سأل البعض أن كلمة الحرية غير واردة في التنزيل الحكيم، فكيف نقول أنها قدس الأقداس؟؟؟ نقول: بما أن التنزيل الحكيم جاء للقرن السابع وما بعده ولشبه جزيرة العرب وما حولها، فاستعمل مصطلحات تغطي أطياف هائلة من المفاهيم، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك لتغير المتلقي، فمثلاً ذكر عقوبة السرقة ولكن لم يستعمل تعريف السرقة إلا بمصطلح (البغي بغير الحق) وهذا المفهوم يحوي طيفاً كبيراً من الحالات حسب تغير الزمان والمكان، وكذلك الحرية حيث قال أنه خلق الجن والإنس من أجلها بقوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} والعبادة هي من فعل (عبد) وهو من أفعال الأضداد، ويعني الخضوع والطاعة، و يعني الرفض والمعصية، ففي معنى الخضوع والطاعة قال {إياك نعبد وإياك نستعين} وفي معنى المعصية قال {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}أي أول الرافضين له، أي أن هدف الخلق هو حرية الاختيار والهدف من خلق الإنسان هو أن يكون حراً. وهو يغطي كل أطياف المفاهيم في الحرية، فالحرية هي هبة من الله وهي كلمة الله العليا، لذا فعلى الإنسان في حال فقدها أن يقوم بالتحرير، لذا قال {تحرير رقبة} أي طالب الانسان بفعل التحرير من أي إكراه. فالرق في التنزيل قال عنه (رقبة ، وفي الرقاب) ولم يقل عنه (عبد)، فالرجل هو عبد الله، والمرأة هي أمة الله، وكل من يظن أن الآية {وماخلقت الجن والانس إلا ليعبدون} تعني الصلاة والصوم والحج فهو واهم، إنها تعني أن الناس تطيع الله بملء إرادتها، وتعصيه بملء إرادتها، وهنا يكمن جوهر الدين كله ويكمن مبدأ الثواب والعقاب. والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله برفع الإكراه عن الناس بأي شكل كان، ونقول أن الجهاد في سبيل الدفاع عن الديار هو جهاد مشروع ولكن ليس في سبيل الله لقوله تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} إن القتال في الدين هو رفع الإكراه، أما الوطن فهو أمر آخر تماماً (الديار)، والفرق بغاية الأهمية. والجهاد في سبيل رفع الإكراه عن الآخرين هو قناعة شخصية وأنا أعتبرها من أركان الإيمان لا أستطيع أن أطلب من الآخرين أن يشاركوني بها، بينما القتال في سبيل الدفاع عن الديار هو واجب على أهل الديار كائنين من كانوا (مؤمنين، يهود، نصارى، هندوس، بوذيين، عرب، أكراد ..) وهو مطلوب من كل سكان الديار، أو ما يقال عنه قناعة وطنية، لذا مفهوم القناعة الدينية لا يتعارض إطلاقاً مع مفهوم القناعة الوطنية وإنما يدعمها لأنه لا يقبل وطن يمارس فيه الإكراه، هذه المفاهيم يجب أن نرسخها في أذهان الناس. الحرية منحة من الله وهي الأمانة التي عرضها على السموات والأرض وأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، أي أن التحرير هو الجانب الإنساني من الحرية. الدكتور محمد شحرور .