قال محمود درويش فى قصيدته بإسم تلك المدينة العسجدية المضطربة على الدوام: (جئنا إلى بيروت….كي نأتي إلى بيروت.) وأراني أكتب كي أكتب، for the hell of it، على الرغم من أن الشعراء لم يغادروا أي متردّم، ورغم أنا معشر المعارضين بالخارج ظللنانكتب منذ ربع قرن tenaciouslyولم نصل إلى بسطام، فما زال النظام يعمل لدنياهwith similar tenacity كأنه يعيش أبداً، ولا يعمل لأخراه البتة، ويبدو واثقاً من نفسه، بعد أن وضع جل معارضيه فى جيبه. وعندما ذهبت للسودان قبل بضع أسابيع وجدت أن معظم الناس لم يقرأوا ما دبجناه بالصحف الإلكترونية، إذ ما برحوايصارعون الحياة ويكابدون الرزق يوماً بيوم، وتفتك بهم الملاريا والعلل المستوطنةوالأزمات الإقتصادية وتصاريف الأيام وصبابة العيش التى طففتها الأيام تطفيف بخس (على قول البحتري)؛……. حتى ضابط الأمن الذى حقق معى لنيف وساعتين بعد أقل من إثنتي عشر ساعة من وصولي، لم يسمع بى من قبل، (أو هكذا ادعى ليقلل من شأني)، وقال إني أدرجت بالقائمة السوداء فى 15 يناير من هذا العام – على الرغم من أنى ظللت أكتب ضد هذا النظام منذ تلك الصفحة بجريدة (الوفد) المصرية التى كان يحررها معتصم حاكم فى مطلع التسعينات، مروراً ب"الإتحادي الدولية" الصادرة من القاهرة لساناً لحال التجمع الوطني الديمقراطي، وكذلك بالصحف الخليجية، خاصة (أخبار العرب) التى كان لى فيها باب ثابت كل جمعة لعدة سنوات بدءاً من 2003، ثم الصحف الإسفيرية منذ أن ظهرت للوجود حتى الآن،Sudanile, Alrakoba, Huriyyat, Sudaneseonline, ، بالإضافة للحضور المتكرر فى حوارات البرامج الإخبارية بالعديد من القنوات الفضائية………فهل ياربكنا ننفخ فى قربة مثقوبة؟………..أم أن جهودنا "بندق فى بحر"؟ على كل حال، أجدني أكتب بحكم العادة، أو ربما للتاريخ، أو ربما عملاً بالحديث الشريف: من رأى منكم مكروهاً فليزله بيده، وإن لم يستطع فبلسانه…وأراني أعمل "اللسان" المقروءوفق هذا المنهج، كمساهمة متواضعة فى نشر الوعي، وذلك لعمري جهد تراكمي طويل الأجل، (كنقّاع الزير)، سيكون له أثر مفصلي طال الزمن أمقصر، عندما يتحول الكم إلى الكيف،……بيد أن ذلك يستوحب صبر سيدنا أيوب عليه السلام. وقد انسلخ من عمري شهر إبريل المنصرم كله فى السودان، مشروخ النفس ومحزون الفؤاد بجوار شقيقي عبد السلام الذى يصغرني بست سنوات، والذى كان طريح مستشفى سليمان فضيل – إلى أن تدهورت حالته وأدخل العناية المركزة، وبعد أربعة أيام فاضت روحه الطاهرة بكل هدوء، عليه رحمات المولي عز وجل بلا حدود، وجعل الله البركة فى ذريتهوفى نسله إلى يوم الدين. وقد تجمّلنا بالصبر لما تذكرنا أبا الطيب:"فالموت آتٍ والنفوسُ نفائسٌ"…..