عزيمة وصمود .. كيف صمدت "الفاشر" في مواجهة الهجوم والحصار؟    بونو ينافس دوناروما وكورتوا على جائزة أفضل حارس في العالم    مناوي يُعفي ثلاثة من كبار معاونيه دفعة واحدة    المريخ يختار ملعب بنينا لمبارياته الافريقية    تجمع قدامي لاعبي المريخ يصدر بيانا مهما    بالصور.. تعرف على معلومات هامة عن مدرب الهلال السوداني الجديد.. مسيرة متقلبة وامرأة مثيرة للجدل وفيروس أنهى مسيرته كلاعب.. خسر نهائي أبطال آسيا مع الهلال السعودي والترجي التونسي آخر محطاته التدريبية    شاهد بالفيديو.. بالموسيقى والأهازيج جماهير الهلال السوداني تخرج في استقبال مدرب الفريق الجديد بمطار بورتسودان    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد بالصورة والفيديو.. سيدة سودانية تطلق "الزغاريد" وتبكي فرحاً بعد عودتها من مصر إلى منزلها ببحري    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس يصل مطار القاهرة الدولي    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    عمر بخيت مديراً فنياً لنادي الفلاح عطبرة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    بيان من سلطة الطيران المدني بالسودان حول تعليق الرحلات الجوية بين السودان والإمارات    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة.. أسسها الفلسفية وديناميتها الجماعية .. محمد الصغير جنجار
نشر في حريات يوم 25 - 12 - 2014

«الحداثة» كآلية تأويلية، عندما نرجع الى القواميس والموسوعات المتخصصة لنطلع على مضامينها في باب «حادثة»، يتضح لنا سريعاً أننا لسنا بإزاء مفهوم بالمعنى المتعارف عليه، وإنما الأمر يتعلق بكلمة تحيل كل جهاز تأويلي يخص وضعية تاريخية مسّت مجتمعات محددة (نقصد أوروبا الغربية انطلاقاً من القرن السابع عشر) سواء في أنماط عيشها أو تنظيمها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، لينتشر تأثيرها بعد ذلك في بقاع العالم. لكن إذا كان الجميع يتفق الى حد ما على هذا التحديد الزماني/ المكاني، فإن الخصائص الرئيسية لما يسمى «الحداثة» تظل خفية في ما يشبه «علبة سوداء». فعندما نتساءل مثلاً: لماذا تجتمع في أوروبا الغربية بالذات وفي الفترة التاريخية المذكورة شروط وضعية جديدة أطلق عليها نعت الحداثة؟ لماذا لم يحصل الأمر ذاته في اليونان القديمة ولا في الهند ولا في الصين ولا في الامبراطورية العربية الاسلامية؟ يكون جواب أغلب الكتابات التي حاولت تأويل هذه الوضعية التاريخية بكون أوروبا شهدت نهضة للمعارف العلمية أدت الى كشوفات وتحولات تكنولوجية كبيرى غيّرت وجه مجتمعاتها. مما يدفعنا للتساؤل: لماذا ظلت المعارف العلمية التي كانت موجودة في المجالات الحضارية المشار إليها أعلاه كامنة وثابتة ولم تعرف الطفرة أو النقلة النوعية التي شهدتها في أوروبا؟ هنا تأتي الاجابات عادة على شكل مجموعة أسباب متضاربة تلتقي مع عوامل خاصة بأوروبا، يذكر منها بيتر بيرغر: تطور اقتصاد السوق الرأسمالي؛ بروز الدولة الأمة وبيروقرواطيتها؛ تكون المدن الكبرى الكوسموبوليتية (Les métropoles)؛ ظهور التشكيلات الايديولوجية المعقدة التي أنتجتها النهضة (Renaissance) والإصلاح البروتستانتي (Réforme).
أما هابرماس فيرجع جدة الوضعية الأوروبية التي ننعتها بالحداثة الى ثلاث محطات تاريخية كبرى، عادة ما تستخدم في الأدبيات المخصصة لدراسة سياق الحداثة الأوروبية، وهي: اكتشاف العالم الجديد (أميركا)؛ تحقق النهضة الأوروبية؛ ظهور الاصلاح البروتستانتي.
