يوسف بزي هناك، في الدير القروسطي، الذي وصفه أمبرتو إيكو في روايته «إسم الوردة»، تحدث سلسلة من جرائم القتل الغامضة التي يذهب ضحيتها عدد من الرهبان. وسر الجرائم، الذي سيتكشّف في الرواية، يكمن في دهاليز مكتبة الدير. الرهبان الذين يعملون في النسخ والتجليد، والذين يعيشون مع الكتب وفضول القراءة، والمتعطشون إلى المعرفة، التي يحجبها التزمت الديني، سيموتون بسبب هذا الفضول بالذات. القاتل، أمين المكتبة وحارسها، جعل الكتاب المحظور والمحجوب مسموماً. من يتصفحه يموت. ليس الكتاب المسموم سوى «كتاب الضحك» لأرسطو. الضحك يهدد العقيدة والإيمان. الضحك دنس وغواية شيطانية، وقد يؤدي إلى التهتك والعربدة والتحلل الأخلاقي. الضحك يلهي المؤمن ويوقعه في «الخطيئة». الضحك في هذا العالم ليس سوى تهلكة ومعبراً إلى الجحيم وفقداناً للطهارة. والسؤال اللاهوتي المقلق، الذي سيظهر في الرواية: هل من المعقول أن المسيح كان يضحك أم أنه لم يضحك أبداً في كل حياته؟ السؤال الذي يشبه المتاهة، وقد يزعزع ركائز العقيدة والكنيسة يجب تجنبه كلياً، يجب إنكار الضحك أصلاً، وإنكار أرسطو أيضاً. إذاً، «كتاب الضحك» هو خطر ومصدر للشرور الوثنية. الكتب الأخرى أيضاً الآتية من بلاد الكفار «المسلمين»، هي كذلك لا بد أن تحوي ثقافة «شيطانية». وربما «المعرفة» برمتها لا تتوافق مع «الإيمان». وسواس الخوف من الكتب والضحك والمعرفة، ستقود أصحابها إلى القتل، ثم إلى احتراق المكتبة، والكنيسة والدير نفسه، الذي سيتحول إلى أطلال في نهاية المطاف. نستذكر الرواية، تعليقاً على تصريح نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينتش، الذي دعا فيه النساء إلى عدم الضحك في الأماكن العامة، كي لا يثرن غرائز الشباب، في خطاب سياسي وجماهيري عن «الفساد الأخلاقي الكبير». فهذا المسؤول الرفيع هو أحد وجوه حزب «العدالة والتنمية« الحاكم، الممثل لما يمكن اعتباره الإسلام السياسي «المعتدل»، أو الأكثر اعتدالاً بين أحزاب الإسلام السياسي. وهو أيضاً ينتمي إلى دولة من المفترض أنها علمانية في قوانينها وفي أوجه حياتها العامة. وإذا أخذنا موقف أرينتش من ضحك النساء، وتصورناه سياسة رسمية، مثبتاً بالقانون والأعراف والسلوك، جاز التساؤل عن ما سيحدث للضحك النسائي في التلفزيون مثلاً: أن يُمنع على النساء الضحك في المسلسلات التركية. أو ما العقوبة التي ستنالها الفتيات اللواتي يضحكن في الصور، كما يفعلن الآن عبر مواقع التواصل الإجتماعي، تحدياً وسخرية من تصريح أرينتش. الخوف من ضحك النساء، صوناً ل»الأخلاق» في تركيا «الإخوانية»، كما الخوف من الموسيقى أو الرقص في إيران «الخامنئية»، التي أرعبها شريط فيديو الشبان والشبات الذين يرقصون مع أغنية «هابي» (السعادة)، كما الخوف في معظم الدول العربية من خفة الأثواب، بل الخوف من خروج المرأة وظهورها في أي مكان في ميادين مصر أو شوارع أفغانستان. هو خوف من اللهو، من البهجة، من اللعب، من حقيقتنا كأجساد، من بشريتنا. ليس الضحك وحده هو الشر الذي يهدد الإيمان والأخلاق، ولا المرأة وحدها هي «الغواية الشيطانية» التي «تستفز» الرجال وغرائزهم الفالتة دوماً، أو الشديدة الضعف إلى حد أن ضحكة واحدة كفيلة بفقدان رشدهم! بل أيضاً التلفزيون والهاتف الخلوي والكمبيوتر والصحون اللاقطة للفضائيات الأجنبية والكتب والمكتبات والموسيقى وصالات السينما وحفلات الزواج ومناسبات أعياد الميلاد و»عيد العشاق» والإختلاط في المترو والباصات والمدارس والمقاهي… حتى أن «الإيمان» يكاد يختفي من العالم ويتهاوى الدين برمته ما أن تظهر إمرأة سافرة بلا حجاب. وسواس الإسلام السياسي، الذي يعضده انحطاط فقهي مأزوم منذ قرون، في فرض سيطرته على المجتمع وعلى الأفراد وأجسادهم وسلوكهم، يدفعه إلى استخدام الأداة الوحيدة التي تتيح له فرض رؤيته الأخلاقية: العنف والجريمة. فهو يرى في نفسه المرجع والضمير والميزان لكل الأخلاق، وما البشر سوى ناس لا يملكون أي وازع أو ضمير ولا نظام قيم في أنفسهم. إنهم بحاجة إلى من هو رقيبهم، وسواسهم، الذي هو وحده «يعرف الله» والأخلاق، أي الشيخ أو القاضي الشرعي أو التنظيم أو الحزب الحاكم، أو القائد، والولي وأمير المؤمنين وشرطته. وهؤلاء ومنعاً ل»الفتنة» وسداً للذرائع وتصدياً لغوايات الشيطان وتحصيناً للنفس الضعيفة (وكلنا ضعاف النفوس)، يعمدون إلى ملاحقة كل إشارة على فساد. أي ابتداء بالضحك أو الغناء، وصولاً إلى قراءة كتب الكفار ومشاهدة أفلامهم ولبس ثيابهم والتمثل بأفعالهم، ناهيكم عن الإجهار بالإفطار أو الإختلاط بين الجنسين… فهذا هو «الفساد الأخلاقي الكبير» الذي يخيف الإسلام السياسي، الذي يبدأ معتدلاً (إسلام «لايت»؟!)، ويصير «داعشاً» عند أول قهقهة. فتنظيم «داعش» لا يفعل شيئاً في العراق وسوريا يخالف حلم الإسلام السياسي، من «طالبان» أفغانستان إلى «نهضة» تونس. إنه النسخة «النقية» والأصولية في محاربة الفحشاء، والتنفيذ الحرفي الصارم لقانون «الأخلاق» المشتهاة. وكما في دير القرون الوسطى، كذلك في بلاد المسلمين اليوم، فمن أجل محاربة شيطان الضحك والمعرفة والكفر، لا بد من القتل، لا بد من حريق هائل يأتي على كل شيء. عن جريدة المستقبل