان: «هل يستحق حفنة من المستوطنين المتدينين أن نُبدد من أجلهم صورة إسرائيل؟». والحال أن معادلة «الثمن» تقيم في صلب الوعي الصهيوني للصراع. اسرائيل قتلت وفق هذا الوعي لقاء ثمن تقاضته. اعترف مثقفو اليسار الصهيوني بإقدام دولتهم على «الترانسفير»، لكنهم اعتبروا أن «الثمن» الأخلاقي مبرر إذا ما كان شرطاً لإقامة الدولة. وقبل ذلك قرر ديفيد بن غوريون أن يتقاضى ثمناً مادياً لضحايا المحرقة على حساب الثمن الأخلاقي الذي عرضته أوروبا. هؤلاء يرون اليوم أن القتل يتم بلا «ثمن»، لا بل يعتبرون أن نجاح اسرائيل في تثبيت الكتل الاستيطانية في الضفة والقطاع يُهدد دولة الآباء. عبارة «هذه ليست اسرائيلنا» صارت أحد مفاتيح الكلام والكتابة السياسية في اسرائيل. والكتل الاستيطانية التي يخوض بنيامين نتانياهو الحرب من أجلها غيّرت «اسرائيلنا»! هذه صورة اسرائيل في وعي «اسرائيل الأوروبية»، فما بالك بصورتها في أوروبا نفسها وفي الغرب. طبعاً، لا يعني هذا الكلام أن صورة الدولة العبرية تداعت تماماً لدى الغرب، خصوصاً لدى مؤسساته الحاكمة، ولا سيما في ظل الحساسية المفرطة حيال خصوم اسرائيل الراديكاليين أيضاً. فما تؤشر إليه الدعوات الغربية التضامنية مع أهل قطاع غزة، والتي تضمنت دعوات ملحّة إلى ضرورة التمييز بين أهل غزة وحركة «حماس»، وأن اسرائيل تشن حرباً على المدنيين لا على «حماس»، ينطوي على إدراك لصعوبة المهمة في ظل تصدر «حماس» المشهد الغزاوي. في الغرب، كثيرون اليوم يقولون: «هذه ليست اسرائيلنا». لكن في الشرق أيضاً من يبذل جهداً لإعادة الوعي الغربي المستجد الى عهده في دعم اسرائيل.