تتعدد القراءات والتأويلات وتتنوع قوائم العناصر الأساسية والثانوية المساهمة في تحديد الديناميكية التي انطلقت في أوروبا وتواصلت خارجها. لكن القاسم المشترك لهذه القراءات يكمن في نوع من الحدس يجعلنا مقتنعين قبلياً بأن هناك «وحدة» لكل هذا، حتى وإن لم نهتد منذ ثلاثة قرون الى قراءة تركيبية واحدة تنهي النقاش وتقدم وصفاً مجمعاً عليه لما نقصد بالحداثة. من هنا العبارة الافتتاحية لهذا النص حيث تم التأكيد على كون كلمة «حداثة» هي أولاً وقبل كل شيء عنوان لجهاز تأويلي (un dispositive herméneutique). ويتأكد هذا البعد التأويلي المفتوح عند هونري ميشنيك الذي يرى بأنه «ليس هناك معنى واحد للحداثة، لسبب بسيط هو أن الحداثة ذاتها بحث عن المعنى». ولعل سر صعوبة تحديد معنى للحداثة يكمن أيضاً في تعدد المجالات التي تعتمد عبارة «الحداثة». فإلى جانب الفلسفة والسوسيولوجيا والتاريخ، هناك الفن بكل تعبيراته.
وإذا صح التشخيص الذي نقدمه، أي اعتبار كلمة «حداثة» عنواناً لشبكة تأويلية وليس مفهوماً بالمعنى المتداول، فإن أحد السبل الممكنة لتناولها يتمثل في اختيار مجموعة من اللحظات الكبرى في النقاش العالمي والمتعدد الاختصاصات، الدائر بشأنها. الأمر الذي يعني الوقوف عند بعض لحظات الجدل الفكري المعاصر حيث تلتقي التحليلات الفلسفية والدراسات الاجتماعية، آملين أن نجني من استقراء عناصر تلك النقاشات، مداخل تمكننا من تفكر «الحداثة» وتوضيح أبعادها.
في كتابه القول الفلسفي للحداثة، يوضح هبرماس أن عبارة «حديث» وليس المصدر «حداثة» -، استخدمت لأول مرة في أواخر القرن الخامس للدلالة على القطيعة التي حصلت بين ماض روماني وثني، أصبح جزءاً من العصور القديمة، وحاضر مسيحي نال شرف الاعتراف الرسمي. وكلمة «حديث» هنا تختلف عن عبارة «الأزمنة الحديثة»، إذ ينبهنا هبرماس الى أن استخدامها ظل قائماً سواء في عصر شارلمان (القرن 12م) أو في عصر الأنوار (القرن 18)، وأن تجدد استخدام عبارة «حديث» كان متزامناً باستمرار مع تجدد العلاقة بالعصور القديمة. ومن ثم فإن الوعي الأوروبي أنتج من خلال تجديد منظوره للحديث والعلاقة بالقديم، إحساساً بالانتماء لزمن أو عصر جديد. أما عبارة «الأزمنة الحديثة» فتترجم، في رأي هبرماس، انتشار قناعة بأن المستقبل قد بدأ الآن، كإشارة الى عصر يتحدد ويعاش في ارتباط بالمستقبل، منفتح على الآتي. ولعل القرن الثامن عشر الميلادي يجسد الفترة التاريخية حين اعتبر الوعي الأوروبي أن عتبة تاريخية (في حوالى 1500م) قد مثلت نقلة نوعية أو قطيعة في مجرى الزمن الحضاري الأوروبي. وهي طبعاً قراءة بعدية، أي اعادة بناء أو اعادة ترتيب للزمن الحضاري التاريخي، بمعنى أن الأوروبيين الذين عايشوا تلك الأحداث لم يكن وعيهم مطابقاً تماماً لهذا ولم يكونوا يعتبرون انهم على مشارف عصر جديد. ومن ثم فقد اعتبرت الاكتشافات الكبرى (أميركا) والنهضة والاصلاح البروتيستانتي محطات وأحداث فارقة في تاريخ أوروبا، ولحظات حاسمة في البناء السردي للانتقال نحو «الحداثة».
