السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب جدلية العلمنة لهابرماس وراتسنغر
نشر في حريات يوم 12 - 01 - 2015


(حريات)
قراءة في كتاب جدلية العلمنة لهابرماس وراتسنغر‎
عند قراءتي لهذا الكتاب وضعت سؤالًا قد يساعدنا لفهم أهميته وأهمية الحالة التي يتحدث عنها، والسؤال هو: هل كان من الممكن أن نجد مثل هذه الحوارية في القرن التاسع عشر؟ وأن نجد ممثلًا للفكر الحداثي يضع الحداثة موضع التساؤلات بحيث يؤول إلى مراجعة أهم ركيزة لها، وأعني هنا ركيزة العلاقة مع الدين؟
فالقارئ في فكر القرن التاسع عشر -وهو القرن الذي أخذ فيه التبشير بالحداثة أوجه- يجد صعود النداءات المطالبة بهيمنة التفسير العلمي للوجود على التفسيرات الدينية والميتافيزيقية، والمراهنة المستمرة على زوال الدين -كما عند كونت- والدعوة إلى إقصائه عن دائرة المعرفة البشرية، فضلًا عن إقصائه خارج المجال العمومي السياسي والاجتماعي.
إلا أن أصواتًا جديدة ظهرت على الساحة الفكرية في العالم الغربي، تنادي بنقد مشروع الحداثة ومراجعة مآلاته، والبحث في أسباب انحراف هذا المشروع في جذوره المتمثلة في فلسفة الأنوار.
فبعد منتصف القرن العشرين، بدأت الأفكار الأساسية لما بعد الحداثة تظهر كنصوص فلسفية، وتُعرب عن اعتراضها على مختلف قيم الحداثة كالتقدم والحرية والعقل والإقرار بفشل مشروع الحداثة الغربية، يندرج ضمن هذه النصوص النص الذي كتبه جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) بعنوان الوضع ما بعد الحداثي.
يغلُب على النصوص ما بعد الحداثية -خاصة كما طرحها ليوتار- طابع النقد الجذري لمشروع الحداثة، أن هناك توجهًا نقديًا للحداثة، أقل جذرية وأكثر تفاؤلًا بها من حيث قابليتها وقدرتها على تصحيح مسارها، بحيث يعتبر نفسه ممثلًا للفكر الحداثي داخل الفلسفة المعاصرة، ويأخذ هذ التوجه موقفًا نقديًا من أفكار ليوتار وتيار ما بعد الحداثة.
ويعد الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ( 1929- ...) من أهم الفلاسفة الذين عبَّروا عن هذا التوجه، والذي يدافع عن الحداثة بقوله إنها ماتزال المشروع الإنساني العقلانيالذي لم ينجز بعد. بحيث مثَّل مشروعه موقفًا منصفًا للدين، واعترافًا بارزًا بأهميته في المجال العام، مما يختلف كليًا مع أفكار فلسفة الأنوار ومؤسسي الحداثة في القرن التاسع عشر.
وتأتي هذه الحوارية كتجل واضح لهذا الاعتراف، والتي نجد فيها الفيلسوف الحداثي والفيلسوف اللاهوتي، جنبًا إلى جنب في حوار فكري ناضج، مقدمين اعترفات مهمة بصدد العلاقة بين الدين والعقل (العلم)، ومنتهيين إلى الاتفاق على العديد من القضايا المهمة والمركزية.
و نستطيع أن نلخص فكرة الحوراية كما عبَّر عنها الدكتور السيد ولد أباه، حيث يقول إن هابرماس يدافع عن الدولة العلمانية الحديثة القائمة على التقليد العقلاني الأنواري (شرعية استقلال الذات الراشدة والتصور الأداتي الإجرائي للقيم الاجتماعية)، بينما يتحدث راتسنغر عن الهوة المتفاقمة بين عقلانية تقنية جامحة خارج السيطرة وممارسة دينية صارت عقيمة؛ لأنها أقصيت من أطر الفاعلية.
وحتى نفهم مضامين هذه الحوارية، لا بد لنا من تقديم أبرز أفكار هابرماس؛ اشتهر هابرماس -وهو من رواد الجيل الثالث من مدرسة فرانكفورت- بعدة مصطلحات ومفاهيم حددت معالم فكره واتجاهه، ابتداءً بالفلسفة التواصلية إلى التعددية وحتى مفهوم المجتمع ما بعد العلماني.
