قال تعالى {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} (آل عمران 28) فهمت المنظومة التراثية هذه الآية على أساس أن الولاء الديني يتم بالبراء، أي معاداة الملل الأخرى، وهذه القراءة مغلوطة تماماً ومتناقضة مع المفهوم الإنساني للدين، فالقيم الإنسانية التي جاءت في التنزيل الحكيم تتناسب مع فطرة كل أهل الأرض، من الصين إلى مكة إلى سان فرنسيسكو، ولا تحتاج لأي سلطة سياسية تفرضها، بل سلطة الضمير فقط، ويتجلى دين الإنسان في تعامله مع الآخر، أما الشعائر فلا علاقة لها بالقيم. والله تعالى وضع الحرية على رأس القيم، وذلك بقوله {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (البقرة 256) فعكس الإيمان بالله هو الإيمان بالطاغوت، والعروة الوثقى التي تفرق بين الإيمان والكفر هي الحفاظ على حرية الآخرين، وتقاطع هذه الآية مع سابقتها يبين لنا أن المؤمنين المقصودون ليسوا أصحاب الملة المحمدية حصراً، بل أولئك الملتزمين بالقيم الإنسانية عند التعامل مع الآخرين، وهذا طبيعي بالنسبة لتعريف الكفر باعتباره اتخاذ موقف عدائي معلن من أمر ما، فالمؤمنون بالمفهوم الإنساني لا يوالون الطغاة والظّلام. وحين وصل النبي (ص) إلى يثرب كتب الصحيفة مع اليهود وكتب فيها أولاً أن المؤمنين به أمة واليهود أمة، وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات، وبهذا شكل أول شعب بالمفهوم الديمقراطي، والشعب يبنى على المفهوم الوطني، ولنأخذ مثلاً سكان الولاياتالمتحدة الأميركية: هناك مجموعة من المسلمين من أمة محمد وولاؤهم الأممي للأمة المحمدية، جزء من هؤلاء قوميتهم عربية ويتكلمون العربية في منازلهم والانكليزية في العمل ولا تعارض في ذلك، وجزء آخر يتكلم التركية وآخر الفارسية وهكذا، وهؤلاء جميعهم مواطنون في الولاياتالمتحدة الأميركية وهم جزء من الشعب الأميركي، وولاؤهم الرئيسي والمصلحي لها، لأن مصلحة شعب أميركا عندهم فوق مصلحة أي شعب آخر، ونرى ألا تناقض أبداً بين هذه الولاءات الثلاث، وهذا ينطبق على كل دول العالم. والمشكلة تظهر عندما تتحول الولاءات الأقل مرتبة من المواطنة إلى ولاءات استئصالية متعصبة، فتصل العلاقات بين هذه الولاءات إلى حد العدوانية، وأسوأ ما يحصل حين يتحول الولاء الأممي الإسلامي بمفهومه الإنساني إلى تعصب معادٍ للآخر، لا سيما إن كان دولة مضيفة تقدم للمواطن الرعاية ويتمتع فيها بكل الحقوق، خاصة تلك التي فقدها في بلده الأم من حرية وكرامة وعدالة اجتماعية. وللأسف اليوم يهاجر العرب إلى بلاد الغرب ويحمل بعضهم في نفسه من البغض والكره ما لم ينزل الله به من سلطان، ويقابل ما يقدمه البلد المضيف من رعاية وعناية إنسانية بالتحايل والاستغلال. ويحضرني هنا أن أذكر قصة شخصية، حيث حدثتني قريبتي بأن أمها كانت تدعو لها دائماً: "ليبعث الله لك حناين"، وقالت قريبتي: "لم أكن أتوقع أن هؤلاء الحناين من أهالي السويد". الدكتور محمد شحرور.