وهي ملاحظة ترد أيضاً عند مؤرخ عربي مثل عبدالله العروي عندما يميز بين «التحديث»، أي التحولات المجتمعية والاقتصادية والتقنية، وبين الحداثة باعتبارها «وعي المجتمع بتاريخيته». إذ يحصل في الكثير من المجالات أن لا يتطابق مسار التحديث مع وعي الحداثة. ويسوق العروي مثال ألمانيا حيث سادت الأيديولوجيا الرومانتيكية التي كانت تنظر بإعجاب الى الماضي (الإغريقي والوسيط) في الوقت الذي كانت البلاد موضوع تحديث مكثف في البنيات الاقتصادية والتقنية والاجتماعية (القرنان 18 19م). والعروي يريد أن ينبهنا، من خلال هذه الملاحظة التاريخية، الى أن ما قد يبدو انفصاماً بين مسلسل التحديث البنيوي الذي تعرفه المجتمعات العربية منذ أزيد من قرن (بإيقاعات مختلفة) وبين وعيها التاريخي (خطابات النخب عن الهوية والتراث والماضي) ليس أمر غريباً ولا جديداً في تاريخ التحديث المجتمعي شرقاً وغرباً. ومن ثم فإن الدرس المستفاد من المقارنة التاريخية يؤكد على أن التحديث ووعي التحديث ليسا دائماً متلازمين ومعاصرين لبعضهما البعض.
ذلك يوضحه جيداً هبرماس بخصوص القرن الثامن عشر الميلادي، حيث اعتبر الوعي الأوروبي أن قطيعة حدثت خلال القرن الخامس عشر الميلادي، وهو أمر ليس غريباً، يقول هبرماس، لأنه في القرن الثامن عشر الميلادي صارت الحداثة موقفاً فكرياً أو وعياً أعاد ترتيب وتأويل التحولات في مسار أوروبا على امتداد ثلاثة قرون. ومرد هذا الوعي أو الموقف الفكري هو تراكمات كثيرة، منها:
المثل التي بشرت بها الأنوار الفرنسية:
الفكرة التي أوحت بها كشوف العلم الحديث والتي مفادها أن المعرفة تشهد تقدماً غير محدود، وأن المجتمع يسير نحو الأفضل، مع ما واكب هذا التوجه المتفائل نحو المستقبل من تراجع لسحر الماضي وآثاره الفكرية والأدبية. ففي القرن الثامن عشر الميلادي سيشرع الوعي الأوروبي في وضع حد للتبجيل والاعجاب اللذين كان يضفيهما على الماضي وآثاره، أي أن الحداثة ستعي مشروعها التاريخي الخاص بها.
ومع ذلك، فإن نعت «حديث» لن يتحول الى مصدر «حداثة« إلا في أواسط القرن التاسع عشر، عندما ستعلن التيارات الجمالية (في الفنون) أنها تدشن قطيعة مع النموذج والأساليب الكلاسيكية الموروثة عن العصور القديمة (اليونان والرومان)، وحيث سيتواصل في المجال الفني ما سمي بخصومة القدماء والمحدثين التي انطلقت في القرن 18م، والتي آلت طبعاً الى ثورات جمالية تواصلت في النصف الثاني من القرن 19 وفي القرن العشرين.
لعل فائدة الجهد الجينيالوجي الذي قام به همبرماس لتتبع تحولات عبارات «حديث»، «حداثة» و»عصور حديثة» هي أنها مكنتنا من الوقوف على المسار الزمني الطويل الذي غطته عبارة «حديث» على كونها توحي اجمالاً بالقطيعة مع الماضي، وتحيل من خلال عبارة «الأزمنة الحديثة» لتشكيلة تاريخية تمتد من عصر النهضة. أما القرن 18م، فيعد بحق لحظة تبلور المشروع الفكري الحديث، حتى وإن لم يكتسب مجموع أبعاده الاجتماعية والعملية والجمالية سوى في القرن 19م.