، أي أنها ودائع "عارية" من رب العالمين…يستردها كيفما وحينما يشاء، ولا راد لقضائه. وقد خففت علينا المصاب مثل هذه المعاني الأزلية السامية، بالإضافة للمواساة الدافئة واللصيقة من أهلنا القنتّاب الذين تقاطروا علينا من ذلك الصقع النائي عند منحنى النيل قبل أن يتجه شمالاً صوب مصر، ومن سنار والحصاحيصا ومدني وغيرها، ومن زملاء المرحوم بوزارة الري، ومن كافة الأصدقاء والجيران والمعارف؛ فالسودانيون كما عهدناهم دائماً وأبداً أهل عواطف جياشة وحناندافق ومروءة لا تنضب وشهامة ونخوة لا مثيل لها فى كل العالم. ومنالطرائفالتىأزالت عنا الكآبة،أن كنانفراًقليلاًنجلسفىالصباحالباكرأمامصيوانالعزاءباليومالثالث،وعلىمسافةمناجلسإثنانمن المعزّين -أحدهمامتمنطقبالعمامةالناصعةالبياضوالشالالمرتب.فجاءأحدالمارةيسأل: صحىفىبكاهنا؟فأجابهأحدالجالسين: أبداً. هنافىصناديقتصويت،والقاعدهناكأبوعمةوشالدهالمرشح. فقفزالرجلكالملدوغ: لالا ! أنامقاطع. فسألوه: عزاءمنتريد؟وأجاب: أناواللهماعارفالميتمنو،لكنبسجايىأصنقرمعاكمشوية،أفطروأمشى. فرحبوابهأيما ترحيب وأكرمواوفادتهحتىالثمالة،وانصرفلايلوىعلىشيء. وحيث أن السياسة لم تفارقنا ونحن فى بيت العزاء، فقد كان موضوع الساعة بالنسبةللسابلة القادمين من كل فج عميق هو الانتخابات التى صادفت تلك الأيام؛ وأجمع كلهم تقريباً على أن السودانيين قاطعوها بشكل حاسم وصارم، أي أنهم صوتوا بأرجلهم رافضين لها جملة وتفصيلا. وإذا سألت عن السبب يقولون لك :(فيها إنّة)، فقد جاءت فى الوقت الخطأ، وكان يجب أن تتم تتويجاًللحوار الوطني الذى دعت وروجت له الحكومة منذ أكثر من عام، والغرض من ذلك الحوار هو إشراك كل القوى السياسية فى الأمر، وتوافقها على وثيقة جديدة جامعة –استلهاماً واستكمالاً لوثيقة القضايا المصيرية التى تمخض عنها مؤتمر التجمع الوطني الديمقراطي فى أسمرا، يونيو 1995 – ويعنى ذلك فيما يعني انتخابات جديدة تشارك فيها كل القوى السياسية، قبل أو أثناء أو بعد المرحلة الانتقالية المتفق عليها. أما أن تتهافت الحكومة وتتثعلب وتتكالب على انتخابات رئاسية وبرلمانية غير متفق عليها و(مكلفتة، مثل جنين سفاح دفن بليل)،فذلك يعني أنها لا تأخذ الحوار مأخذ الجد، أو أنها قد نسيته فى غمرة سكرتها بالسلطة التى لم تفق منها حتى الآن، أو غمرة نشوتها بالمباركة التى حصلت عليها من السعودية ودول المحور المناوئ للإخوان المسلمين مؤخراً،…أو أنها من الغرور بحيث ترى أنها تستطيع أن تتلاعب بأهل السودان كيفما تشاء،…أو أنها أساساً تحكم بالحديد والنار – ولا تحتاج لأحد يمنحها مشروعية – وما شعارات الديمقراطية التى تطلقها بين الفينة والأخرى،مثلما فعلت عندما وقعت اتفاقية نيفاشا فى يناير 2005، إلا مجرد كذب ومزايدات ومناوراتوتكتيكات مخادعة – كتلك التى دأبت عليها الأنظمة الشمولية بالمنطقة، أيام المشير جعفر نميري، وفى مصر السادات ومبارك، وليبيا القذافي، وعراق صدام،وسوريا البعث. وعموماً أجريت الانتخابات، وفاز الرئيس بنسبة 94% – بكل قوة عين،…ويبدو أن هناك لاعبين مؤثرين بالمنطقة صارواينظرون لنظام البشير بعين الرضا، خاصة السعودية ومصر، فيما بعد اشتراك نظام البشير فى "عاصفة الحزم"، أو بسبب صفقات