تقوم أطروحته على سؤال أساسي: كيف نجعل من خطاب الحداثة إطارًا يضمن كلًا من الدين والعلم، فهابرماس يقدم أطروحته بعد رفضه لاتجاهين متعارضين سائدين في الساحة الفكرية في الغرب، الأول الذي يدعو لقطيعة مع الماضي ومع الأفكار الدينية، واستبدالها بأنماط أكثر عقلانية بحيث يتجه نحو الحداثة والتقدم، وهذا الاتجاه هو المؤيد للعلمانية، والثاني الذي يرفض الحداثة ويعتبرها انحدارًا يسير نحوه التاريخ؛ لأنها قطعت مع المنظور الديني، وهذا الاتجاه هو الاتجاه الديني المعارض للحداثة.
في مقابل ذلك، يعبتر هابرماس أن كلًا من التيار الديني والتيار العلماني ضروريان في هذه المرحلة التاريخية وفي واقعنا المعاصر، وعلى ذلك فعلى خطاب الحداثة -باعتباره المُشَكِّل للإرادة السياسية في الغرب- أن يحتضن الدين ولا يعمل على إقصائه عن الإدارة السياسية للمجال العام، وأن يكف عن حصره داخل البعد الروحي، وبالتالي فعلى العلمانية أن تحفظ مكانتها في مجتمع متعدد الطوائف.
ويؤكد في بحثه "الدين في المجال العام" على أهمية التسامح ضمن الثقافة الديمقراطية، وعلى ذلك فمطلوب من المؤمنين أن يتحلوا بالتسامح إزاء معتقدات الآخرين، ومن واجب العلمانيين غير المتدينين في المقابل أن يحترموا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم دافع ديني.
بل يعتبر أن العنف الناتج عن ممارسات الأصولية الدينية، موجه كرد فعل في مقابل ما سببته الحضارة الغربية من إقصاء وألم للتيارات الدينية.
والهدف من هذا التأسيس هو الوصول إلى "المجتمع ما بعد العلمانية"، وللوصول إلى هذا المجتمع، يجب على كل من العلمانية والدين تقديم تنازلات للوصول إلى أرضية مشتركة، فمن جهة، على العلمانية أن تتنازل عن المراهنة على زوال الدين، وأن تعمل على استنطاق عقلانيات الدين ومضامينه الإنسانية، والإقرار بأهميته داخل المجتمع، والاعتراف بأنها مدينة للدين بالكثير من ثوابتها ومفاهيمها التي شيدت القانون العقلاني المساواتي، فمفاهيم مثل الحرية والعدالة والمساواة لا تخلو من أصولها الدينية.
ومن جهة أخرى فعلى الدين أن يسعى نحو تجاوز التفاوت الفكري الذي يبرز عند الالتقاء بين الطوائف أو الديانات الأخرى، وعلى الوعي الديني أن يماشي سلطة العلوم، وأن ينفتح على أولويات دولة الحق الدستورية، بحيث تغدو مراكز المجال العام الديمقراطي موقعًا لمتابعة الصراعات.
بعد هذا التقديم حول أبرز أفكار هابرماس، نستطيع أن نشرع في الحديث عن أهم النقاط التي تحدث عنها في مداخلته ضمن هذه الحوارية، والتي اعتمد فيها على أفكاره التي ذكرناها.
يبدأ هابرماس مداخلته متسائلًا عن قدرة الدولة الليبرالية والعلمانية على أن تسوغ قيامها وتجدد نفسها بالرجوع إلى منابعها الخاصة المتمثلة بالعقلانية والديمقراطية؟ أم أنها تحتاج أن تستمد المشروعية والدعم من معايير خارج منظومتها وسابقة عليها، بحيث تكون هذه المعايير ذات طبيعة دينية أو ماورائية أو خلقية؟
وبعد مناقشة النظريات المختلفة المتعلقة بالمشروعية والحق والرابطة المجتمعية، يقدم شواهد تبين أن الروابط الوطنية يمكن أن تنعقد وتتجدد من خلال توسط السياسة نفسها، فهو يعتبر أن المواطنين مشتركون سويًا في صوغ الحياة الديمقراطية، ليس على مستوى الخضوع لقيود القوانين فقط، بل الانخراط في ديناميكية سياسية تنتج التماسك المجتمعي عبر المشاركة والفاعلية التواصلية.