وانطلاقاً من التداعيات الجمالية للحداثة في القرن التاسع عشر، خصوصاً في كتابات بودلير، اقترح ميشيل فوكو قراءة مجددة للنص القصير الذي كتبه كانط سنة 1748م جواباً على سؤال طرحته صحيفة برلينية «ما التنوير» ويخلص فوكو الى أن جواب كانط لا يقدم لنا التنوير باعتباره عصراً يتجاوز ما قبله ويبشر بفجر الكمال والاكتمال، بل يعرفه فقط من حيث هو حاضر يعي ذاته باعتباره مخالفاً للماضي، أي باعتباره يجسد تغيراً في «العلاقة الموجودة سلفاً بين الارادة والنفوذ واستعمال العقل» وهي إحالة للجمل الأولى من نص ايمانويل كانط: «ما التنوير؟ إنه خروج الانسان من وضع الحجر الذي هو نفسه مسؤول عنه. وهذا الحجر يعني عجز الانسان عن استعمال عقله دون وصاية غيره». وينتهي فوكو بما يلي بخصوص تعريفه للحداثة، وهذا هو المقصد الذي أرمي إليه من خلال استدعائه هنا، يقول فوكو: «واستناداً الى نص كانط، أتساءل: أليس بالإمكان تصور الحداثة بالأحرى كموقف بدل تصورها كمرحلة تاريخية. وأعني بالموقف نمطاً من العلاقة بالراهن»، أي الموقف الايتيقي الذي يجسده في نظره بودلير: اختيار إرادي يتمثل في السلوك والتفكير والاحساس والفعل. ومن ثم، فإن ما يستمده فوكو من نص كانط هو الموقف النقدي الذي حتى وإن لم يحولنا الى راشدين (الأنوار لم تحقق وعودها بنقلنا الى سن الرشد) فهو، حسب فوكو، لم يعدم أهمية طيلة القرنين الأخيرين. فالحداثة الموروثة عن الأنوار، حسب فوكو، لا يليق بنا تحويلها الى جهاز ثابت لمعارف تتراكم، ولكن اعتبارها نوعاً من الأنطولوجيا النقدية لذواتنا، أو ما يسميه الموقف الايطيقي.
المحدد الرئيسي الذي يقودنا الى نص كانط حول الأنوار وقراءة فوكو له، هو اعتبار الحداثة تربة فكرية حاضنة للفكر النقدي أو العقل النقدي. وهذا الأخير لم يتأت إلا مع بروز ما سمّي في تاريخ الفلسفة ب»الذات الحديثة» (Le sujet modern) الذي يتميّز بالقدرة أو الجرأة، حسب تعبير كانط، على استخدام ملكاته الطبيعية الذاكرة، الفاهمية (entendement) والإرادة للتفكير والسلوك وإنتاج خطاب لا يخضع لسلطة غير العقل. وهذا العقل النقدي يفترض بالضرورة توفر شرطين يتضحان من خلال نص كانط وهما: تكون الذات الحديثة التي لها القدرة أو الجرأة الكافية لاستخدام عقلها دون وصاية أحد: ثم التحرر أو الانعتاق من الوصايات والسلط المختلفة أو ما يسميه كانط «خروج الانسان من حالة الحجر» التي رضي بأن يضع نفسه فيها.
وفي الكتب النقدية الثلاثة يلح كانط على أن الاستخدام النقدي للعقل، ليس فقط استعمالاً خطابياً، أي انه ليس مجرد نمط من أنماط الخطاب، بل هو أيضاً سلوك (ethos)، أخلاقيات مميزة للحداثة (الشجاعة، الجرأة…). وفي تاريخ الفلسفة الحديثة صار ديكارت، منذ اعتبره هيجل مدشن الورش الحديث في الفكر الفلسفي و»البطل» الذي أعاد الأشياء الى بداياتها، رمز بروز الذات الحديثة. وذلك على الرغم من وجود أسماء عديدة ووجوه فلسفية بارزة أخرى تستحق أيضا حمل لقب أبطال الفلسفة الحديثة. وعموماً فإن كل المفكرين المشار اليهم عرفوا جميعاً بكونهم يجسدون القطيعة مع التقليد خصوصاً تقليد العصر الوسيط، نظراً لكونهم لا يترددون في اعادة قراءة قدماء فلاسفة اليونان (أرسطو وأفلاطون). كما يرمزون أيضاً لميلاد الفكر النقدي، بحكم رفضهم سلطة السلف. ثم انهم يجسدون أيضاً بروميثية (Prométhéisme) الانسان الحديث الذي وإن لم يكسر التقليد تماماً، فإنه لم يتردد في استعادة الأسئلة وطرحها على طريقته مجدداً. بل انه في أحيان كثيرة اتخذت تلك الاستعادة شكل مسح للطاولة وجرأة على التفكير في استقلال عن القدماء وآرائهم. وإذا كان مونطيني (Montaigne) قد شبه الاستعادة بعملية غربلة لكل تراث القدماء، فإن ديكارت ذهب الى حد إعادة التفكير في كل شيء وفق جهد فكري خاص.
