أقرت حركة النهضة الإسلامية أنها حكمت البلاد إثر فوزها في انتخابات 2011 "بلا رؤية" واضحة في التعاطي مع الشأن العام و"بلا خبرة" سياسية في كيفية تسيير مؤسسات الدولة. وشددت على أن من أهم التحديات التي تواجهها خلال المرحلة القادمة هو "تحدي الانتقال الديمقراطي" وأن السؤال المطروح هو "كيف تكون النهضة حركة ديمقراطية؟". وجاء هذا "الإقرار" الصريح الذي لم تتحدث عنه الحركة الإسلامية سابقا خلال إحيائها السبت للذكرى 34 من تأسيسها اختارت له شعار "حركة النهضة: أفكار ومؤسسات" شاركت فيها قيادات الحركة. وتأسست حركة "الاتجاه الإسلامي"، النهضة حاليا في 6 جوان/حزيران 1981، وقدمت نفسها أنذاك على أنها حركة اجتماعية سياسية تتبنى المرجعية الإسلامية للمشاركة في الشأن العام من أجل إصلاح المجتمع والدولة في مواجهة نظام الزعيم الحبيب بورقيبة التي ترى فيه نظاما علمانيا جرد تونس من هويتها العربية والإسلامية وأيضا لمواجهة اليسار التونسي الذي ينشط في البلاد منذ العشرينات من القرن الماضي. واعتبر رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي إن إحياء الذكرى 34 لتأسيس الحركة لحظة تاريخية هامة في مسارها، لافتا إلى أن "النهضة مرت بجسور ومحن بين لحظة التأسيس في 6 جوان 1981 حتى هذا التاريخ". واشار إلى أن "مسيرة الحركة ارتبطت بتاريخ تونس و لم تعد ملكا للنهضويين فحسب، بل هي ملك لجميع التونسيين" في رد على خصوم الحركة التي يعتبرونها حركة إخوانية مرتبطة بالتنظيم الدولي للإخوان، وليست حركة تونسية مرتبطة بخصوصية المشهد الفكري والسياسي التونسي. واعترف الغنوشي بأن الحركة "سجلت تطورات هامة في مسارها وكذلك في مسار البلاد" وبأن "مشروع النهضة لم يولد مكتملا وظل يتطور وفق متغيرات ومقتضيات الواقع" المحلي والإقليمي والدولي. ضرورة المراجعات والتنازلات وفي حين اكتفى الغنوشي بالحديث عن مسار النهضة والتأكيد على أنها "تأسست للاستجابة لتطلعات التونسيين في العدالة الاجتماعية والتنمية والتوازن بين الجهات"، أثار عدد من قيادات الحركة التي تتحسس خلال هذه الفترة "المراجعات والتنازلات" التي يفرضها الواقع التونسي، وكذلك المحيط الإقليمي والدولي خاصة بعد انسداد الآفاق السياسية أمام الإخوان في أغلب البلدان العربية وفي مقدمتها مصر، أثارت تلك القيادات السبل الكفيلة ب"تموقع النهضة" في الخارطة السياسية فقد شدد نائب رئيس الحركة عبدالحميد الجلاصي على أن "المطلوب اليوم من النهضة هو وجود سجال لتغيير الأوعية النهضوية حتى يتسنى لها استيعاب تغيرات الواقع" وهو إقرار واضح بأن الحركة الإسلامية لم تستوعب بعد تضاريس الخارطة السياسية التونسية ذات المسحة اللبيرالية والعلمانية التي تتوجس كثيرا من مشروع الإسلام السياسي وترى فيه إمتدادا لأجندة خارجية أكثر منه مشروع يستلهم ملامحه ورؤاه من من طبيعة المجتمع التونسي. ودعا الجلاصي إلى ضرورة تحقيق النهضة لنقلة "من حركة تبشير إلى حركة تدبير"، ملاحظا أن الحركة تواجه اليوم تحديات الانتقال الديمقراطي. وشدد على ضرورة استخلاص الدروس من تجربة حكمها خلال عامي 2012 و2013، ملاحظا أن "استخلاص الدروس من التجارب الماضية يتم عبر التحلّي بالشجاعة الكاملة في تفعيل النقد الذاتي داخل الحركة وكذلك عبر تفحص المكونات الفكرية للمشروع النهضوي والاستجابة لمتطلبات المجتمع". ويبدو أن خطاب الجلاصي المتنفذ تنظيميا، يعكس موقف تيار داخل الحركة يطالب بإجراء مراجعات جذرية باتجاه "دمقرطة" النهضة وإطلاق حزب سياسي مدني ينأى بالحركة عن مصير إخوان مصر ويقود خلال الفترة القادمة جهودا تكون كفيلة بكسب ثقة السياسيين والتونسيين حتى يتسنى لها التموقع من جديد في المشهد السياسي التونسي. وذهب الجلاصي إلى أبعد من ذلك حيث شدد على أن السؤال المطروح هو كيف تكون النهضة حركة ديمقراطية، لافتا إلى أنه "من المتوجب اليوم أن تصبح القضايا الوطنية هي قضايا الأحزاب وليس قضايا الأحزاب هي قضايا الوطن" وهو رأي يتناقض تمام التناقض مع طبيعة مشروع جماعات الإسلام السياسي التي تسعى إلى تجسيد برامجها النظرية في الواقع. تحديات ويؤشر حديث الجلاصي على أن النهضة