إلا أن هابرماس لا يقطع بهذا الأمر، فهو يشكك في إمكانية نجاحه؛ لأنه لا يستبعد العوامل الخارجية التي يمكن أن تهدد المجتمعات الليبرالية والمعلمنة بالضعف، "ويمكن لتحديث منحرف في مجتمع ما أن يقوض الحبل الديمقراطي ويقضي على نوعية التضامن، الذي تتأسس عليه الدولة الديمقراطية، دون أن يكون في استطاعتها فرض هذا التضامن عن طريق القانون".
ويذكر هنا توقع بوكنفورد عن الحالة التي ستحصل، حيث سيتحول المواطن الذي يعيش في رفاهية وسلم إلى مواطن لا يفكر إلا في نفسه ومصالحه ضمن المجتمع الليبرالي، ويظهر هذا بشكل واضح في الانحلال وفقدان السيطرة الحاصل للاقتصاد العالمي والمجتمع العالمي.
فينتهي إلى الاعتراف بوجود أزمة في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، والتي تظهر في النزعات الفردية التي تغلب على القيم التي تشكل الإرادة العمومية، بالإضافة للخيبات الناتجة عن النزاعات والمظالم الاجتماعية لمجتمع عالمي آخذ في التفتت، وهذه العوامل وغيرها تسهم في تكريس التشرذم الاجتماعي وتعطيل مشروع الإندماج السياسي.
والأزمة التي تعيشها الحداثة لا تتوقف عندها فقط، وإنما تطال العقل الذي تأسست عليه، وذلك بإخضاعه للنقد، نقد مبادئه التنويرية وأسسه العلمانية، وبسبب كثرة التوجهات النقدية لمشروع الحداثة في الفترة المعاصرة، خاصة من قبل تيار ما بعد الحداثة ممثلًا بجان فرانسوا ليوتار، يظهر على الساحة الفكرية صوت جديد ينادي بالدين كحل وحيد لإخراج الحداثة من مأزقها؛ إلا أن هابرماس لا يتفق كليًا مع الطرح الأخير، فمن خلال نظرياته في المجتمع ما بعد العلماني والفلسفة التواصلية، يدعو هابرماس إلى ضرورة ممارسة النقد الذاتي وتعقل حدود كل طرف، وهذا النقد موجه إلى الطوائف الدينية والقوى العلمانية.
فيتوجب على العلمانية أن تبحث في أسسها العقلية وتعترف بالأصول الدينية للكثير من ثوابتها ومفاهيمها، وأن لا تسقط في خطر تمجيد الذات من خلال إنكار جذورها الأصلية. وعلى القوى العلمانية أن تعترف بأن للجماعات الدينية حقوقًا ومصالح ودورًا أساسيًا في البناء المجتمعي.
وعلى الطوائف الدينية في المقابل أن تتجنب "الدوغمائية" وأن تتجاوز الاحتكار الذي تمارسه على التأويلات والمحاولات الشاملة لتقديم معنى وقالب واحد للحياة، وأن يتخلى عن حق السلطة نظرًا لشروط علمانية العلم ومحايدة سلطة الدولة والحرية الدينية.
وفيما يتعلق بالاختلاف الدائم حول العلاقة بين الدين والعلم، فيتوجب على العلوم الدنيوية أن تعترف بالمكانة الإبستيمولوجية للاقتناعات الدينية، "فليس للتصورات الطبيعية، التي استفادت من طرق العلم الافتراضي في التعامل مع معطياته والتي تعتبر مهمة بالنسبة للفهم المكتسب بطريقة مفروغ منها عند المواطن، أية أسبقية كانت على حساب تصورات العالم الأخرى أو الفهم الديني للعالم".
وعلى ذلك، وبعد تحديث الوعي العام والوصول إلى صورة المجتمع ما بعد العلماني، "يمكن للمجتمع العلماني وللدين على حد سواء، إذا ما فهما علمانية المجتمع كصيرورة تعلم متكامل، أن يقدما مساهمتهما فيما يتعلق بالمواضيع التي يخلف عليها الناس".