الحداثة في تاريخ الفلسفة تنطلق إذن من هذين المعطيين: رفض سلطة القدماء، وتأكيد استقلالية الفكر. ولعلنا نجد عند مؤرخ للعلوم وفيلسوف ايستمولوجي مثل ألكسندر كويري، تفسيراً لهذه اليقظة النقدية التي دبت في الفكر الفلسفي الأوروبي في القرن السابع عشر، عندما نقرأ في مطلع كتابه العالم من المنغلق الى الكون اللانهائي الجملة الآتية: «ان تطور الكوسمولوجيا الجديدة التي أحلت محل نظرية «مركزية الارض» (monde géocentrique) الإغريقية ونظرية «مركزية الإنسان» (monde anthropocentrique) الوسيطية، الكون اللامركزي الذي أتى به علم الفلك الحديث، كل هذا لعب دوراً رئيسياً فيما سيأتي من تحولات». ففي سنة 1609، وجه غاليليه منظاره نحو السماء ليتهاوى الكوسموس الموروث عن الإغريق، ويتهدم عالم كان يتصور على أنه منتهى ومنتظم وفق بنية تراتبية تجسد الكمال الإلهي (أرض وفوقها سماوات) وليتضح فجأة ان لا وجود لمركز في فضاء غاليليه ونيوتن. وظهر بذلك باراديغم جديد يؤسس للمعرفة العلمية الحديثة ويقطع مع تراث الكنيسة الذي عاشت عليه أوروبا لقرون، والمتمثل في ما جاء به غاليليه: الطبيعة تتحدث لغة واحدة هي لغة الرياضيات. أي بمعنى آخر أن العالم يخضع لقوانين ضرورية يمكن للانسان فك أسرارها خصوصاً وان الرياضيات تعكس نمط اشتغال العقل الانساني. وهي الفكرة ذاتها التي ستتأكد مع ديكارت: الطبيعة كتاب مفتوح لمن تعلم أبجدية قراءته وتحليل عناصر النص المعروف أمام فكره وعلمه.
وانطلقت هذه المقاربة الميكانيكية للطبيعة (أنظر مثلاً ما يقوله ديكارت عن الحيوان باعتباره آلة متطورة جداً) تزيح عن الظواهر الطبيعية غرابتها وتجعلها في متناول الانسان. واتضح شيئاً فشيئاً أن الطبيعة لم تكن تبدو للبشر غريبة وساحرة وملفوفة بالألغاز إلا لكونهم ظلوا عاجزين في الماضي عن انتاج المعرفة والمنهجية العلمية المطلوبة لفك أسرارها. وبعبارة أخرى، منحت المعارف الجديدة (الرياضيات) والأدوات المناسبة (تلسكوب) للانسان امكانية اتخاذ واعتماد المسافة الضرورية للملاحظة. وبذلك لم يعد الانسان منغمساً في الطبيعة كما كان في السابق، ولا سابحاً في السحر الذي يحيط بأسرارها. وهو ما عبرت عنه مقولة ماكس فيبر فيما بعد، (le désenchantement) التي ستلعب دوراً كبيراً في بناء التفسير الاجتماعي لمسارات التحديث في المجتمعات الانسانية. ففي سياق هذه الثورة العلمية التي انطلقت في القرن السابع عشر الميلادي، يمكن فهم مسار بروز ما يطلق عليه «الذات الحديثة» التي ستضع حداً للثقة التي كانت تطبع العلاقة مع الحقائق الموروثة سواءعن العالم القديم الإغريقي أو عن العصر الوسيط المسيحي، متسلحة في ذلك بأداة النقد. وإذا كان ديكارت يشكل رمزاً لهذه «الذات الحديثة»، فلأنه لأول مرة في تاريخ الفكر الانساني سيستخدم مقاربة جديدة أطلق عليها «الشك الجذري» أو الشك المنهجي أو الشك الديكارتي، والتي تعني بأن ما يميز الذات الحديثة هو قدرتها على خوض هذه التجربة الجديدة المتمثلة في وضع كل موروثها (ما انتقل اليها من معارف الانسانية السابقة) موضع شك ومحاسبة نقدية، بمعنى أن لا شيء يمكنه أن يأخذ مسبقاً صفة الحقيقة اليقينية. كل مكونات التقليد تظل مجرد أحكام مسبقة، وطالما لم تخضع لفحص العقل والفكر الجديد. وهي العملية التي أطلق عليها نعت «مسح الطاولة«. ولم يخطئ توكفيل في القرن التاسع عشر الميلادي عندما اعتبر اليعقوبيين (Les jacobins) الذين صنعوا الثورة الفرنسية (1789م) بمثابة ديكارتيين أنجبتهم المدرسة (التربية) ورمت بهم في الفضاء العام لصنع تاريخ جديد، مبيناً بذلك الامتدادات السياسية للكشوفات العلمية وثورة الفكرة النقدي الحديث.