تواجه تحديين أساسيين في منتهى الخطورة ويتوقف مستقبلها على التعاطي معهما وفق رؤية جديدة تقطع مع مسارها خلال 34 عاما عن تأسيسها. يتمثل التحدي الأول في "انتهاج سياسة ديمقراطية" سواء في التعامل مع كوادرها وقواعدها التي تتذمر من "القرارات الفوقية" أو في التعاطي مع الأحزاب السياسية العلمانية واليسارية، وهي أحزاب لها ثقلها في البلاد واستماتت في معارضتها خلال فترة حكمها وأجبرتها عن التنحي عن الحكم في بداية عام 2014 بعد أن دخلت البلاد في أزمة سياسية حادة. أما التحدي الثاني الذي تواجهه النهضة ، فهو أشد وأخطر لأنه يتعلق بمشروع النهضة كحركة إسلامية، ويدعو إلى مراجعة جذرية تجعل من قضايا التونسيين ومشاغلهم "مضمون برنامجها"، وهو ما يعني القطع مع برنامج الحركة الذي يجعل من برنامجها الإسلامي قضية تونسية الأمر الذي يعني سياسيا الكف عن إسقاط مشروع الإسلام السياسي على المجتمع والدولة بعد أن أثبتت الأحداث استحالة نجاح عملية الإسقاط. ويرجع المحللون فشل النهضة في الحكم إلى ما يقولون "العقلية المقلوبة"، ملاحظين أن الحركة مارست سنتين من الحكم وفق موقف مسبق يقضي بترويض مؤسسات دولة ذات مسحة علمانية على مشروعها الإسلامي والحال أن من يتسلم الحكم عليه أن يكون قابلا مسبقا لترويض مشروعه من قبل مؤسسات الدولة لا العكس". ويضيف المحللون أن الدولة التونسية التي تأسست مند العام 1705 على يد الحسين بن علي وتحولت إلى فاعلا إستراتيجيا في الحياة العامة منذ عام 1956 تاريخ استقلال تونس على الاستعمار الفرنسي بدت عصية عن أي عملية تطويع لمؤسساتها من قبل النهضة وهو العامل الحاسم في إنهاء حكمها. ويتطابق رأي المحللين مع إقرار النهضة ذاتها بأنها واجهت صعوبات في تسيير دواليب الدولة حيث أعترف الصحبي عتيق القيادي في الحركة والمتخصص في القانون بأن "عامل الخبرة لدى كل من وزراء و نواب الحركة كان مفقودا" خلال فترة حكمها. ولم يتردد عتيق في الإقرار أيضا بأن النهضة حكمت في "غياب رؤية وتصورات الحكم لدى النهضويين"، ملاحظا أن "انعدام الخبرة و التجاذبات السياسية اللذين وسما فترة حكم النهضة قد خلقا تململا في البلاد نظرا للغموض الذي طبع تلك المرحلة". مستقبل النهضة ويقول المراقبون إن مستقبل النهضة في تونس يتوقف على مراجعات جذرية لا سياسية فقط وإنما فكرية أيضا، مراجعات تقطع مع حلم مشروع الإسلام السياسي الذي تمزق نسيجه خلال السنوات الماضية في عدد من البلدان العربية وفي مقدمتها مصر مهد التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. غير أن المراقبين يلاحظون أن هكذا مراجعات قد تكون صعبة على النهضة التي استماتت خلال 34 عاما في الدفاع عن هويتها الإسلامية مشددين على أن "إعلانها عن حزب سياسي" قد لا يقود الحركة إلى التموقع من جديد في الخارطة السياسية في ظل تدني ثقة التونسيين في الأحزاب السياسية عموما مقابل ارتفاع ثقتهم في مؤسسات الدولة. وكانت أحدث عملية سبر للآراء أظهرت أن مؤسسات الدولة تحظى بنسب عالية من ثقة التونسيين، فالمؤسسة العسكرية تحظى بثقة 96 فاصل 6 بالمائة، والمؤسسة الأمنية تحظى بثقة 82 فاصل 6 بالمائة، ورئاسة الجمهورية تحظى بثقة 61 بالمائة بينما لا تحظى الأحزاب سوى بثقة 29 فاصل 8 بالمائة. غير أن ارتفاع منسوب الضغط المحلي الذي تمارسه الأحزاب العلمانية والضغط الإقليمي سيدفع بالنهضة إلى "إجراء مراجعات وتنازلات أمر من العلقم" خلال مؤتمرها المزمع إجراؤه خلال الخريف القادم في مسعى للحفاظ على كيانها السياسي بعد أن تجرعت مرارة هزيمة الإخوان في مصر وتصنيف عدد من البلدان العربي لتنظيم الإخوان تنظيما إرهابيا. وتبدو دعوة راشد الغنوشي للناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية ذات التوجه اليساري حمة الهمامي للحوار مؤشرا جديدا على أن الحركة الإسلامية بصدد الاستفادة من المراجعات والتنازلات بما في ذلك إذابة الجليد بينها وبين اليسار التونسي التي لا يرى فيها سوى حركة دينية وفرع من فروه التنظيم الدولي للإخوان ويرفض رفضا مطلقا التنسيق معها في أي شأن من شؤون البلاد بناء على الاختلافات الجوهرية فكريا وسياسيا.