د. الشفيع خضر سعيد قراءة في المشهد السياسي نحو أفق جديد ***منطلقنا في التعامل مع مفهوم القبلية، يكمن في إعترافنا التام بكونها مؤثر قوى على الأفراد، خاصة عندما يتعلق الامر بالاخلاق والقيم، أو بحالة التعايش فى مجتمعات نامية مازال الانسان فيها يحتاج الى الحماية والى الأمان عندما أشرنا، في المقال السابق، إلى ضرورة التعامل الواقعي مع المعطى القبلي في السودان، فإن إشارتنا جاءت مستندة، أو مرتكزة، على جملة من الحقائق التي ربما أصبحت في عداد المسلمات والبديهيات. من هذه الحقائق: أولا: القبيلة كيان سياسي سبق نشوء الدولة المدنية الحديثة، وساعد في تأسيسها وبقائها وقوتها. وهي، تتشارك مع الدولة في رباعية: الأرض والأمن والشعب والقيم، بل وتمثل ملاذا آمنا عند الأزمات والنوائب التي تعصف بالمجتمعات المعاصرة وتجعل الناس يفقدون الثقة في مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني. ثانيا: والقبيلة هي ظاهرة إجتماعية ضاربة في أعماق التاريخ. ومثل أي ظاهرة إجتماعية أخرى، ظلت بنيتها، وعلى مر التاريخ، تخضع لمبضع القانون الطبيعي للتطور، محدثا عددا من المتغيرات والتصدعات في إتجاه ميلاد المعاصرة والحداثة. وبذات المبضع، ظل الوعي، أو الشعور القبلي يتلقي الصدمات المتتالية والمتواترة. ولأسباب وعوامل معروفة، ليس من مهام هذا المقال التطرق إليها، أفرزت تلك المتغيرات والتصدعات، تراجع، وربما إندثار، البنية القبلية في مجتماع الدولة الحديثة، كما في أوروبا ودول الغرب الصناعي، في حين ستظل القبيلة هي العنصر الرئيس في مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة، كمعظم المجتمعات العربية والإفريقية، وستظل إشكالية مفهوم الدولة المعاصرة ومدى تناقضها مع الثقافة الاجتماعية التقليدية في المجتمعات الريفية والبدوية قائمة، حتى تتطور هذه المجتمعات وتتواءم مع نتائج التحولات التي ستفرضها متطلبات عملية الإنتقال، الحتمية، إلى الدولة الحديثة المعاصرة، وتأسيس الهوية الوطنية والانتماء الوطني بدلا عن الانتماء القبلي الأسري. ثالثا: تشير الدراسات الأنثروبولوجية إلى أن القبيلة ترجع إنتمائها الى جد مشترك يميزها عن مجموعات أخرى مماثلة لها، ويفصلها عن غيرها بحيث تكون العلاقات بين الطرفين علاقات تعارض وتنافس وصراع. لكن، ذات الدراسات تقول أن "معظم القبائل تصنع لنفسها جدا وهميا تشارك به في ترسيخ بناية الذاكرة الجماعية والرواية الشفهية. وهذا يندرج، من الناحية السيكولوجية والثقافية، في إطار الرغبة في اثبات الذات وتحقيق المكانة الاجتماعية حتى ان بعض عمليات الانتساب ترجع الى جد محدد يناقض حقائق التاريخ". رابعا: يعتبر إبن خلدون أن العمل السياسي ينبثق من داخل القبيلة، من الصراع على الهيمنة والتنافس على الموارد ومصادر العيش. والتجربة الماثلة تقول، عندما تتداخل السياسة مع القبيلة، فسيحدث هناك تحالفات سياسية تبنى على طريق القرابة والصلة العشائرية، وعلى أساسها يتم إقتسام السلطة والثروة والنفوذ. خامسا: التراث القبلي التاريخي العريق للمجتمعات العربية والافريقية، جعل هذه المجتمعات تتميز بإضفاء معاني ودلالات على مفهوم القبيلة، الذي لم يغب يوما عن أرضهم ولا عن تاريخهم. فقد استطاعت هذه الوحدة الاجتماعية، القبيلة، غض النظر عن صغر حجمها أو كبره، إستطاعت أن تصاحب كل تحولات المنطقة العربية والإفريقية في السياسة والإقتصاد والثقافة. سادسا: أصبحت القبيلة مؤثرا أساسيا، وأهم من ذلك موضوعيا، فى المشهد السياسي والإجتماعي في السودان. فهي