مع انهيار المبدأ الإغريقي المتصل بكوسموس منظم ومتناسق، حيث كل شيء يحتل فيه المكان الذي وجد من أجله، ومع تهاوي المبدأ اللاهوتي المسيحي المؤسس للمنظور الانساني للكون، تحت وطأة التحولات العلمية والفكرية الجديدة في القرنين 16 و17م وحتى القرن 18م، ظهرت الحاجة الى مبدأ جديد وفلسفة جديدة تؤسس لمنظور العالم، لعلم جديد وأخلاق جديدة ونظرية خلاص جديدة تعوض البراديغمات القديمة.
فمع الانتقال من ما أسماه ألكسندر كويري العالم المنغلق نحو الكون اللانهائي، سيبدو الانسان الجديد وكأنه كائن يسبح في فضاء لا حدود له ولا ركائز تعين معالمه، بعيداً عن الجاذبية والاسس التي كانت تشكلها التقاليد. ومن ثم سيصبح الانسان ذاته المبدأ المؤسس للمنظور الجديد للعالم. وهو ما يسمى في تاريخ الفكر الغربي ب»الإنسانوية» (humanism)، الذي برز كمحدد جديد للحداثة أو العصور الحديثة الى جانب «النقد». ويتمثل في محاولة اعادة بناء الفكر الفلسفي والمنظومة الخلقية والسياسية حول قطب مركزي هو الانسان. وليتأسس هذا كان لا بد من ايجاد تعريف جديد للانسان يبرز خصوصيته وأهميته كمبدأ جديد يطمح لاحتلال المكانة المركزية التي كانت لمفهوم الكوسوس (عند الاغريق) وللمبدأ الالهي في الثقافة والفكر المسيحيين.
ولعلنا نجد التعريف الأكثر شمولية ووضوحاً وجدة لمهفوم الانسان الجديد عند روسو منظر «العقد الاجتماعي». فما هو الجديد الذي أتى به روسو بخصوص مفهوم الانسان، والذي آثر وما زال يؤشر في الفكر الحديث ومفهومه للانسان؟ في خطابه حول أصل التفاوت بين البشر يعود روسو الى النقاش الكبير الذي شهده القرنان السابع والثامن عشر حول المقارنة بين الانسان والحيوان، ويرفض كل الحجج والتسويغات التي قدمها سابقوه لإبراز خصوصية الانسان: «الانسان حيوان ناطق»، «الانسان حيوان عاقل«. «الانسان حيوان له مشاعر» تمييزاً له عن الحيوان، ليعتمد في النهاية مبدأ واحداً يحدد، من منظوره، انسانية الانسان، الحرية، لماذا؟.