معينة متعلقةبمياه النيل وسد النهضة الإثيوبي، أو متعلقة بالاستثمارات الضخمة فى استصلاح البيداء السودانية وزراعتها بالأعلاف والقمح. وعندما حلقت بي الطائرة القادمة من دبي فوق البطانة كان ملفتاً للنظر اتساع مزارع الري بالتنقيط الدائرية والمربعة والمستطيلة الخضراء على طول المسافة بين نهر عطبرة والنيل، كأنها هبطت فجأة من السماء؛وما كنا نحسبه فى طور المفاوضات، بانتظار التشريعات الاستثمارية المناسبة، أصبح أمراً واقعاً منذ وقت مبكر، (أم غمتّي)، قبل أن يسمع به بنات عمه -أهل الأرض الحقيقيين. وأذكر أني كتبت مقالاً قبل عامين فى الصحف الإلكترونية بعنوان (نهب الأراضي السودانية– 15 أبريل 2013 –Sudaneseonlie)، محذراً من الصفقات المريبة التى تتم مع الرأسماليين العرب والمصريين المشبوهين، بعيداً عن أصحاب المصلحة المحليين وعن الرأي العام الرقيب والصحافة الحرة؛ وقد هاتفني أحد أبناء الشكرية من السعودية (ولا أدرى من أين حصل على رقم تلفوني) متسائلاً: "ياأستاذ، إنت قلت فى اتنين مليون فدان اشتراها السعوديون من أرض البطانة……الكلام ده صح؟"فقلت له إن المعلومات المنشورة بالمواقع والدوريات تقول بهذا الكلام. فروى لى نكتةً: "مرة فى شكرى جا المحكمة شاهداً فى قضية. قالوا له: أحلف برب السموات السبع والأراضى السبع. فأقسم بالسموات السبع ولكنه قال إن الأراضي ست فقط. قالوا له: كيف ذلك ياأخ العرب؟ فأجابهم: السابعة دى البطانة. علي الطلاق الله ما عنده فيها شبر." وأقسم لى أنهم (قوم أبو سن) وأبناء عمومتهم البطاحين (قوم أبو حريرة) سيستردون كل هذه الأراضى فى يوم من الأيام، إذا هي فعلاً بيعت من قبل الحكومة دون مشورتهم. وعلى الرغم من أن السودانيين قد تجاهلوا الانتخابات بصورة لا تخطئها العين، تبدو الحكومة غير منزعجة، وسادرة فى غيها رغم أنف المعارضة، متظاهرة برباطة الجأش -فهي تعول كثيراً على سطوتها الأمنية التى جربتها فى سبتمبر 2013، عندما حصبت المتظاهرين السلميين بالذخيرة الحية،shoot to kill، ولم ينجم عن تلك المجازر أي مساءلة أو احتجاجات أو قضايا تعويض، ومرت المحنة كسحابة صيف تقشعت وتبخرت إلى غير رجعة. وما زالت أجهزة الأمن تمثل دور ال BIG BROTHER المهيمن على الشارع السوداني. وأذكر أني سألتالأستاذ فاروق أبو عيسي عندما زرته بمنزله بضاحية الرياض بعد إطلاق سراحه: " من يحكم السودان يا مولانا؟ أي اللوبيات وأي الأسر وأي القبائل وأي الزوجات؟" ………….فأجابني بلا تردد، بكلمة واحدة: "الأمن." ولقد استضافني هذا الجهاز المهيمن الجبار مرتين فى أول يومين لى بالخرطوم؛ استوقفوني لبعض الوقت بالمطار، وأفرجوا عنى بعد وساطة شديدة اللهجة من قريب لييعمل بالمطار….رجاهم أن يتركوني أذهب لمعايدة شقيقي بالمستشفى، ملتزماً بأن يحضرني لهم فى العاشرة من صباح اليوم التالي بمكاتبهم بموقف شندى بالخرطوم بحرى. وقد التفت نحوي ضابط أمن المطار قائلاً بكمية هائلة من التعالي: "طبعاً بتعرف مكاتبنا فى بحري؟ لا بد أنك زرتنا قبل كده؟" فقلت له: (لم يحصل لي الشرف، ولكني سمعت بها، كما سمع بها أناس كثيرون غيري). فقال: "غريبة! غايتو، مرحباً بك فى إدارة الشؤون السياسية والاجتماعية، وكده." وصادر جوازي وهاتفي النقال، (ولم يرجعوهما لي إلا بعد عشرة أيام). وفى مكاتب موقف شندى تم التحقيق معى فى اليوم التالي حول أنشطتي السياسية والفكرية عبر الإعلام أثناء إقامتي التى دامت لربع قرن كامل بالإمارات العربية المتحدة. ولم يخل الضابط المحقق من بعض الكياسة والتهذيب، ولكن الأسئلة كانت ركيكة وبيروقراطية ومملة: ما اسم أمك وخالاتك وأخوالك وأعمامك وإخوانك وأبنائك وأصدقائك…إلخ؟ وأسئلة أخرى كثيرة لو كان لديه قوقل لوجد الإجابة عليها، فلا أدرى لماذا أضاع وقته ووقتي ووقت الحكومة السنية؟ وبعد حوالي ساعتين أخلوا سبيلي، وامتطيت "أمجاداً" مهترئة حملتني إلى مستشفى فضيل. مهما يكن من أمر فإني لا أريد أن أسهب فى مسألة توقيفي بجهاز الأمن، لأني لا أريد أن أدعى بطولة فى غير موضعها، وهي مجرد سويعات، بينما بقي صديقي الأستاذ فاروق أبو عيسي بصحبتهم لعدة شهور – وهو شيخ ثمانيني، لم يرتكب جنحة غير موقف وطني مشرّفمتعلق بتوحيد كلمة أهل السودان للخروج من النفق المظلم الحالي. والمهم فى الأمر هو شأن السودان: ما آلت إليه الأوضاع، واحتمالات التغيير السياسي: سلمياً….أو بالوسائل الأخرى، حسبما سمعت ورأيت منذ أول إبريل: هدوءٌ،ولكنهعاصفةْ. هدوءٌ، وفيصمتهالكاظممنغيظه قنبلةٌناسفةْ. هدوءٌ، يهندسفيالسرِّ ذرّاتِوثبته، ومجرّاتِثورته، واكتساحَجحافلهالجارفةْ. هدوءٌ يدَمْدِمُغَضْبتَهُ،ويُكوّرُقَبْضَتَهُ ويدوْزِنُأوتارَحناجرِهِالهاتِفةْ. هدوءٌ، يسطّراشعارمسيرتهالعارفةْ ويرتّبُللنصرعبرصفوفكتائبهالزاحفة. هدوءٌ، يكدّسالرعدَوالبَرْقَضمّادةً فوقشرايينهالراعفة. هدوءٌ، ليملأعينيهمنخناجرجلادهالنازفةْ. هدوءٌ، يُحَفّزُخَيْلَالوُثُوبِ، بِمِهْمَازِهَبّتِهالهادفةْ. هدوءٌصَمُوتٌليكبُتثرثرةَالمُرْجفينَ، ويَفْضَحُعُرْيَالمُرائين، علَىوَهْجِنيرانهاالكاشفةْ. هدوءٌ، يُخاتِلُعُذْرَالتأنِّي، وغَدْرَجَلاوِذَةِالأمْنِ، إفْكَالدجاجلةالملتحين، ذويالسحنةالزائفةْ. هدوءٌ، وتحسبههدْأةالموت، لكنّهاالآزفةْ، ستتْبعُهاالرادفة. فلاهجعتتلكمُالأنفسالخائراتُ ولاوهنتجذوةُالرفضفينا، ولانامتالأعينُالخائفةْ. (2) ياسهادَالدفاتِرِفيليلةالصَّمْتِ، والشعراءُالخليّونَناموا. ياصراخَالقوافِيالحبيسةِمابيناقلامِهم، واصْطِخابِمحابِرِهِمْ،حيثقاموا. ياارْتِعاشَالتَّمَرُّدِفيالدمِّيغلي، فلايستقرُّإلىأنيقرَّالسلامُ. إلىأنْيًقامَالقِصاصعلىساحةٍالعَدْلِبالْقِسْطِ، لايَتَفَلَّتُجانٍ، ولايعْتَرِيالمُنْصِفينانْهِزامُ. هدوءٌ،يُبَدّدُوحشَتَهُ، ويُحَدّدُوجْهتَهُ، ويُزَلْزِلُعرْشَالبُغَاةِ،يَدُكُّصَياصِيَهُمْ، حيثحَلّواوحيثأقاموا. هدوءٌ،تبرْكَنَيغلي، يُؤَكِّدُأنَّالطواغيتَوَهْمٌ، وأنَّدمَالأبْرِياءِحرامُ.والسلام.