حاضرة، وبقوة، وسط حركات الهامش وفي الحروب والنزاعات المستوطنة في البلاد، بما في ذلك النزاعات المتعلقة بحيازات الأراضي، والنزاعات المتعلقة بالإحتجاجات المطلبية وتغولات السلطة على المشاريع الزراعية، ونتائج بناء السدود، وأيضا فشل السلطة في تقديم الخدمات، أو إستخدامها لهذه الخدمات كسلاح. والقبلية حاضرة، في سياسات وتاكتيكات السلطة من أجل التمكين والبقاء، ومن أجل ضرب قوى المجتمع المدنى. وأيضا، تعتمد العديد من الأحزاب، وبعضها بشكل كامل، تعتمد على القبيلة من أجل الحشد وبسط النفوذ السياسى. وحتى جهاز الدولة نفسه، لا يزال يضع سؤال القبيلة فى معظم البيانات الرئيسية، ربما لأغراض مفهومة ومقبولة، أو لأسباب أكاديمية. وبالطبع لا ننسى تكوين الجيش السوداني نفسه، والذى تاريخيا كان يعتمد على أبناء القبائل المختلفة فى تكوينه، وعبر ترشيحات من زعماء هذه القبائل، متوخيا مراعاة التناسب والتوازن ووضعية الجيش كمؤسسة قومية، رغم أن ذلك لم يمنع ان تستحوز قبائل محددة، بسبب التفاوت في فرص التعليم، على المناصب العليا. هذه الحقائق، عادة ما يتم الإعتراف بها، بل ويتم التعامل معها بشكل آلي، لكن دون الإقرار بضرورة بذل الجهد المطلوب لدراسة وإستيعاب المعطى القبلي، وبحث إمكانية إدخاله فى السياق العام لعملية بناء الدولة الحديثة جنبا إلى جنب مع الاحزاب السياسة ومنظمات المجتمع المدنى الأخرى. ونحن هنا، نقر بإلزامية أن نضع منظورا يحدد ما هو غير مرئى فيما يخص القبيلة. فقطعا، نحن لا نريد التأطير للقبلية وإعطائها مشروعية القبول والسيطرة، كمفهوم، هو بالضرورة يتناقض مع بناء الدولة الحديثة التى تقوم على رفض الانحياز الا لما هو انسانى. كما أننا لا نسعى لإعطاء أى أهمية مضافة لمؤثرات أخرى، كاالدين واللغة، وبالطبع لا نود نفي هذه المؤثرات، بإعتبارها، مثلها مثل العنصر والقبيلة، تطرح نفسها وبقوة، كما سبق وأن أشرنا في عدة مقالات سابقة تحدثنا فيها عن إعادة بناء الدولة السودانية بمشاركة كافة مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية والإثنية. منطلقنا في التعامل مع مفهوم القبلية، يكمن في إعترافنا التام بكونها مؤثر قوى على الافراد، خاصة عندما يتعلق الامر بالاخلاق والقيم، أو بحالة التعايش فى مجتمعات نامية مازال الانسان فيها يحتاج الى الحماية والى الامان، مثلما يحتاج إلى تفعيل اليات الديمقراطية المباشرة، واكساب التمثيل مشروعيته الحقيقية ورضا الآخر. ونحن نعتقد أن في هذا الإعتراف، تكمن بداية هزيمة العصبية القبلية، من خلال عملية النفى، المتحققة يوميا مع تسارع وتائر عجلة الحداثة، لكل ما هو أسطورى أو خرافى، أو يعتمد على التجهيل والغش والاعيب الصراع السياسى المختلفة من تلاعب بعاطفة الجماهير واستخدام المغالطات المدروسة وغيرها. تجارب الربيع العربي في اليمن وتونس ومصر، وما نشهده اليوم في ليبيا وسوريا والعراق، وقبل كل ذلك ماجرى ويجري في الصومال، طرحت، وتطرح تساؤلات، تصدى لها عدد كبير من الدارسين والباحثين. من ضمن هذه التساؤلات: 1- هل بالضرورة أن تتلازم القبيلة والعصبية، أو العنصرية، القبلية؟ 2- أين هو المتغير المستقل والمتغير التابع بالنسبة للدولة والقبيلة؟ 3- هل تعاظَم شأن القبيلة وباتت خطراً على استمرار الدولة كإطار سياسي مقبول في المنطقة العربية؟ أم أن الدولة ذاتها فشلت في إحداث التأثير المطلوب في المجتمعات العربية مما أدى إلى تلاشي دورها واضطرر القبيلة للقيام بدورها التقليدي والأصلي كسلطة سياسية في مجتمعاتها؟