إذا كان الحيوان يظل وفياً لبرنامجه الطبيعي لا يزيج عنه، فالانسان عكس ذلك يذهب به الطيش الى حد خرق كل القوانين الطبيعية، وإن كان في ذلك مصدر هلاكه. وذلك لسبب بسيط هو أن الانسان كائن حر، بل لعل الحرية هي سر تفوقه على باقي الكائنات الطبيعية، كما انها في ذات الوقت كثيراً ما تكون مصدر تعاسته وسقوطه. ولأنه كائن حر، فإنه له «صفة نوعية جداً (خصوصية) لا يمكن أن تكون محل اعتراض، ألا وهي ملكة التكامل» (la faculté de se perfectioner). إنه التدرج نحو الكمال الذي يكتسبه الفرد البشري عن طريق التربية، وتبلغه الأمم بالتطور الحضاري باعتبارها كائنات تاريخية متجددة. وقد شكل التعريف الجديد لإنسانية الإنسان كما بلوره روسو نواة للتصور الحديث حتى يومنا هذا.
ومنثم، فإنه لا يمكننا فهم مقولة سارتر محدداً التصور الوجودي باعتباره الفلسفة التي ترى أن الوجود سابق على الماهية، إلا إذا استحضرنا منظور روسو السالف الذكر. ففي كتابه الوجودية فلسفة انسانية، يؤكد سارتر على أن الانسان يوجد أولاً، ينبعث في العالم قبل أن يكتسب (يصنع) ماهيته أو ما سيصير عليه. لا وجود لطبيعة انسانية، حسب سارتر، انسانية الانسان لا تتخذ سلفاً، بل هو وجود أولاً وقبل شيء، إنه وجود حر. فهو، على عكس باقي الكائنات التي تسبق ماهيتها وجودها (يعطي مثال المقص)، يوجد أولاً ثم يبني ماهيته بحرية.
ولا غرابة أن نجد في وجودية سارتر وتصوره للإنسان أصداء قوية لروسو وللنزعة الانسانية الجديدة التي انبثقت عن الثورات العلمية والفلسفية ثم السياسية في القرون الثلاثة الحاسمة التي صاغت شبكت مفاهيم الحداثة (القرون 16، 17و18م). ثم سنجد للخطاب أصداء في مجالات وحقول معرفية عديدة تذكر منها مثلاً النسوية أو الدراسات النسوية وما يطلق عليه اليوم مقاربة «النوع الاجتماعي»، خصوصاً بعد مقولة سيمون دو بوفوار: «on ne naît pas on femme, on le deviant«. وكلها نظريات تضرب جذورها في الإنسانوية الحديثة التي نجد تنظيرها الأمثل عند روسو من خلال مفهوم «التدرج في الكمال»، والتي تعني بكل بساطة أن انسانية الانسان ليست معطاة مسبقاً، بل هي مشروع مفتوح، بناء مستمر. مما نجد له انعكاساً في التوسع المتواصل الذي تعرفه فلسفة حقوق الانسان الحديثة (الأجيال المتعاقبة من الحقوق) والتي يحاول من خلالها المحدثون أن يوسعوا باستمرار وبإصرار آفاق انسانية الانسان، أي أنهم يريديون إنسانية تتدرج في الكمال على المنوال الذي رسمه روسو.
نجد أيضاً أصداء لهذا التصور الإنسانوي الجديد عند لاهوتي وسوسيولوجي أميركي مثل بيتر بيرغر حيث تتخذ الحداثة في تأويله توسيعاً لدائرة الاختيارات المتاحة للانسان الحديث بالمقارنة مع الانسان في المراحل السابقة من التاريخ. ومهما اختلفت مساحات وإمكانيات الاختيار بين المحدثين (الغرب المتقدم، والعالم الثالث الفقير)، فإنه بالمقارنة مع المجتمعات ما قبل الحديثة، يتوفر الانسان الحديث على قدرة اختيار لم تكن في الماضي ممكنة إلا في الحكي الأسطوري (أمثلة بسيطة: اختيار مهنة/ عمل، اختيار مكان السكن، اختيار الزوج أو الزوجة، اختيار عدد الأطفال، اختيار فرص الترفيه، الخ). وإذا كانت هذه الاختيارات تمس الجانب الخارجي للحياة، فهناك اختيارات أخرى تتعلق بالحميمي والشخصي والتي تحدد اسلوب الحياة مثل الاختيارات ذات الطبيعة الخلقية والايديولوجية والدينية والجمالية، الخ. فإذا كان انسان العصور ما قبل الحديثة يرث أغلب محددات ومميزات هويته، فإن النزعة الغالبة لدى المحدثين هي الانعتاق من الموروث وبناء هوياتهم بأقصى ما يكون من الحرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.