فالعلمانية في نظر هابرماس هي صيرورة تعلم مشتركة يدخل فيها كل من العلمانية والديني في الشبكة من التواصل والحوار الفكري داخل إطار المجتمع ما بعد العلماني.
هنا تنتهي مداخلة هابرماس ليبدأ دور الطرف الآخر من هذه الحوارية، وهو الفيلسوف اللاهوتي جوزيف راتسنغر. انتُخِبَ راتسنغر عام 2005 خلفًا للبابا البولندي، واعتلى مركز البابوية باسم "البابا بندكت السادس عشر"، وقد عُرف راتسنغر بميله إلى الحوار حول قضايا الدين والعقلانية والتقنية ووضع المجتمعات الغربية، وعن انهيار المؤسسة الدينية وانحسار المعتقدات المسيحية، وقد حاضر في العديد من المواضيع المتعلقة بتجديد الدين المسيحي، والمقارنة بين الإسلام والمسيحية وغيرها.
ويتفق الباحثون على أن راتسنغر بدأ منفتحًا ومتجددًا في المجتمع الفاتيكاني الثاني، إلا أنه تحول في السنوات الأخيرة إلى وجه محافظ متشدد يتبنى أكثر المواقف الكنسية انغلاقًا، وأنه يسعى في اشتغاله الفكري نحو تجديد الإيمان المسيحي، وعن سبل تدعيم حضور المؤسسة الكنسية في المجال العام و في الحقل الاجتماعي والقيمي.
يبدأ راتسنغر مداخلته بتوصيف للمشهد الكوني متبعًا هذا التوصيف بمجموعة من الأسئلة الحرجة في المرحلة المعاصرة ، فقد طرأ على المشهد الكوني مجموعة من التحولات غيرت من صورة العالم وصورة الإنسان، ونرى هذه التحولات في عدة مظاهر أهمها: تشكل المجتمع العالمي وقد ازداد تداخلًا وتشابكًا بين قواه السياسية والاقتصادية والثقافية، وازدياد قدرة الإنسان على الدمار، وما تولد عنها من انتشار العنف والإرهاب، بالإضافة إلى مقدرة الإنسان على صنع البشر وإنتاجهم، هذه التغيرات تثير تساؤلًا مهمًا "حول كيفية اتفاق الثقافات المختلفة التي تعيش في مجتمع ما فيما يتعلق بالأسس الأخلاقية التي يتأسس عليها هذا المجتمع"، وما ينجم عن هذه الأسس من "شكل قانوني مشترك لنظام السطلة المشتركة التي تقودها".
بالإضافة إلى المظاهر السابقة، نجد أثناء التقاء الثقافات وتداخلها، عمليات تكسير للثوابت الأخلاقية، حيث يبقى السؤال عن ماهية الخير وضرورة تجاوز المصالح الذاتية دون جواب، حيث ساهمت التغيرات التي حصلت في العالم والتطورات الحاصلة في المعارف العلمية في القضاء على الثوابت الأخلاقية القديمة.
ومن باب صون هذه الثوابت، يحدد راتسنغر واجبًا للسياسة، متمثلًا بوضع السلطة وممارستها تحت وصاية القانون، "فالسلطة في النظام وفي خدمة القانون هي القطب المقابل للعنف، وهذا الأخير هو سلطة بدون قانون وضد القانون"؛ إلا أن هذا التحديد يثير تساؤلًا عن إمكانية قيام القانون بحيث يحفظ قيمة العدالة، من غير أن يتحول إلى امتياز لمن لهم سلطة تطبيق القانون.
وبالرغم من كون الضامن في التسيير العادل للسلطة هو المشاركة الجماعية في وضع القانون؛ إلا أنه لا ينفي إمكانية أن تكون الأغلبية الواضعة للقانون عمياء أو جائرة، فمبدأ الأغلبية الذي يتمثل في اتفاق الناس عن طريق التمثيل النيابي داخل النظم السياسية الديمقراطية، يطرح مشكلة الأسس الأخلاقية للقانون، التي تشير إلى وجود معيارية يجب احترامها من قِبل الأغلبية.
وفيما يتعلق بالسلطة، فلا بد لنا من مناقشة الأشكال الجديدة للسلطة والتي ظهرت في الفترة المعاصرة، ففي النصف الأخير من القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهر الخوف من القوة الهدامة للسلاح النووي، حيث أصبح بإمكان الإنسان القضاء على نفسه وعلى الأرض في لحظة واحدة، كان السؤال في تلك اللحظة يدور حول الآليات التي يمكن اتخاذها لتجنب هذا الهدم، وكيفية تشكيل قوة أخلاقية رادعة له؟
لكن، اليوم يظهر شكل جديد من العنف، فبحسب راتسنغر، فإن الإرهاب الذي يتغذى على التعصب الديني يعتبر سببًا أساسيًا للخوف في عالم اليوم، وهذا الواقع يطرح تساؤلًا حول إمكانية "اعتبار الدين سلطة مشفية ومنقذة أم سلطة قديمة وخطيرة تبني عوالم خاطئة وتقود إلى عدم التسامح والإرهاب؟".
إلا أننا نشهد في المقابل شكلًا جديدًا من السلطة في السياق العالمي تطرح نفسها كسلطة خيرة تحترم كرامة الإنسان، إلا أنها -ويبدو أنه يقصد سلطة النظام العالمي الجديد المستمدة من العلم- جعلت من الإنسان بضاعة، وأنزلته من مرتبته كهدية من الطبيعة أو من الله الخالق، واعتبرته نتاج نفسه.
وبقدر ما يطرح الإرهاب أسئلة محرجة للدين حول إمكانية أن يقدم قوة أخلاقية إيجابية، وعن إمكاينة اعتبار إزاحته ضرورة لتطور الإنسانية، بقدر ما يطرح الشكل الأخير من السلطة شكًا في صلاحية العقل، فالقنبلة النووية هي من نتاج العقل كم أن الاختيار الجيني هو من نتاجه أيضًا.
فمن يستطيع أن يضبط الآخر؟ و"ألا يجب على الدين والعقل أن يتكاملا ويلتزم كل واحد منهما بحدوده للوصول إلى طريق إيجابي مشترك؟"، والسؤال الأهم: كيف يمكن الوصول إلى بداهة أخلاقية يتفق عليها المجتمع الدولي، بحيث تمتلك قوة التطبيق والتحميس والقدرة على حل التحديات المعاصرة؟
وبعد طرح هذه الأسئلة، يتجاوز راتسنغر الحديث عن حقوق الإنسان ليصل إلى ضرورة الحديث عن "واجبات الإنسان"، فالأزمة التي طالت العقل والدين معًا لا تحل إلا بأن يقف كل من الطرفين عند حده للعمل بخصوصيته، وهذا الوقوف يدعوهما إلى الاعتراف بحاجة كل منهما إلى الآخر، بحيث تغدو مهمة كل منهما هي الحوار والتعلم والإفادة بصورة متبادلة.
ولا ينحصر هذا الاعتراف والحوار فقط بين القوى العلمانية والدينية، بل لا بد أن يقاد إلى أفق تعددي ثقافي، بحيث يتوجب على العالم الغربي بتراثه المسيحي والعقلاني الأنواري الاعتراف بالثقافات المختلفة، وأنه من اللازم عليه أن يعترف بأنه غير مقبول وغير مفهوم إلا في أجزاء معينة في جسم الإنسانية.
فراتسنغر يقر "بعدم كونية الثقافتين الكبيرتين للغرب، الثقافة المسيحية والثقافة العقلانية العلمانية، على الرغم من تأثيرهما في كل العالم وفي كل الثقافات".
هنا تنتهي مداخلة راتسنغر، ولعله من المثير أن نجد الفيلسوف المسيحي يتفق مع الفيلسوف الحداثي بقضية مهمة، تدعونا إلى القول بأن كلا الطرفين يمشي بخطاه نحو الآخر، وهذه القضية تتمثل بضرورة الاعتراف بالحدود وضرورة وجود الحوار المتبادل بين العقل والدين، والدعوة المشتركة إلى وجود مجتمع تعددي يتفاعل جميع أطرافه في المجال العام، ضمن أفق الحوار والتواصل، وتحت اسم "المجتمع ما بعد العلماني".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.